رسالة السر المختبي في ضريح سيدي ابن عربي
للشيخ عبد الغني النابلسي
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، العالم بمـا في الـصدور ، الباعـث عـبـاده في يوم الحشر والنشور من أجواف الوحوش وحواصل الطيور ، والصلاة والسلام على سيدنا محمـد الـذي أنـزل الله تعالى عليـه : « إِنَّ اللَّهَ يُسمِعُ مَن يَشاءُ وَما أَنتَ بِمُسمِعٍ مَن فِى القُبورِ » [ فاطر : ۲۲ ] ، ورضوان الله تعالى على آله بالأنوار وأصحابه بالحقائق والأسرار ، وعن التابعين لهم بإحسان ما تعاقب الأدوار ، وما اختلف الليل والنهار.
أما بعد :
فيقول عبد الغني النابلسي شمله الله تعالى بنفحاته العلية ، وعم بركاته في حضرته السنية هذه نسمته من حدائق الغيب ، ونفحته ترفع من أنوف القاصرين زكام الريب ، شرحت فيها بعض ما فتح الله تعالى علي به في مقام الإلهام حيث لا إشارة ولا كلام ، وهذا نظمي في ذلك على البديهة ببيتي داخل الشام :
قبر محيي الدين من أسنى القبور
وهـو للـصائـل نـار وهـو نـور
والذي يأتيـه مـوسـى مـشرب
خاطب الحق بأنواع الحضور
لا تقـل نـارا فمـا النـار سـوى أنت
واخرج عن تأويل الظهور
جـامع أعـلاه والـرفض غـدا
تحته والنهـر مـن أبــي النهـور
وهـو في الحـضـرة مـا بيـنهما
أسفل بل هو في أعـلى القصور
والطريق الفقر والذلـة في
ذاك والـكـل عـلى بـدر يدور
فتأمـل مـا منحنـاك بـه
من علـوم هـي ولـدان و حـور
■ ألهم الله تعالى الشيخ الكامل ، والعالم العامل ، وسلطان المتحققين ، وبرهان الموحدين ، وحجة الله تعالى في جميع العارفين في كل وقت وحين إلى يوم الدين ، البحر العباب ، وبيته الكريم الوهاب محيي الدين ابن علي العربي الحاتمي الطائي قدس الله تعالى روحه ، ونور ضريحه ، أن يسكن دمشق الشام بعد أن طاف البلاد ، وخالط العباد بسر فهمه من قول النبي ﷺ : «عليكم بالشام » ، لا تقدر أن تفهمه العوام ، والإشارة خفية في قوله ﷺ : « ينزل عيسى ابن مريم عليه السلام على المنارة البيضاء في دمشق ، فيقتل الدجال ... » " الحديث المشهور بين أهل الإسلام ".
■ ثم إنه رضي الله عنه ونور مرقده ، قضى نحبه ، وانتقل إلى جوار ربه ، ولله در التهامي في هذا المعنى السامي:
جاورت أعداء لي وجاور ربه
شـتان بـيـن جـواره وجـواري
■ ثم كان من الحكمة الإلهية والأسرار القدسية أن دفن في سفح جبل الصالحية ، وقبره الآن هناك معروف يزار، ويا له من قبر شريف مملوء بالمعارف والأسرار ، فهو الخزانة المحبوبة ، والمدينة العلمية البهية ، بابها مفتوح على أهل الفتوح .
■ فاسمع يا أيها المؤمن بالغيب الأقدس في الليل إذا عسعس ، أشرح لك تكوين قبره الشريف ، وأنبئك على أنه محير لأهل الزيغ ممن لا يسلم الأمر لله الخبير اللطيف .
■ فإنه مدفون في تربة منحدرة عن جبل قاسيون بعض الانحدار ؛ لأنها في قلب هذا الجبل المبارك ، والمعرفة في القلوب لا الأفكار ، ورحم الله تعالى السلطان ابن عثمان المسمى سليم خان - سلمه الله تعالى من الانتقاد على أهل اليقين والإنكار – فإنه عمر مدرسة مباركة عليه ، ورتب على الفقراء هنالك صدقات جارية ، وذلك حين دخوله إلى دمشق الشام ، لما أخذها من يد السلطان الغوري بإذن الملك العلام .
¤ فاقتضت الأسرار الإلهي والحكمة الربانية أن بني قبر الشيخ رضي الله عنه ونور ضريحه في وسط الجامع ، ينزل إليه القاصد بنحو سبع درجة أسفل من أرض الجامع ليس كما يعهد في المدافن والمساجد .
¤ ثم إنك إذا نزلت من طرق خارج المسجد لضيق به من الجانب اليمين ، وصلت إلى روضة خضراء شق وسطها نهر من ماء معين .
ثم إذا دخلت تلك الروضة وجدت قبر الشيخ رضي الله عنه ونور مرقده ، أعلى ما يكون بعكس حالتك وأنت في المسجد الجامع المصون ، وفي هذا الشأن العجيب سر غريب تأمله بعين الاعتبار إن كنت من أولي الأبصار ، وما ذلك السر المغلق إلا حضرة إجمال المطلق يتحير فيه الغافلون ، ويهتدي إليه العارفون { ن والقلم وما يسطرون} [ القلم : 1 ] .
¤ فمن دخل المسجد ودخل المحراب لم يعرف هذا السر الذي اختبئ عليه بقصده فحبس خلف الباب ، ولهذا يرى الداخل مقام الشيخ الأكبر أسفل منه دائما هو مقام نفسه إلا حقر ظهر له في النور إلا قهره ، ومن أجل هذا لا يفهم شيئا من الكلام الحق في حضرة الصدق ، وظن أن ظلمات الأفكار والنفوس على أنوار حضرة العروس ؛ فطرد من البيت لأنه ليس من أهله كل شيء راجع إلى أصله ، ومعرفة كيفية العمل بالمطلوب ليست هي معرفة العمل المرغوب .
فيا أيها العبد المفتون ، لا تغفل عن حقيقة { كن فيكونُ }قال تعالى : { وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون } [ يوسف : 106 ] وقال تعالى : { لننظر كيف تعملون } [ يونس : ١٤ ] .
فافهم أولا يا أيها الفقيه ما يشير إليه النبيه ؛
▪︎ وتحقق بنفسك التي تعمل بها ، فإنه يزول عنك المسجد والمحراب ، وتجد الشيخ رضي الله عنه ونور مرقده في حضرة العلو والاقتراب لا في حضرة السفل والحجاب .
▪︎ وتواضع في هذا المقام السامي ، وخذ على جانب المسجد اليمين في الركن الشامي ، وادخل من جانب الطور الأيمن إلى البقعة المباركة من الشجرة الموسوية ، وخذ ما خرج لك وكن من الشاكرين للحضرة الحقيقية ، ثم المحيوية ، واكرع من ذلك النهر العذب .
ولا تشتغل بالمعرفة عن الرب ؛ فإنك تجد إن شاء الله تعالى مقام الشيخ أعلى المقامات ، ومنزلته من أفخر المنـزلات .
▪︎وانشق من ذلك الروض نسمات القبول ، ولا تخش من كلام حاسد مغرور بأنواع الفضول ؛ فإن النور لا تعرفه العميان ، وأي فضيلة لك إذا كنت تقلد في المدح والذم كل إنسان ، فإن الحمار يحمل الأثقال ، ولا يعرف الفرق بين ما حمل من الزبل والمرجان ، وبالله المستعان .
¤ فمن دخل من باب العبادة والصلاة بنفسه ، لغفلته عن شهود ربه وآثار عقله و حسه ، فهو شرك بلا شعور .
فكيف يصل إلى أعلى منازل القصور ؟! وهو عن معرفة أهل الله تعالى في غرور.
¤ ومن دخل من باب العبادة والصلاة من الطريق الأيمن وتواضع لربه فانحدر في ذلك المسلك الأبين ؛ فإن أهل المسجد لا يشربون الماء إلا من تلك الروضة بذلك الدولاب ، وأما أهل الروضة فلا يحتاجون إلى ماء المسجد والمحراب .
ويدخل إلى المسجد المعتقد والمنتقد ، وأما الروضة فلا يدخلها إلا المعتقد وقلت في هذا الوقت من النظم :
جــامـع للشــر والخـــير جـــــــــامع للـعــين والغير
مــاؤه مـــــن ماء روضته في قامــــــــــــات وفي سير
مطــرب فـيــه مؤذنـه أيـــن مــنــــه نغمـــــة الطـير
روضـــة نفـع بأجمعهـا وهـو مـن نفـع ومـن ضـيـر .
واعلم بأن الشريعة اعتقادات وأقوال وأعمال بأمور كل مكلف بها أن ينصف بها لا أن يؤثر به فإن الله تعالى لا يأمر بالشرك قال تعالى : ( لا يأمر بالفحشاء ) [ الأعراف : ٢٨ ] ولا فحشاء ولا منكر أبلغ من الشرك ؛ فإن قبول الاتصاف بها هو الكسب الذي قال تعالى : ( لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ) [ البقرة : ٢٨٦ ] ونظيره أمر الله تعالى الأشياء المعدومة أن تكون بقوله : « كن » فإنه لم يأمرها على أن تؤثر الوجود في نفسها بل أمرها أن تتصف به ، وهو الذي يؤثره فيها ، وقبولها لذلك الاتصاف هو مقدار ما يصدر عنها في صحة نسبة ذلك الفعل إليها .
وكثير من الناس يظنون أن الله تعالى أمرهم أن يؤثروا فيها أمرهم به من الأحكام في العبادات والمعاملات ، ويبنون أعمالهم على الشرك الخفي بحسب فهمهم القاصر وهو أمر باطل ، ولهذا قالها الله تعالى : ( لننظر كيف تعملون ) [ يونس : ١٤ ] أي : على أي كيفية تعملون ، بل تعملون على وجه التأثير منكم والإيجاد وعلى وجه الاتصاف وقبول نسبة ما نخلقه لكم من الأعمال على طبق قوله تعالى : ( والله خلقكم وما تعملون ) [الصافات : 96 ] أي : وعملكم .
وكل من اشتغل أولاً بالجامع والمحراب وتقيد بالعبادات قبل أن يعلم كيف يعمل فيها أمر الله تعالى، فقد كان من { الأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا } [ الكهف : 105 ] .
ومن لازمه الإنكار على الشيخ الأكبر فيما ليس هو في صلاة من علمه الأفخر ، فهو كذلك أطغى وأحقر .
وأما الحقيقة في الفعل فهي معرفة الأمر على ما هو عليه فتعمل بما أمرت به وأنت عارف كيف تعمل ، وليس الأمر جبرا ، ولا على وجه أكمل والإلجاء إلى الفعل ، وإنما قدرة حادثة وإرادة حادثة واختيار حادث ، واعتقادات حادثة وأقوال حادثة وأفعال حادثة ، أوجدها الحق تعالى وحده في العبد فقبل العبد الاتصاف بها ، والتأثير من الله تعالى وحده ولا تأثير للعبد أصلاً ، ومع كون العبد لا تأثير له أصلا ، والتأثير للرب تعالى وحده ليس العبد مجبورا في أعماله ؛ لأن قدرته الحادثة وإرادته الحادثة ، واختياره الحادث ينافي كونه مجبورا .
وإن كانت القدرة الحادثة والإرادة الحادثة والاختيار الحادث لا يؤثر شيئا ؛ لأن القدرة والإرادة والاختبار من شرطها التأثير .
أرأيت إن قدرة الله تعالى القديمة وإرادته القديمة واختباره القديمة قبل أن يظهر عنها كل شيء لم تكن مؤثرة بحسب الظاهر في كل شيء ، ومع ذلك ، تنفي عنه الإكراه ، واختيار ينفي عنه الجبر .
¤ فمن دخل مسجد الشريعة قبل دخول روضة الحقيقة خسر خسرانا مبينا ، ووجد قبر الشيخ الأكبر رضي الله عنه ونور مرقده في الحضيض الأسفل ؛ فاعترض وأنكر وانتقد واحتقر ، وإنما هي - حالته رآها في مرآة الشيخ رضي الله عنه ونور مرقده .
ومع ذلك لا بد له من ماء حياة يستخرجه بدولاب الفكر من تلك الروضة ، ليتم له الحضور ، ويكمل الخشوع والخضوع .
¤ ومن دخل روضة الحقيقة استكمل أمره في القيام بآداب الشريعة ، وسعد سعادة الدارين ، ووجد قبر الشيخ الأكبر والكبريت الأحمر قدس الله روحه ونور ضريحه في الأوج الأعلى ، واطلع على نهر الحياة الأبدية ، وغنم ثمار السعادة السرمدية .
فما أوسع حضرة الشيخ رضي الله عنه ونور مرقده ، وأعز علوه ، وما أعظم أمره ، وأكبر معنوية شأنه ، أوقع أهل الخصوص وأهل العموم في الحيرة ، ومقامه العالي الرفيع لا غيره ، اندهشت العقول في معاني تصانيفه ، وتحيرت الألباب في أفانين كلماته وتآليفه ، وذاته أيضا تحيرت فيها الأنام ، واختلفت فيها أقوال الخاص والعام ، وضريحه أيضا أشكل أمره بالارتفاع والانخفاض ، فمن قال : في الدرج الأعلى ، كان ذلك باعتبار روضة الحقيقة ، ذات النهر السائل الفياض ، ومن قال : في الدرك الأسفل ، كان ذلك باعتبار جامع الشريعة فقط عند أهل الماء الراكد في الحياض .
وقلت في هذا الوقت من النظم :
إن محيـي الـديـن الإمام الهـمام
وهـو بين الأصابع الإبهام
صبع من أصـابـع الحـق مـدت
للبرايـا فـكـان فيهـا الختـام
مشكل كـلـه عـلومـا و ذاتا
وضريحـا حـارت بـه الأفهـام
مثلما الحـق فيـه ضـلـت أنـاس
وأنـاس بـه اهـتـدوا واستقام
وكذا المرسلون أجمـع نور
عند قوم وعنـد قـوم ظـلام
فاعتبر يا أخي الإنارة وأنصف
وتأمـــــل إن زادت الأوهـام
أنـما قـبـره تـرى بـك هـذا
ولـه فيـك كـيـف كـنـت مـقـام
ولـه نفـسـك التـي أنـت فيهـا
كفـن والخيوط ذاك الكـلام
وإذا أصبحت بـصائر كانت
كالمرايـا يلـوح فيهـا المــرام
وإذا أظلمـت فـكـل حيـاة
فهي موت بين الـورى السّلام
وهذا آخر ما قصدناه ، ونهاية ما أردناه ، والله المسئول في حصول القول ، والحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ﷺ.
اللهم أصلح ذات بيننا ، وألف بين قلوبنا ، وأهدنا سبل السلام ، ونجنا من الظلمات إلى النور بحرمة محمد عليه الصلاة والسلام ، وجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
وقد فرغنا من تصنيف هذه الرسالة : الثلاثاء ، أواخر ربيع الثاني سنة تسع وثمانين وألف .