المكتبة الأكبرية: القرآن الكريم: سورة الأحزاب: [الآية 51]
![]() |
![]() |
![]() |
سورة الأحزاب | ||
![]() |
![]() |
![]() |
تفسير الجلالين:
تفسير الشيخ محي الدين:
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72)
[" إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ . . .» الآية ]
«إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ، وأي أمانة أعظم من النيابة عن الحق في عباده ، فلا يصرفهم إلا بالحق ، فلا بد من الحضور الدائم ومن مراقبة التصريف «عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ» كان عرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال بوحي يناسبها ، مثل قوله تعالى :
(وأوحى في كل سماء أمرها) «فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها» لأنها كانت عرضا لا أمرا ،
فلهذا أبت السماوات والأرض القبول ، لعلمها أنها تقع في الخطر ، فلا تدري ما يؤول إليها أمرها في ذلك ، وأبين أن يحملنها من أجل الذم الذي كان من اللّه لمن حملها ،
وهو أن اللّه وصف حاملها بالظلم والجهل ببنية المبالغة ، فإن حاملها ظلوم لنفسه ، جهول بقدر الأمانة «وَأَشْفَقْنَ مِنْها» أي خفن أن لا يقمن بحقها ، فاستبرأن لأنفسهن ،
فهل ترى إباية السماوات والأرض والجبال عن حمل الأمانة وإشفاقهن منها ، عن غير علم بقدر الأمانة وما يؤول إليه أمر من حملها فلم يحفظ حق اللّه فيها ؟ وعلمهم بالفرق بين العرض والأمر ،
فلما كان عرض تخيير احتاطوا لأنفسهم وطلبوا السلامة ، ولما أمرهم الحق تعالى بالإتيان فقال للسماوات والأرض (
ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) طاعة لأمر اللّه ، وحذرا أن يؤتى بهما على كره ،
أترى إباية من ذكر اللّه لجهلها ؟ لا واللّه ، بل الحمل للأمانة كان لمجرد الجهل من الحامل ،
وهل نعت اللّه بالجهل على المبالغة فيه والظلم لنفسه فيها لغيره إلا الحامل لها وهو الإنسان ، فعلمت الأرض ومن ذكر قدر الأمانة وأن حاملها على خطر ، فإنه ليس على يقين من اللّه أن يوفقه لأدائها إلى أهلها ، وعلمت مراد اللّه بالعرض أنه يريد ميزان العقل ، فكان عقل الأرض والجبال والسماء أوفر من عقل الإنسان ، حيث لم يدخلوا أنفسهم فيما لم يوجب اللّه عليهم ، فإن طلب حمل الأمانة كان عرضا لا أمرا ، وجعل بعض علماء الرسوم هذه الإباية والإشفاق حالا لا حقيقة ، وكذلك قوله عنهما (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) قول حال لا خطاب ،
وهذا كله ليس بصحيح ، ولا مراد في هذه الآيات ، بل الأمر على ظاهره كما ورد ، وهكذا يدركه أهل الكشف «وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ» عرضا أيضا لما وجد في نفسه من قوة الصورة التي خلق عليها ، لأنه لما خلق اللّه آدم على صورته أطلق عليه جميع أسمائه الحسنى ، وبقوتها حمل الأمانة المعروضة ، وما أعطته هذه الحقيقة أن يردها كما أبت السماوات والأرض والجبال حملها «إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا»
- الوجه الأول - «إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً» لو لم يحمله «جَهُولًا» لأن العلم باللّه عين الجهل به ، فالعجز عن درك الإدراك إدراك
-الوجه الثاني - «إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً» لنفسه حيث عرّض بنفسه إلى أمر عظيم إذا كان عارفا بقدر الأمانة ، وإذا لم يوفق لأدائها كان ظالما لنفسه ولغيره «جَهُولًا» وذلك لجهل الإنسان ذلك من نفسه وبقدر ما تحمل وحمل ، وإن كان عالما بقدرها فما هو عالم بما في علم اللّه فيه من التوفيق إلى أدائها ، بل هو جهول كما شهد اللّه فيه ، لأنه جهل هل يؤدي الأمانة إلى أهلها أم لا ؟ فكان قبول الإنسان الأمانة اختيارا لا جبرا ، فخان فيها لأنه وكل إلى نفسه وخذل ،
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : [ من طلب الإمارة وكل إليها ، ومن أعطيها من غير طلب بعث اللّه أو وكل اللّه به ملكا يسدده ]
فقال لنا تعالى لما حملنا الأمانة (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) فما حملها أحد من خلق اللّه إلا الإنسان ،
ولا يخلو إما أن يحملها عرضا أو جبرا ، فإن حملها عرضا فقد خاطر بنفسه ،
وإن حملها جبرا فهو مؤد لها على كل حال ، ومن ذلك نعلم أن من العالم ما هو مجبور فيما كلّف حمله ، وهو المعبر عنه بفرائض الأعيان وفرائض الكفاية ، ما لم يقم به واحد فيسقط الفرض عن الباقي ،
ومن العالم ما لم يجبر في الحمل وإنما عرض عليه ، فإن قبله فما قبله إلا لجهله بقدر ما حمل من ذلك ، كالإنسان لما عرضت عليه الأمانة وحملها ، كان لذلك ظلوما لنفسه جهولا بقدرها ،
والسماوات والأرض والجبال لما عرضت عليهن أبين أن يحملنها وأشفقن منها ، لمعرفتهن بقدر ما حملوا ، فلم يظلموا أنفسهم ، فما وصف أحد من المخلوقات بظلمه لنفسه إلا الإنسان ، فكان خلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس في المنزلة ،
فإنهن كن أعلم بقدر الأمانة من الإنسان فبهذا كن أيضا أكبر من خلق الناس في المنزلة من العلم ، فإنهن ما وصفن بالجهل كما وصف الإنسان ، فإن اللّه لما عرض عليه الأمانة وقبلها كان بحكم الأصل ظلوما جهولا ، فإنه خوطب بحملها عرضا لا أمرا ، فإن حملها جبرا أعين عليها ،
فكان الإنسان ظلوما لنفسه جهولا ، يعني بقدر الأمانة ، فهي ثقيلة في المعنى وإن كانت خفيفة في التحمل ، فكانت السماوات والأرض والجبال في هذه المسألة أعلم من الإنسان ، ولم تكن في الحقيقة أعلم ، وإنما الإنسان لما كان مخلوقا على الصورة الإلهية ،
وكان مجموع العالم ، اغتر بنفسه وبما أعطاه اللّه من القوة بما ذكرناه ، فهان عليه حملها ، ثم إنه رأى الحق قد أهّله للخلافة من غير عرض عليه مقامها ، فتحقق أن الأهلية فيه موجودة ، ولم تقو السماوات على الانفراد ولا الأرض على الانفراد ولا الجبال على الانفراد قوة جمعية الإنسان ، فلهذا أبين أن يحملنها وأشفقن منها ،
وما علم الإنسان ما يطرأ عليه من العوارض في حملها ، فسمي بذلك العارض خائنا ، فإنه مجبول على الطمع والكسل ، وما قبلها إلا من كونه عجولا ، فلو فسح الحق له في الزمان حتى يفكر في نفسه ، وينظر في ذاته وفي عوارضه ، لبان له قدر ما عرض عليه ، فكان يأبى كما أبته السماء وغيرها ممن عرضت عليه ، ومن الأمانة التي حملها الإنسان الصفات الإلهية ،وهي على قسمين :
صفة إلهية تقتضي التنزيه، كالكبير والعلي ،
وصفة إلهية تقتضي التشبيه، كالمتكبر والمتعالي ،
وما وصف الحق به نفسه مما يتصف به العبد ، فمن جعل ذلك نزولا من الحق إلينا جعل الأصل للعبد ، ومن جعل ذلك للحق صفة إلهية لا تعقل نسبتها إليه لجهلنا به ، كان العبد في اتصافه بها يوصف بصفة ربانية في حال عبوديته ، فيكون جميع صفات العبد التي يقول فيها لا تقتضي التنزيه ، هي صفات الحق تعالى لا غيرها ، غير أنها لما تلبس بها العبد انطلق عليها لسان استحقاق للعبد ، والأمر على خلاف ذلك ، وهذا هو الذي يرتضيه المحققون ، وهو قريب إلى الأفهام إذا وقع الإنصاف ، وذلك أن العبد ما استنبطه ولا وصف الحق به ابتداء من نفسه ، وإنما الحق وصف بذلك نفسه على ما بلّغت رسله وما كشفه لأوليائه ، ونحن ما كنا نعلم هذه الصفات إلا لنا لا له بحكم الدليل العقلي ، فلما جاءت الشرائع بذلك ، وقد كان هو ولم نكن نحن ، علمنا أن هذه الصفات هي له بحكم الأصل ، ثم سرى حكمها فينا منه ، فهي له حقيقة وهي لنا مستعارة ، إذ كان ولا نحن ، فالإنسان ظلوم بما غصب من هذه الصفات من حيث جعلها لنفسه حقيقة ، جهول بمن هي له وبأنها غصب في يده ، فمن أراد أن يزول عنه وصف الظلم والجهالة فليرد الأمانة إلى أهلها ، والأمر المغصوب إلى صاحبه ، والأمر في ذلك هين جدا ، والعامة تظن أن ذلك صعب وليس كذلك .
------------
(72) الفتوحات ج 4 / 2209">2209">2209">185 - ج 2 / 21">58 - ج 4 / 2162">138 - ج 2 / 2">629 - ج 4 / 2316">292 ، 2209">2209">2209">185 - ج 3 / 490 ، 2 ، 333 - ج 4 / 2209">2209">2209">185 - ج 2 / 170 - ج 4 / 2209">2209">2209">185 - ج 3 / 2 - ج 2 / 282">519 - ج 3 / 2 - ج 4 / 2162">138 - ج 2 / 421 ، 20 ، 630 - ج 1 / 691تفسير ابن كثير:
قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن بشر ، حدثنا هشام بن عروة ، عن أبيه عن عائشة ، رضي الله عنها; أنها كانت تعير النساء اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالت : ألا تستحي المرأة أن تعرض نفسها بغير صداق ؟ فأنزل الله ، عز وجل : ( ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك ) ، قالت : إني أرى ربك يسارع في هواك .
وقد تقدم أن البخاري رواه من حديث أبي أسامة ، عن هشام بن عروة ، فدل هذا على أن المراد بقوله : ( ترجي ) أي : تؤخر ( من تشاء منهن ) أي : من الواهبات [ أنفسهن ] ( وتؤوي إليك من تشاء ) أي : من شئت قبلتها ، ومن شئت رددتها ، ومن رددتها فأنت فيها أيضا بالخيار بعد ذلك ، إن شئت عدت فيها فآويتها; ولهذا قال : ( ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك ) . قال عامر الشعبي في قوله : ( ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ) : كن نساء وهبن أنفسهن للنبي صلى الله عليه وسلم فدخل ببعضهن وأرجأ بعضهن لم ينكحن بعده ، منهن أم شريك .
وقال آخرون : بل المراد بقوله : ( ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ) أي : من أزواجك ، لا حرج عليك أن تترك القسم لهن ، فتقدم من شئت ، وتؤخر من شئت ، وتجامع من شئت ، وتترك من شئت .
هكذا يروى عن ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة ، وأبي رزين ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وغيرهم ، ومع هذا كان صلوات الله وسلامه عليه يقسم لهن; ولهذا ذهب طائفة من الفقهاء من الشافعية وغيرهم إلى أنه لم يكن القسم واجبا عليه ، صلوات الله وسلامه عليه ، واحتجوا بهذه الآية الكريمة .
وقال البخاري : حدثنا حبان بن موسى ، حدثنا عبد الله - هو ابن المبارك - أخبرنا عاصم الأحول ، عن معاذة عن عائشة; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستأذن في يوم المرأة منا بعد أن نزلت هذه الآية : ( ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك ) ، فقلت لها : ما كنت تقولين ؟ فقالت : كنت أقول : إن كان ذاك إلي فإني لا أريد يا رسول الله أن أؤثر عليك أحدا .
فهذا الحديث عنها يدل على أن المراد من ذلك عدم وجوب القسم ، وحديثها الأول يقتضي أن الآية نزلت في الواهبات ، ومن هاهنا اختار ابن جرير أن الآية عامة في الواهبات وفي النساء اللاتي عنده ، أنه مخير فيهن إن شاء قسم وإن شاء لم يقسم . وهذا الذي اختاره حسن جيد قوي ، وفيه جمع بين الأحاديث; ولهذا قال تعالى : ( ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين بما آتيتهن كلهن ) أي : إذا علمن أن الله قد وضع عنك الحرج في القسم ، فإن شئت قسمت ، وإن شئت لم تقسم ، لا جناح عليك في أي ذلك فعلت ، ثم مع هذا أنت تقسم لهن اختيارا منك لا أنه على سبيل الوجوب ، فرحن بذلك واستبشرن به وحملن جميلك في ذلك ، واعترفن بمنتك عليهن في قسمك لهن وتسويتك بينهن وإنصافك لهن وعدلك فيهن .
وقوله : ( والله يعلم ما في قلوبكم ) أي : من الميل إلى بعضهن دون بعض ، مما لا يمكن دفعه ، كما قال الإمام أحمد :
حدثنا يزيد ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن عبد الله بن يزيد ، عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل ، ثم يقول : " اللهم هذا فعلي فيما أملك ، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك " .
ورواه أهل السنن الأربعة ، من حديث حماد بن سلمة - وزاد أبو داود بعد قوله : فلا تلمني فيما تملك ولا أملك : يعني القلب . وإسناده صحيح ، ورجاله كلهم ثقات . ولهذا عقب ذلك بقوله : ( وكان الله عليما ) أي : بضمائر السرائر ، ( حليما ) أي : يحلم ويغفر .
تفسير الطبري :
التفسير الميسّر:
تفسير السعدي
وهذا أيضًا من توسعة اللّه على رسوله ورحمته به، أن أباح له ترك القسم بين زوجاته، على وجه الوجوب، وأنه إن فعل ذلك، فهو تبرع منه، ومع ذلك، فقد كان صلى اللّه عليه وسلم يجتهد في القسم بينهن في كل شيء، ويقول "اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما لا أملك" .
فقال هنا: { تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ } [أي: تؤخر من أردت من زوجاتك فلا تؤويها إليك، ولا تبيت عندها] { وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ } أي: تضمها وتبيت عندها.
{ و } مع ذلك لا يتعين هذا الأمر { مَنِ ابْتَغَيْتَ } أي: أن تؤويها { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ } والمعنى أن الخيرة بيدك في ذلك كله [وقال كثير من المفسرين: إن هذا خاص بالواهبات، له أن يرجي من يشاء، ويؤوي من يشاء، أي: إن شاء قبل من وهبت نفسها له، وإن شاء لم يقبلها، واللّه أعلم]
ثم بين الحكمة في ذلك فقال: { ذَلِكَ } أي: التوسعة عليك، وكون الأمر راجعًا إليك وبيدك، وكون ما جاء منك إليهن تبرعًا منك { أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ } لعلمهن أنك لم تترك واجبًا، ولم تفرط في حق لازم.
{ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ } أي: ما يعرض لها عند أداء الحقوق الواجبة والمستحبة، وعند المزاحمة في الحقوق، فلذلك شرع لك التوسعة يا رسول اللّه، لتطمئن قلوب زوجاتك.
{ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا } أي: واسع العلم، كثير الحلم. ومن علمه، أن شرع لكم ما هو أصلح لأموركم، وأكثر لأجوركم. ومن حلمه، أن لم يعاقبكم بما صدر منكم، وما أصرت عليه قلوبكم من الشر.
تفسير البغوي
( ترجي ) أي : تؤخر ( من تشاء منهن وتؤوي ) أي : تضم ( إليك من تشاء )
اختلف المفسرون في معنى الآية : فأشهر الأقاويل أنه في القسم بينهن ، وذلك أن التسوية بينهن في القسم كانت واجبا عليه ، فلما نزلت هذه الآية سقط عنه وصار الاختيار إليه فيهن .
قال أبو رزين ، وابن زيد نزلت هذه الآية حين غار بعض أمهات المؤمنين على النبي - صلى الله عليه وسلم - وطلب بعضهن زيادة النفقة ، فهجرهن النبي - صلى الله عليه وسلم - شهرا حتى نزلت آية التخيير ، فأمره الله - عز وجل - أن يخيرهن بين الدنيا والآخرة وأن يخلي سبيل من اختارت الدنيا ويمسك من اختارت الله ورسوله والدار الآخرة ، على أنهن أمهات المؤمنين ولا ينكحن أبدا ، وعلى أنه يؤوي إليه من يشاء منهن ، ويرجي من يشاء ، فيرضين به قسم لهن أو لم يقسم ، أو قسم لبعضهن دون بعض ، أو فضل بعضهن في النفقة والقسمة ، فيكون الأمر في ذلك إليه يفعل كيف يشاء ، وكان ذلك من خصائصه فرضين بذلك واخترنه على هذا الشرط .
واختلفوا في أنه هل أخرج أحدا منهم عن القسم ؟ فقال بعضهم : لم يخرج أحدا ، بل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع ما جعله الله له من ذلك - يسوي بينهن في القسم إلا سودة فإنها رضيت بترك حقها من القسم ، وجعلت يومها لعائشة .
وقيل : أخرج بعضهن .
روى جرير عن منصور عن أبي رزين قال : لما نزل التخيير أشفقن أن يطلقهن ، فقلن : يا نبي الله اجعل لنا من مالك ونفسك ما شئت ودعنا على حالنا ، فنزلت هذه الآية ، فأرجى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعضهن وآوى إليه بعضهن ، وكان ممن آوى إليه عائشة ، وحفصة ، وزينب ، وأم سلمة ، فكان يقسم بينهن سواء ، وأرجى منهن خمسا : أم حبيبة ، وميمونة ، وسودة ، وصفية وجويرية ، فكان يقسم لهن ما شاء .
وقال مجاهد : " ترجي من تشاء منهن " يعني : تعزل من تشاء منهن بغير طلاق ، وترد إليك من تشاء بعد العزل بلا تجديد عقد .
وقال ابن عباس : تطلق من تشاء منهن وتمسك من تشاء .
وقال الحسن : تترك نكاح من شئت وتنكح من شئت من نساء أمتك .
وقال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا خطب امرأة لم يكن لغيره خطبتها حتى يتركها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وقيل : تقبل من تشاء من المؤمنات اللاتي يهبن أنفسهن لك فتؤويها إليك وتترك من تشاء فلا تقبلها .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا محمد بن سلام ، أخبرنا ابن فضيل ، أخبرنا هشام عن أبيه قال : كانت خولة بنت حكيم من اللائي وهبن أنفسهن للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت عائشة : أما تستحي المرأة أن تهب نفسها للرجل ؟ فلما نزلت : ( ترجي من تشاء منهن ) قلت : يا رسول الله ما أرى ربك إلا يسارع في هواك .
قوله - عز وجل - : ( ومن ابتغيت ممن عزلت ) أي : طلبت وأردت أن تؤوي إليك امرأة ممن عزلتهن عن القسم ( فلا جناح عليك ) لا إثم عليك ، فأباح الله له ترك القسم لهن حتى إنه ليؤخر من يشاء منهن في نوبتها ويطأ من يشاء منهن في غير نوبتها ، ويرد إلى فراشه من عزلها تفضيلا له على سائر الرجال ( ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ) أي : التخيير الذي خيرتك في صحبتهن أقرب إلى رضاهن وأطيب لأنفسهن وأقل لحزنهن إذا علمن أن ذلك من الله - عز وجل - ( ويرضين بما آتيتهن ) أعطيتهن ) ( كلهن ) من تقرير وإرجاء وعزل وإيواء ( والله يعلم ما في قلوبكم ) من أمر النساء والميل إلى بعضهن ( وكان الله عليما حليما )
الإعراب:
(تُرْجِي) مضارع مرفوع بالضمة المقدرة على الياء للثقل والفاعل مستتر (مَنْ) اسم موصول مفعول به والجملة مستأنفة (تَشاءُ) مضارع فاعله مستتر (مِنْهُنَّ) متعلقان بمحذوف حال (وَتُؤْوِي) معطوف على ترجي (إِلَيْكَ) متعلقان بتؤوي (مَنْ) موصولية مفعول به (تَشاءُ) مضارع مرفوع فاعله مستتر والجملة صلة (وَمَنِ) موصولية مبتدأ والجملة معطوفة (ابْتَغَيْتَ) ماض وفاعله والجملة صلة (مِمَّنْ) من حرف جر ومن موصولية متعلقان بالفعل بعدهما (عَزَلْتَ) ماض وفاعله مستتر (فَلا) الفاء رابطة ولا نافية للجنس (جُناحَ) اسم لا مبني على الفتح (عَلَيْكَ) متعلقان بخبر لا المحذوف والجملة خبر من ابتغيت (ذلِكَ) ذا اسم إشارة في محل رفع مبتدأ واللام للبعد والكاف للخطاب (أَدْنى) خبر مرفوع بالضمة المقدرة على الألف للتعذر والجملة مستأنفة (أَنْ) ناصبة (تَقَرَّ) مضارع منصوب (أَعْيُنُهُنَّ) فاعل والهاء مضاف إليه وأن وما بعدها منصوب بنزع الخافض متعلقان بأدنى والتقدير بأن تقر (وَلا) الواو عاطفة ولا ناهية (يَحْزَنَّ) مضارع مبني على السكون معطوف (وَيَرْضَيْنَ) مضارع مبني على السكون لاتصاله بنون النسوة والنون فاعله والجملة معطوفة (بِما) الباء جارة وما موصولية ومتعلقان بيرضين (آتَيْتَهُنَّ) ماض وفاعله ومفعوله والنون للتأنيث والجملة صلة (كُلُّهُنَّ) توكيد لفاعل يرضين (وَاللَّهُ) لفظ الجلالة مبتدأ والجملة معطوفة (يَعْلَمُ) مضارع فاعله مستتر والجملة خبر (ما) اسم موصول في محل نصب مفعول به ليعلم (فِي قُلُوبِكُمْ) متعلقان بمحذوف صلة (وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً) كان واسمها وخبراها.