«فبأي آلاء ربكما تكذبان».
تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (78)
[ مناسبة الإكرام للجلال : ]
الجلال نعت إلهي يعطي في القلوب هيبة وتعظيما ، وبه ظهر الاسم الجليل ، وهو يدل على الضدين ، فيعطى حكمه نعوت التنزيه والتشبيه ، ولحضرة الجلال السبحات الوجهية المحرقة ، ولهذا لا يتجلى في جلاله أبدا ، لكن يتجلى في جلال جماله لعباده ، فهو «ذُو الْجَلالِ» أي صاحب الجلال الذي نجده في نفوسنا «وَالْإِكْرامِ» بنا ،
فالكرم يتبع أبدا الجلال من حيث ما يعطيه وضع الجلال ، فإن السامع إذا أخذ الجلال على العظمة أدركه القنوط ، لعدم الوصول إلى من له العظمة ، لما يرى نفسه عليه من الاحتقار والبعد عن التفات ما يعطيه مقام العظمة إليه ، فأزال اللّه عن وهمه ذلك الذي تخيله بقوله :" وَالْإِكْرامِ»
أي وإن كانت له العظمة ، فإنه يكرم خلقه وينظر إليهم بجوده وكرمه ، نزولا منه من هذه العظمة ، فلما سمع القانط ذلك ، عظم في نفسه أكثر مما كان عنده أولا من عظمته ،
وذلك لأن العظمة الأولى التي كان يعظّم بها الحق كانت لعين الحق عن انكسار من العبد وذلة ، فلما وصف الحق نفسه بأنه يكرم عباده بنزوله إليهم ، حصل في نفس المخلوق أن اللّه ما اعتنى به هذه العناية إلا وللمخلوق في نفس هذا العظيم ذي الجلال تعظيم ،
فرأى نفسه معظما ، فلذلك زاد في تعظيم الحق في نفسه إيثارا لجنابه لاعتناء الحق به على عظمته ، فزاد الحق بالكرم تعظيما في نفس هذا العبد أعظم من العظمة الأولى ،
فإن كرامته بنا إعطاؤنا الوجود ، وهو تعالى كريم بما وهب وأعطى وجاد وامتن به من جزيل الهبات والمنح ، والتزام الجلال والإكرام التزام الألف واللام ، فكان الجلال للتنزيه عن التشبيه ، وكان الإكرام للتنويه به في نفي التشبيه بالشبيه.
(56) سورة الواقعة مكيّة
------------
(78) الفتوحات ج 2 /
541 - ج 4 /
252 ، 344
أي فبأي الآلاء يا معشر الثقلين من الإنس الجن تكذبان؟ قاله مجاهد وغير واحد ويدل عليه السياق بعده أي النعم ظاهرة عليكم وأنتم مغمورون بها لا تستطيعون إنكارها ولا جحودها فنحن نقول كما قالت الجن المؤمنون به اللهم ولا بشيء من آلائك ربنا نكذب فلك الحمد وكان ابن عباس يقول لا بأيها يا رب أي لا نكذب بشيء منها قال الإمام أحمد حدثنا يحيى بن إسحاق حدثنا ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة عن أسماء بنت أبي بكر قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ وهو يصلي نحو الركن قبل أن يصدع بما يؤمر والمشركون يستمعون "فبأي آلاء ربكما تكذبان".
قوله تعالى: {يسأله من في السماوات والأرض} قيل: المعنى يسأله من في السماوات الرحمة، ومن في الأرض الرزق. وقال ابن عباس وأبو صالح: أهل السماوات يسألونه المغفرة ولا يسألونه الرزق، وأهل الأرض يسألونهما جميعا. وقال ابن جريج: وتسأل الملائكة الرزق لأهل الأرض، فكانت المسألتان جميعا من أهل السماء وأهل الأرض لأهل الأرض. وفي الحديث [إن من الملائكة ملكا له أربعة أوجه: وجه كوجه الإنسان وهو يسأل الله الرزق لبني آدم، ووجه كوجه الأسد وهو يسأل الله الرزق للسباع، ووجه كوجه الثور وهو يسأل الله الرزق للبهائم، ووجه كوجه النسر وهو يسأل الله الرزق للطير] وقال ابن عطاء: إنهم سألوه القوة على العبادة. {كل يوم هو في شأن} هذا {كل يوم هو في شأن} كلام مبتدأ. وانتصب {كل يوم} ظرفا، لقوله: {في شأن} أو ظرفا للسؤال، ثم يبتدئ {هو في شأن}. وروى أبو الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {كل يوم هو في شأن} قال: من شأنه أن يغفر ذنبا ويفرج كربا ويرفع قوما ويضع آخرين، وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله عز وجل{كل يوم هو في شأن} قال: {يغفر ذنبا ويكشف كربا ويجيب داعيا}. وقيل: من شأنه أن يحي ويميت، ويعز ويذل، ويرزق ويمنع. وقيل: أراد شأنه في يومي الدنيا والآخرة. قال ابن بحر: الدهر كله يومان، أحدهما مدة أيام الدنيا، والآخر يوم القيامة، فشأنه سبحانه وتعالى في أيام الدنيا الابتلاء والاختبار بالأمر والنهى والإحياء والإماتة والإعطاء والمنع، وشأنه يوم القيامة الجزاء والحساب، والثواب والعقاب. وقيل: المراد بذلك الإخبار عن شأنه في كل يوم من أيام الدنيا وهو الظاهر. والشأن في اللغة الخطب العظيم والجمع شؤون والمراد بالشأن ها هنا الجمع كقوله تعالى: {ثم يخرجكم طفلا}[غافر:67]. وقال الكلبي: شأنه سوق المقادير إلى المواقيت. وقال عمرو بن ميمون في قوله تعالى: {كل يوم هو في شأن} من شأنه أن يميت حيا، ويقر في الأرحام ما شاء، ويعز ذليلا، ويذل عزيزا. وسأل بعض الأمراء وزيره عن قوله تعالى: {كل يوم هو في شأن} فلم يعرف معناها، واستمهله إلى الغد فانصرف كئيبا إلى منزله فقال له غلام له أسود: ما شأنك؟ فأخبره. فقال له: عد إلى الأمير فإني أفسرها له، فدعاه فقال: أيها الأمير! شأنه أن يولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل، ويخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، ويشفي سقيما، ويسقم سليما، ويبتلي معافى، ويعافي مبتلى، ويعز ذليلا ويذل عزيزا، ويفقر غنيا ويغني فقيرا، فقال له: فرجت عني فرج الله عنك، ثم أمر بخلع ثياب الوزير وكساها الغلام، فقال: يا مولاي! هذا من شأن الله تعالى، وعن عبدالله بن طاهر: أنه دعا الحسين بن الفضل وقال له: أشكلت علي ثلاث آيات دعوتك لتكشفها لي: قوله تعالى: {فأصبح من النادمين} [المائدة: 31] وقد صح أن الندم توبة. وقوله: {كل يوم هو في شأن} وقد صح أن القلم جف بما هو كائن إلى يوم القيامة. وقوله{وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} [النجم: 39] فما بال الأضعاف؟ فقال الحسين: يجوز ألا يكون الندم توبة في تلك الأمة، ويكون توبة في هذه الأمة، لأن الله تعالى خص هذه الأمة بخصائص لم تشاركهم فيها الأمم. وقيل: إن ندم قابيل لم يكن على قتل هابيل ولكن على حمله. وأما قوله: {كل يوم هو في شأن} فإنها شؤون يبديها لا شؤون يبتديها. وأما قوله: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} [النجم: 39] فمعناه: ليس له إلا ما سعى عدلا ولي أن أجزيه بواحدة ألفا فضلا. فقام عبد الله وقبل رأسه وسوغ خراجه.