موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

لواقح الأنوار القدسية في مناقب الأخيار والصوفية

وهو كتاب الطبقات الكبرى

تأليف الشيخ عبد الوهاب الشعراني

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


ومنهم الشيخ أحمد بن سليمان الزاهد (رضي الله عنه)

هو الشيخ الإمام العالم العامل الربائي شيخ الطريق، وفقيه أهلها. ربي الرجال، وأحيا طريق القوم بعد اندراسها، وكان يقال هو جنيد القوم.

وكان يتستر بالفقه لا تكاد تسمع منه كلمة واحدة من دقائق القوم، وصنف عدة رسائل في أمور الدين، وكان يعظ النساء في المساجد، ويخصهن دون الرجال، ويعلمهن أحكام دينهن، وما عليهن من حقوق الزوجية، والجيران، وعندي بخطه نحو ستين كراساً في المواعظ التي كان يعظها لهن، وكان رضي الله عنه يقول هؤلاء النساء لا يحضرن عروس العلماء، ولا أحد من أزواجهن يعلمهن، وكان يقول يينما أنا ذاهب إلى المكتب، وأنا صبي عارضني شخص من أولياء الله أشعث أغبر فطلب مني غدائي فأعطيته له، وعزمت على الجوع فأخذه مني وقال لي يا أحمد تبني لك جامعاً في خط المقسم، وتلقب بالزاهد، ويعارضك في عمارته جماعة، ويخذلهم الله عز وجل، وتصبر المشار إليه في مصر ويتربى على يديك رجال فكان الأمر كما قال، ولم أجتمع بذلك الرجل بعد ذلك اليوم. قلت: وقد عارضه من العلماء جماعة منهم شيخ الإسلام ابن حجر، وجمال الدين صاحب الجمالية التي بالقرب من خانقاه سعيد السعداء حتى أرسل إلى التراب، ومنعه أن ينقل تراب عمارة جامع الشيخ فقال الشيخ كل فقير لا يظهر له برهان لا يحترم له جناب ثم وضع رأسه في طوقه، وتوجه في تغيير خاطر السلطان على جمال الدين فأرسل ذلك الوقت وراءه وحبسه ولم يذكر له ذنباً، ولم يزل جمال الدين محبوساً حتى فرغ الشيخ من تعمير الجامع، وقال للتراب انقل، وقلبك قوي طيب لا نطلقه من الحبس حتى تفرغ، وأنكر عليه أيضاً قبل ذلك الشيخ سراج الدين البلقيني، وبالغ في إنكاره عليه فبلغ ذلك سيدي أحمد فقال ماذا ينكر علينا؟ فقال يقول إنك تأخذ طوب المساجد الخراب تبنى بها جامعك فقال كلها بيوت الله ثم إن الشيخ دخل الجامع الأزهر بقصد البلقيني، ونصب كرسياً في صحن الجامع وهو في حال حتى صارت عيناه كالجمر الأحمر ثم جلس على الكرسي وقال من يسألني عن كل علم نزل من السماء أجيبه عنه فبهت الناس كلهم، ولم يسأله أحد فلما سرى عنه قال من جاء بي إلى هنا فقالوا له وقع منك كذا، وكذا وقلت كذا وكذا فقال لهم هل سأل أحد فقالوا لا فقال الحمد لله لو خرج إلينا أحد لافترسناه ثم خرج من الجامع.

وكان رضي الله عنه إذا دعي إلى شفاعة عند من لا يعرفه يقول لصاحب الحاجة اذهب فخذ لك أحداً من وجوه الياس، واسبقني إلى بيت الرجل فإذا جئت فقوموا، وتقوني وعظموني حتى تمهدوا لي مكاناً للشفاعة فإني رجل مجهول الحال بين هؤلاء، وكان يقول ما دخل أحد إلى مسجدي هذا ثم صلى ركعتين إلا أخذت بيده في عرصات القيامة فإن الله شفعني في جميع أهل عصري، وكان يستر نفسه، ولا يذكر قط شيئاً من الكشف إلا على لسان بعضهم، وأخلى مرة مريداً فكشف للمريد أن الشيخ من أهل النار فتوجه إلى الله أن يمحو اسم شقاوته فدق الشيخ على المريد، وقال يا ولدي أنا لي منذ ثلاثين سنة أرى ذلك، ولا اعترضت، ولا سألت التغيير فأنت في ساعة واحدة تقلقات ثم توجه الفقير فوحد الشيخ قد حول اسمه في السعداء وكان رضي الله عنه يمتحن المريد قبل أن يأخذ عليه العهد سنة، وأكثر.

ولما جاء سيدي محمد الغمري ليأخذ عنه الطريق وافق الدخول بعد العشاء، وقد أغلق باب الجامع فقال افتحوا لنا فقال الشيخ نحن لا نفتح الجامع بعد العشاء فقال إن المساجد لله فقال الشيخ نفس فقيه يا فلان افتح له ففتحوا له فدخل فقال أين الشيخ فقال له الشيخ ما تفعل به فقال أطلب الطريق إلى الله فقال ما أنت من أهلها فقال ببركة الشيخ أكون إن شاء الله أهلا لها فتعرف له الشيخ فعرفه، ولقنه الذكر، وجعله خادماً في الميضأة ثم نقله إلى البوابة ثم نقله إلى الوقادة فمكث عشر سنين فقام عن الوقود في الفجر فخرج الشيخ فقال يا محمد فقال نعم فقال أوقد الجامع فجال بيده، وحلق على الجامع فأوقدت مصابيحه كلها فقال له الشيخ اذهب إلى بلبيس أنفع الناس ما بقي لك إقامة هنا فذهب إلى بلبيس فلم يصح له فيها قدم فانتقل إلى محلة أبي الهيثم فلم يصح له فيها قدم فذهب إلى المحلة الكبرى فكان من أمره ما كان كما سيأتي في ترجمته إن شاء الله تعالى.

وكان سيدي أحمد رضي الله عنه لا يدخل إلى بيته من الجامع إلا بعد صلاة الجمعة فكان يصلي ويدخل فيمكث إلى العصر فدخل يوماً فرآهم يضحكون، وهم مبسوطون فقال مالكم. فقالوا شخص يسمى عبد الرحمن بن بكتمر أرسل إلينا لحماً وملوخية، وعسلا، وقال اطبخوا، وكلوا فقال الشيخ وجب حقه علينا فأرسل وراءه، وأخذ عليه العهد وكانت مجاهدته فوق الحد، وقد رأيت له حبلا مربوطاً في السقف في خلوته فوق ميضأة جامع سيدي أحمد الزاهد رضي الله عنه فكان لا يضع جنبه الأرض سنين حتى وقع له الفتح، وكان من أمره ما كان. وأما سيدي مدين فجاء إلى سيدي أحمد بعد أن كان اشتغل بالعلم زماناً فأخذ عليه العهد وأخلاه ففتح عليه ثالث يوم فكان سيدي أحمد رضي الله عنه يقول كل الناس جاءونا، وسراجهم مطفأ إلا مدين فإنه جاء، وسراجه موقد فقويناه له وسافر سيدي محمد الغمري إلى ناحية دمياط فاشترى لبيت الشيخ علبة حلاوة فتحرك الريح فجاء حبل الراجع فرماها في البحر فلما وصل سيدي محمد إلى القاهرة، ودخل وسلم على الشيخ قال له يا محمد أين هديتك قال يا سيدي رماها الراجع في البحر فقال للخادم: أدخل هذه الخلوة، وأعرض عليه الخبر فدخل فوجد العلبة على الرف وهي تقطر ماء فقال يا محمد وصلت هديتك، ولما حضرته الوفاة تطاول بعض الفقراء للإذن له بالجلوس في الجامع بعد الشيخ فجمعهم الشيخ، وقال أنا أقسم بينكم الميراث في حياتي لئلا تتنازعوا بعد فقال لسيدي محمد الغمري يا محمد إن خيرك في الطريق لذريتك ما لأصحابك منه شيء سوى الرشاش، وقال لسيدي مدين رضي الله عنه يا مدين أنت خيرك لأصحابك ما لذريتك منه شيء وقال لسيدي عبد الرحمن بن بكتمر يا عبد الرحمن أنت خيرك لنفسك ما لذريتك، ولا لأصحابك منه شيء، وكان يفوق الطريق بالمواهب، ولو كانت بالاختيار كان ولدي أحق بها، وكان يقول يا من يربي لنا ولدنا ونربي له ولده، وكان يخرج في السحر على باب الجامع يتبرك بمن دخل مصر من المسفرين، ويقول إنهم مر عليهم نسيم الأسحار، وكان إذا جاءه إنسان بولده الصغير ليدعو له يقول: اللهم لا تجعل لهذا الولد كلمة، ولا حرمة في هذه الدار، وكان يهجر الفقراء كثيراً وربما يأمر الفقير بالإقامة في الميضأة سنة كاملة فيفعل، وكان إذا جاءه شخص يريد المجاورة للاشتغال بالعلم يقول يا ولدي ما نحن معدين لذلك اذهب إلى الجامع الأزهر، وما كان يأذن للفقراء القاطنين عنده إلا في تعليم فرائض الشرع وواجباته المتعلقة بالعبادات، وكان يمنعهم من تعلم الأمور المتعلقة بفصل الأحكام في البيوع، والرهون والشركات، ونحو ذلك، ويقول ابدءوا بالأهم، ولا أهم من معرفة الله في هذه الدار، والفقهاء قد قاموا عنكم بفروع الشريعة فإن قتلوا، والعياذ بالله، وتعطلت الأحكام وجب عليكم تعلم هذه الفروع لئلا تندرس الشريعة رضي الله عنه قلت: وقد سألت سيدي الشيخ محمد الحريفش الدنوشري وكان قد رأى سيدي أحمد الزاهد رضي الله عنه عن سبب تسميته الزاهد، وإن كان كل ولي لا بد له من الزهد، ومع ذلك فلم يشتهر به في مصر إلا هو فقط فقال صنع مرة الكيمياء نحو خمسة قناطير ذهباً ثم نظر إليه، وقال أف للدنيا ثم أمر بطرحها في سرداب جامعه فأشهره الله تعالى من ذلك اليوم بالزاهد. مات رضي الله عنه سنة نيف وعشرين وثمانمائة، ودفن بجامعه، وقبره ظاهر يزار، ويتبرك الناس به رضي الله عنه.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!