
لواقح الأنوار القدسية في مناقب الأخيار والصوفية
وهو كتاب الطبقات الكبرى
تأليف الشيخ عبد الوهاب الشعراني
![]() |
![]() |
ومنهم الشيخ الكامل العارف بالله تعالى سيدي علي الكازروني (رضي الله عنه)
أحد أصحاب سيدي علي بن ميمون شيخ سيدي محمد بن عراق رضي الله عنه، كان رضي الله عنه كثير المجاهدة، والرياضة أخبرني رضي الله عنه أنه ربما يمكث الخمسة الشهور أو أكثر لا يضع جنبه بالأرض لا ليلا، ولا نهاراً صحبته مدة إقامة الحج بمكة المشرفة نحو عشرين يوماً سنة سبع، وأربعين، وتسعمائة وكذلك في حجتي سنة ثلاث وخمسين، وتسعمائة مدة الموسم، وانتفعت بكلامه، وإشاراته، ومواعظه، ودقائقه في علم التوحيد، وله رسائل نافعة في الطريق أطلعني على بعضها، وكان ذا تمكين، ومحبة لستر مقامه بين الناس حتى إن أهل مكة غالبهم ينكر عليه، ويقول هذا رجل محب للدنيا، وسبب ذلك ما أسره إلي، وقال لي هذه بلد الله، وحضرته الخاصة، وكل من تظاهر فيها بصلاح أقبل عليه الناس، وشغلوه عن ربه عز وجل فلما دخلت مكة على حالتي التي كنت عليها في الشام اعتقدوني، وأقبلوا علي فتظاهرت بحب الدنيا، وسؤالي لهم من الصدقات فنفروا عني فاسترحت رضي الله عنه. ومن كلامه رضي الله عنه الإرشاد على ثلاثة أقسام: إرشاد العوام إلى معرفة ما يجب على المكلف معرفته من الحدود، والأحكام من فروض العين والكفاية، وإرشاد الخواص إلى معرفة النفس، وهو معرفة الداء، والدواء فيما يرد على النفس، وعلى الضمائر من الخواطر. وإرشاد خواص الخواص، وهو معرفة ما يجب لله وما يجوز وما يستحيل، وتنزيه صفاته، وأسمائه، وذاته، وأفعاله. وقال رضي الله عنه الطريق إلى الله كمال الشهود ولزوم الحدود، وقال من ثبت له الاستقامة فقد أذن له في الكلام، وقال الوقوف مع المظاهر حجاب ظاهر، والترقي عن المظاهر كشف ظاهر، وقال من صدق ما يقال فيه من المذموم فقد سلك، ومن صدق ما يقال فيه من المحمود فقد هلك، وقال من كان مجاهداً فحقيق أن يكون مشاهداً، وقال من صدق في طلب الله لم يبال بترك ما سواه، ومن بالغ في مدح نفسه فقد بالغ في ذم غيره، ومن بالغ في ذم غيره فقد بالغ في مدح نفسه، وكان يقول فسق العارف في نهايته أن يتوسع، وينعم نفسه بالمباح فوق الكفاية وكان يقول من نفي فقد أثبت، ومن أثبت فقد نفي، ومن أثبت ونفي ثبت، وكان يقول ذكر منك إليه وذكر منه إليك، وذكر منه إليه لا منك، ولا إليك، وكان يقول من ادعى كمال الطريقة بغير أدب الشريعة فلا برهان له، ومن ادعى، وجود الحقيقة بغير كمال آداب الطريقة فلا برهان له، وكان يقول من زهد في فضول الثياب كان من الأحباب.
وكان يقول إذا طلعت شمس المعرفة على وجود العارف لم يبق نجوم، ولا قمر، وإن وجد الأثر. وأن يقول من ترقي عن الخواطر الشيطانية قطع حجب العنصر الناري ومن ترقي عن الخواطر النفسانية قطع حجب العنصر الترابي، ومن ادعي الطاعة، وأخلص فيها ولم يقف مع حظوظ نفسه فيها قطع حجب العنصر المائي، ومن عرف الله في كل شيء، وبكل شيء، وعند كل شيء، ولم يقف مع شيء قطع حجب الهوائي، ومن ترقي عن الحجب النورانية فقد ترقي عن ملاحظة روحه القائم بصورته الجثمانية، وكان يقول من تفقه، ولم يتصوف فقد تفسق، ومن تصوف، ولم يتفقه فقد تزندق ومن تفقه، وتصوف فقد تحقق، وكان يقول كل ما خفي عن المظاهر ظهر إشراقه في الباطن، وكان يقول إذا تجاهل العارف قوي في الإخلاص، والسلامة من القواطع، وكان يقرر من غلب نفسه فلا غالب له ومن غلبته نفسه غلبه كل أحد، وكان يقول الفرق المجرد شرك خفي، والجمع المجرد جحود جلي، وشهود الجمع في الفرق كمال علي، وكان يقول البعيد في عين القرب، والقريب في عين البعد، وأجر القياس " والله يعصمك من الناس " وكان يقول في باطن الزهد طمع، وفي باطن الطمع زهد، وفي باطن الكبر تواضع وفي باطن التواضع كبر، وفي باطن الفقر غني، وفي باطن الغني فقر، وفي باطن العز ذل، وفي باطن الذل عز، وفي باطن الإيمان بالله كفر بغيره، وفي باطن الكفر بغيره إيمان به وأجر القياس " والله يعصمك من الناس " :
فكن كافر، وكن مؤمن ... ولا مؤمن، ولا كافر
وكن باطن، وكن ظاهر ... ولا باطن، ولا ظاهر
وكن أول، وكن آخر ... ولا أول، ولا آخر
وكن حامد، وكن شاكر ... ولا حامد، ولا شاكر
قلت: معناه الفناء عن شهود الكمالات على سبيل الافتخار بالله، والله أعلم:
القصد رمز فكن ذكياً ... والرسم سر على الأشاير
فلا تقف مع حروف رسمي ... كل المظاهر لنا ستاير
وكان يقول كل مقام أو كل معنى يتعسر على السالك فإنما هو لبقية في، وجوده، ومن الإلباس أن يسأل عن ذلك المقام أو يكرر فيه النظر الفكري فان أراد أن يتضح له المعنى من غير طلب فليجتهد في إزالة تلك البقية، وكان يقول الهواء إذا مر على الجيفة حمل رائحتها، وإذا مر على المسك حمل رائحته وكذلك الماء يكتسب قيداً بواسطة مقره أو ممره فافهم، وكان يقول إنما خلق الإنسان أولا في أحسن تقويم لأنه كان عند الفطرة بلا شهوة فلما ابتلى بالشهوات رد إلى أسفل سافلين. وكان يقول: من نظر بعين الجمع كانت له الحقائق، والأسرار أفلاكاً، ومن نظر بعين الفرق كانت المظاهر له أشراكاً ومن عرف الواحد عند كل موجود في كل زمان فقد هدى إلى صراط مستقيم، وكان يقول: الحجاب بصورة الفعل عن ملاحظة الفاعل، ولو بقدر نفس واحد جحود خفي، وأجر القياس على سائر الحواس وكان يقول: الوقوف مع صورة الشيء من كل وجه شرك خفي، والاعراض عن الشيء من كل وجه جحود خفي فانف، ولا تنف، وأثبت، ولا تثبت آه آه آه، وكان يقول: الكمال في شهود الجمع إعطاء كل ذي حق حقه في مقام الفرق، وكأنه يقول: كل ذرة من الوجود معراج، والمربي جبريل السالك انتهى كلامه رضي الله عنه. مات سنة ستين، وتسعمائة رضي الله تعالى عنه.
![]() |
![]() |