موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

لواقح الأنوار القدسية في مناقب الأخيار والصوفية

وهو كتاب الطبقات الكبرى

تأليف الشيخ عبد الوهاب الشعراني

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


ومنهم الإمام علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)

ونسبه مشهور. وكان برضي الله عنه يقول الدنيا جيفة فمن أراد منها شيئاً فليصبر على مخالطة الكلاب.

قلت: والمراد بالدنيا ما زاد على الحاجة الشرعية بخلاف ما دعت الضرورة إليه، وذلك أن فضول الدنيا شهوات، وأهل الشهوات كثير، ولذلك ما رؤي زاهد قط في محل مزاحمة على الدنيا، كما هو مشاهد، وإنما سمي طالب الفضول كلباً للدنيا لتعلق قلبه بها، لأن الكلب مأخوذ من التكلب، وكل من عسر عليه فراق شهوته فهو كلبها، فافهم فما توسع من توسع في مأكل، أو ملبس إلا لقلة ورعه، والشارع لم يأمرنا بالتوسع في الشبهات، والله أعلم.

قال أبو عبيدة رحمه الله: ارتحل الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه تسع كلمات، قطع الأطماع عن اللحاق بواحدة منهن، ثلاث في المناجاة، وثلاث في العلم، وثلاث في الأدب.

فأما التي في المناجاة فهي قوله: كفاني عزاً أن تكون لي رباً، وكفى بي فخراً أن أكون لك عبداً، أنت لي كما أحب فوفقني لما تحب، وأما التي في العلم فهي قوله المرء مخبوء تحت لسانه، فتكلموا تعرفوا، ما ضاع امرؤ عرف قدره، وأما التي في الأدب فهي قوله: أنعم على من شئت تكن أميره، واستغن عمن شئت تكن نظيره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره.

وكان رضي الله عنه يقول: والله لا يحبني إلا مؤمن، ولا يبغضني إلا منافق.

وكان آخر كلامه قبل موته لا إله إلا الله محمد رسول الله. وكان رضي الله عنه يقول: موت الإنسان بعد أن كبر وعرف ربه خير من موته طفلا، ولو دخل الجنة بغير حساب.

قلت: لأن أقل ما هناك أن العبد يجالس ربه في الجنة بقدر ما عمل من العبادات والله أعلم، وكان رضي الله عنه يقول: أعلم الناس بالله أشدهم حباً، وتعظيماً لأهل لا إله إلا الله.

وقيل له مرة: ألا نحرسك يا أمير المؤمنين فقال: حارس كل امرئ أجله، وكان رضي الله عنه يقول: كونوا لقبول أعمالكم أشد اهتماماً منكم بالعمل، فإنه لن يقل عمل مع التقوى، وكيف يقل عمل متقبل، وكان رضي الله عنه يقول: إذا كان يوم القيامة أتت الدنيا بأحسن زينتها، ثم قالت: يا رب هبني لبعض أوليائك فيقول الله عز وجل لها: اذهبي لا إلى شيء فلانت أهون من أن أهبك لبعض أوليائي، فتطوى كما يطوى الثوب الخلق فتلقى في النار، وكان رضي الله عنه يقول: لا يرجون العبد إلا ربه ولا يخافن إلا ذنبه، وكان يقول: لا يستحي جاهل أن يسأل عما لم يعلم، ولا، يستحي عالم إذا سئل عما لا يعلم أن يقول الله أعلم، وكان رضي الله عنه يقول: إن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى، وطول الأمل فأما اتباع الهوى فيضل عن الحق، وأما طول الأمل فينسي الآخرة، وكان يقول: الفقيه كل الفقيه من لا يقنط الناس من رحمة الله، ولا يؤمنهم من عذاب الله، ولا يرخص في معاصي الله، ولا يدع القرآن رغبة منه إلى غيره،

وكان يقول: لا خير في عبادة لا علم فيها، ولا خير في علم لا فهم فيه، ولا خير في قراءة لا تحبر فيها، وكان رضي الله عنه يقول: كونوا ينابيع العلم، ومصابيح الليل خلقان الثياب جدد القلوب تعرفون به في ملكوت السماء، وتذكرون به في الأرض، وكان رضي الله عنه يقول: لو حننتم حنين الواله الثكلان، وجأرتم جؤار ميتلي الرهبان.

ثم خرجتم من أموالكم، وأولادكم في طلب القرب من الله تعالى، وابتغاء رضوانه، وارتفاع درجة عنده، أو غفران سيئة كان ذلك قليلا فيما تطلبونه، وكان رضي الله عنه يقول: القلوب أوعية وخيرها أوعاها، ثم يقول: هاه هاه إن هاهنا - وأشار بيده إلى صدره - علماً لو أصبت له حملة وأتى رضي الله عنه بفالوذج فوضع قدامه فقال: إنك طيب الريح حسن اللون طيب الطعم لكني أكره أن أعود نفسي ما لم تعتد، ولم يأكله، ولم يأكل رضي الله عنه طعاماً منذ قتل عثمان، ونهبت الدار إلا مختوماً حذراً من الشبهة، وكان قوته وكسوته شيئاً يجيئه من المدينة، ولم يأكل من طعام العراق إلا قليلا، وكان رضي الله عنه يرقع قميصه ويقول: لمن لبس المرقع يخشع القلب، ويقتدي به المؤمن، وكان يقطم من كم قميصه ما زاد على رؤوس الأصابع.

وكذلك كان عمر رضي الله عنه، وكان رضي الله عنه يبرد في الشتاء حتى ترعد أعضاؤه عن البرد فقيل له: ألا تأخذ لك كساء من بيت المال، فإنه واسع فقال: لا أنقص المسلمين من بيت مالهم شيئاً لي.

وكان رضي الله عنه يقول: التقوى هي ترك الإصرار على المعصية، وترك الاغترار بالطاعة، وكان رضي الله عنه يستوحش من الدنيا، وزهرتها، ويستأنس بالليل وظلمته، وكان يحاسب نفسه على كل شيء، وكان يعجبه من اللباس ما قصر، ومن الطعام ما خشن، وكان رضي الله عنه يعظم أهل الدين والمساكين، وكان يصلي ليله ولا يهجع إلا يسيراً، ويقبض على لحيته، ويتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين حتى يصبح، وكان رضي الله عنه يخاطب الدنيا ويقول: يا دنيا غري غيري قد طلقتك ثلاثاً عمرك قصير، ومجلسك حقير، وخطرك كبير آه آه من قلة الزاد، وبعد السفر ووحشة الطريق. وكان رضي الله عنه يقول أشد الأعمال ثلاثة إعطاء الحق من نفسك، وذكرك الله تعالى على كل حال، ومواساة الأخ في المال، وكان يقول: ما نلت من دنياك فلا تكثرن به فرحاً وما فاتك منها، فلا تيأس عليه حزناً وليكن همك فيما بعد الموت.

وكان رضي الله عنه يقول: لم يرض الحق تعالى من أهل القرآن الادهان في دينه، والسكوت على معاصيه، وكان يقول إن مع كل إنساناً ملكين يحفظانه مما لم يقدر، فإذا جاء القدر خلياً بينه وبينه وإن الأجل جنة حصينة، وكان ينشد ويقول:

حقيق بالتواضع من يموت ... ويكفي المرء من دنياه قوت

فما للمرء يصبح ذا هموم ... وحرص ليس ندركه النعوت

فيا هذا سترحل عن قريب ... إلى قوم كلامهم السكوت

قال القضاعي رضي الله عنه: وكان لعلي رضي الله عنه من الأولاد الذكور أربعة عشر ولداً ولم يكن النسل إلا لخمسة منهم فقط: الحسن والحسين، ومحمد بن الحنفية، وعمر والعباس رضي الله عنهم أجمعين، ومناقبه رضي الله عنه كثيرة مشهورة.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!