كتاب شمس المغرب
سيرة الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي ومذهبه
جمع وإعداد: محمد علي حاج يوسف
هذا الموقع مخصص للطبعة الجديدة من شمس المغرب
والباطنة، يعني المعارف، فإن الله يقول: ((وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)) [الضحى - 11] وقال عليه السلام: "التحدّث بالنعم شكر". وكان يقول أيضاً بلسان أهل هذا المقام: ((أَغَيْرَ اللّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)) [الأنعام - 40].[1]
ويقول الشيخ الأكبر أيضاً أن الشيخ أبا مدين رحمه الله كان إذا جاءه مأكول طيّب أكله وإذا جاءه مأكول خشن أكله، أما إذا جاع وجاءه نقد علم أن الله قد خيّره؛ فإذا أراد أن يطعمه أيّ صنف شاء من المأكولات جاء به إليه، فيقول: هذا النقد ثمن المأكول جاء به الله للتخيير والاختبار، فينظر في ذلك الوقت ما هو الأحب إلى الله من المأكولات بالنظر إلى صالح المزاج للعبادة لا إلى الغرض النفسي واتباع الشهوة، فإن وافقه كلّ مأكول حينئذ يرجع إلى موطن الدنيا وما ينبغي أن يعامل به من الزهد في ملذوذاتها مع صلاح المزاج الذي تقوم بصلاحه العبادة المشروعة، فيعدل بحكم الموطن إلى شظف العيش الذي تكرهه النفس لعدم اللذة به بلذة الحاجة فإنه يتناوله عند الضرورة؛ فإنّ لذّة الضرورة ما فوقها لذّة لأن الطبع يطلبها وإذا حصل للطبع طلبه التذّ به.[2]
بعض كرامات أبي مدين
ومن بعض صفاته الخارقة للعادة أيضاً، أن الشيخ أبا مدين كان "كلّه نظر". وهذا مقام عزيز لا يناله إلا المقرّبون من الله تعالى، وأصله من الحديث القدسي الشهير عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن الله قال:
من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرّب إلي عبدي بشيء أحبّ إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرّب إلي بالنوافل حتى أحبّه، فإذا أحببته: كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذني لأعيذنَّه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته.[3]
فإذا كان الله سبحانه وتعالى هو بصر العبد المؤمن وسمعه ويده ورجله، أصبح العبد لشدّة قربه من الله تعالى يُبصر بما به يسمع، وبيده وكُلّه، لأنه يصبح كلُّه نور. ونجد أجمل وصف عن هذه الأحوال في قصيدة نظم السلوك لابن الفارض حيث يقول فيها:[4]
فكُلّي لسانٌ ناظرٌ مسمعٌ يدٌ |
|
لنطقٍ وإدراكٍ وسمعٍ وبطشةِ |
[1] الفتوحات المكية: ج2ص11.
[2] الفتوحات المكية: ج2ص233.
[3] صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب التواضع، 6137.
[4] ديوان ابن الفارض، ص294.