كتاب شمس المغرب
سيرة الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي ومذهبه
جمع وإعداد: محمد علي حاج يوسف
هذا الموقع مخصص للطبعة الجديدة من شمس المغرب
ولما فُتحت القدس اختار صلاح الدين خطيباً شابّاً من بين جميع الشيوخ ليخطب الجمعة الأولى بعد الفتح، وهذا الشاب هو القاضي الشهير محي الدين ابن الزكي الذي كان قاضياً في حلب ثم عيّنه صلاح الدين قاضياً في دمشق، فقال ابن الزكي من جملة ما قال: "... إياكم أن يستذلكم الشيطان... فيخيل إليكم أن هذا النصر بسيوفكم الحداد وبخيولكم الجياد وبجلدكم في موقع الجلاد... والله وما النصر إلا من عند الله... إن الله عزيز حكيم". وكان هذا القاضي محي الدين ابن الزكي هو الذي صلى بالناس على جنازة صلاح الدين بعد ذلك ببضع سنوات. وتجدر الإشارة هنا إلى أن بني الزكي من العائلات الشهيرة في دمشق وقد تولّوا وتوارثوا منصب قاضي القضاة على مدى عدّة عقود وسوف نرى في الفصل السادس أنهم هم الذين قد أكرموا الشيخ محي الدين ابن العربي عند استقراره في دمشق ووفّروا له ولمريديه الرعاية ومات الشيخ الأكبر في بيت ابن الزكي ودفن في المقبرة المخصصة لبني الزكي في الصالحية كما سنرى في الفصل السادس.
أصبحت القدس في عهد الإسلام مركزاً مهمّاً من مراكز الحضارة العربية الإسلامية وقد أقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيها مسجداً وأزال التراب المتراكم على الصخرة المشرفة وأقام عليها مصلّى، وفي العهد الأموي بنى عبد الملك بن مروان مسجد الصخرة، ورصد لبنائه خراج مصر لسبع سنين ثم توالى الخلفاء والأمراء فجددوا وزخرفوا فيه حتى أصبح من أجمل الأبنية.
على الرغم من أن أهالي القدس عانوا معاناة شديدة إبّان الغزو الفرنجي لها وسالت في المسجد والمدينة دماء عشرات الألوف من أبناءها، ولكن حين حررها الناصر صلاح الدين الأيوبي أعطى الفرنجة نموذجا رائعاً في الرحمة والتسامح حيث لم يعاملهم بعملهم واكتفى بدفع فدية قليلة ودفع هو من ملكه الخاص عن الفقراء الذين لا يملكون دفع الفدية.
أمر صلاح الدين بإعادة أبنية القدس إلى حالها القديم، وطهّر المسجد والصخرة من الأقذار بعدما دنّسها الصليبيّون، وصلى فيهما ونصب منبراً في المسجد كان قد أمر بصنعه نور الدين محمود زنكي. وعمل صلاح الدين على توسيع المسجد الأقصى وتدقيق نقوشه، وزوده بالمصاحف والكتب، فعاد إلى المسجد رونقه وبهاؤه وجلاله، فازدهرت القدس من جديد في ظل الحكم الإسلامي، وبرز فيها عدد من العلماء الأجلاء. وقد سلِمت القدس وفلسطين ومصر من غارات المغول الذين اجتاحوا العراق وسورية سنة 640/1243 بفضل انتصار الظاهر بيبرس على المغول في معركة عين جالوت سنة 658/1260.
التنبّؤ بفتح بيت المقدس
وفي الحقيقة فقد تنبّأ بعض العلماء بفتح القدس قبل حصوله. فقد ذكر أبو الحكم عبد السلام بن برجان في تفسيره المسمى "تنبيه الأفهام إلى تدبر الكتاب والتعرف على الآيات والأنباء العظام"، الذي ألفه سنة 520/1126، طريقة استنتج فيها تاريخ فتح القدس اعتماداً على الحروف التي في بداية بعض السور وخاصة سورة الروم.