موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

كتاب حقائق عن التصوف

للشيخ عبد القادر عيسى الحسيني الشاذلي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


ابن عجيبة

وعشرين ساعة، بساعة لله الواحد القهار، نعبده فيها حق عبادته، ثم نجتهد على إيقاع الصلوات على ذلك النهج) (١).

ابن عجيبة:

وقال ابن عجيبة شارحا قول ابن عطاء الله رحمهما الله تعالى: ما نفع القلب شيء مثل عزلة يدخل بها ميدان فكرة:

(والعزلة انفراد القلب بالله. وقد يراد بها الخلوة التي هي انفراد القالب عن الناس، وهو المراد هنا، إذ لا ينفرد القلب بالله إلا إذا انفرد القالب. والفكرة سير القلب إلى حضرة الرب، وهي على قسمين: فكرة تصديق وإيمان، وفكرة شهود وعيان. ول شيء أنفع للقلب من عزلة مصحوبة بفكرة، لأن العزلة كالحمية، والفكرة كالدواء، فل ينفع الدواء بغير حمية، ولا فائدة في الحمية من غير دواء، فلا خير في عزلة لا فكرة فيها ولا نهوض بفكرة لا عزلة معها، إذ المقصود من العزلة هو تفريغ القلب، والمقصود من التفرغ هو جولان القلب واشتغال الفكرة، والمقصود من اشتغال الفكرة تحصيل العلم وتمكنه من القلب، وتمكن العلم بالله من القلب هو دواؤه وغاية صحته، وهو الذي سماه الله القلب السليم، قال الله تعالى في شأن القيامة: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ ول بَنُونَ (٨٨) إِلّا مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: ٨٨ - ٨٩].

وقد قالوا: إن القلب كالمعدة إذا قويت عليها الأخلاط مرضت، ولا ينفعها إل الحمية، وهو قلة موادها، ومنعها من كثرة الأخلاط (المعدة بيت الداء، والحمية رأس الدواء). وكذلك القلب إذا قويت عليه الخواطر واستحوذ عليه الحس مرض، وربما مات، ول ينفعه إلا

__________

(١) غذاء الألباب ج ١/ص ٤٧.

الحمية منها، والفرار من مواطنها، وهي الخلطة، فإذا اعتزل الناس واستعمل الفكرة نجح دواؤه، واستقام قلبه، وإلا بقي سقيما حتى يلقى الله بقلب سقيم بالشك والخواطر الرديئة، نسأل الله العافية.

قال الجنيد رحمه الله تعالى: أشرف المجالس الجلوس مع الفكر في ميدان التوحيد.

وقال أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه: ثمار العزلة الظفر بمواهب المنة، وهي أربعة:

كشف الغطاء، وتنزل الرحمة، وتحقيق المحبة، ولسان الصدق في الكلمة.

ثم ذكر للخلوة عشر فوائد:

١ - السلامة من آفات اللسان، فإنّ من كان وحده لا يجد معه من يتكلم، ول يسلم في الغالب من آفاته إلا من آثر الخلوة على الاجتماع.

٢ - السلامة من آفات النظر، فإنّ من كان معتزلا عن الناس سلم من النظر إلى ما هم منكبّون عليه من زهرة الدنيا وزخرفها، قال بعضهم:

(من كثرت لحظاته دامت حسراته).

٣ - حفظ القلب وصونه عن الرياء والمداهنة وغيرهما من الأمراض.

٤ - حصول الزهد في الدنيا والقناعة منها، وفي ذلك شرف العبد وكماله.

٥ - السلامة من صحبة الأشرار ومخالطة الأرذال، وفي مخالطتهم فساد عظيم.

٦ - التفرغ للعبادة والذكر، والعزم على التقوى والبر.

٧ - وجدان حلاوة الطاعات، وتمكن لذيذ المناجاة بفراغ سره، قال

أبو طالب المكي في القوت : (ولا يكون المريد صادقا حتى يجد في الخلوة من الحلاوة والنشاط والقوة ما لا يجده في العلانية).

٨ - راحة القلب والبدن، فإن في مخالطة الناس ما يوجب تعب القلب.

٩ - صيانة نفسه ودينه من التعرض للشرور والخصومات التي توجبها الخلطة.

١٠ - التمكن من عبادة التفكر والاعتبار، وهو المقصود الأعظم من الخلوة) (١).

هذه نبذة يسيرة من أقوال السادة العلماء الأفاضل، تبين بوضوح أن الخلوة هي السبيل العملي الذي سنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للناس، كي يقوى إيمانهم، وتصفو نفوسهم، وتسمو أرواحهم، وتتطهر قلوبهم، وتتأهل لتجليات الله تعالى.

أ ليس هذا التوجيه من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سببا للتعرف على فاطر السموات والأرض؟

أ ليس هذا أساسا للأذواق والمواجيد الصوفية، وسبيلا للكشف والفيض والإشراق والصفاء؟

ألم يقل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حديث: سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ... ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه (٢).

أ ليس هذا الحديث دليلا قاطعا على مشروعية الخلوة لذكر الله تعالى؟.

__________

(١) إيقاظ الهمم في شرح الحكم لأحمد بن عجيبة ج ١/ص ٣٠.

(٢) رواه البخاري في صحيحه في كتاب الرقاق عن أبي هريرة رضي الله عنه.

وفي هذه الخلوة يذكر الصوفي ربه خاليا فيغمره بأنواره ويحظى بمجالسته أهل ذكري أهل مجالستي (١). لا يدور بخلده أي طائف يشغله عن ربه، حتى إنه لينسى نفسه في حضرة القدس الأعلى.

وما أحسن قول عمر بن الفارض رحمه الله تعالى معبرا عن تلك الحالة الشائقة:

ولقد خلوت مع الحبيب وبيننا ... سرّ أرقّ من النسيم إذا سرى

فدهشت بين جماله وجلاله ... وغدا لسان الحال عني مخبرا

فتفيض عيناه دمعا مما عرف من الحق، ذاهلا بالله خاشعا له مستأنسا بحضرته:

وليّ الله ليس له أنيس ... سوى الرحمن فهو له جليس

فيذكره ويذكره فيبكي ... وحيد الدهر جوهره نفيس

فالعبد المقصر إذا أراد اللحاق بهؤلاء الأولياء المخلصين خلا بنفسه الأمارة بالسوء؛ فعاتبها وزجرها وصدق في سيره إلى ربه، فرقّ قلبه، وذرفت عيناه بالدمع حزنا وأسفا على ضياع عمره في اللهو والغفلة قائلا:

على نفسه فليبك من ضاع عمره ... وليس له فيها نصيب ولا سهم

فانتبه من رقدته، وصحا من غفلته، وأقبل على ربه راجيا عفوه وغفرانه ومعاهدا إياه على طاعته وعبادته، ففرح الله بتوبته حين تاب، وأقبل عليه حين تقرب منه. قال تعالى في الحديث القدسي: وإن تقرّب إليّ شبرا تقربت إليه ذراعا، وإذ تقرّب إليّ ذراعا تقربت إليه

__________

(١) أخرجه الإمام أحمد في مسنده من حديث طويل.

باعا، وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة (١). واستحق - ببشارة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم - إظلال الله تعالى له يوم الحر الأكبر في ظل عرشه والناس في حر الشمس، قد صهرتهم في ذلك الموقف الرهيب.

وأخيرا فلعل القارئ الكريم بعد هذه النصوص الصريحة والنقول الكثيرة عن العلماء الأعلام الذين نأخذ عنهم تعاليم ديننا تبيّن له أن الخلوة مشروعة في الإسلام، وليست مبتدعة، وأنها ليست غاية تقصد، بل وسيلة لشفاء القلب من علله وأمراضه، حتى يكون سليما، فينجو صاحبه يوم الحساب الأكبر {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ ولا بَنُونَ (٨٨) إِلّا مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: ٨٨ - ٨٩].

وليست الخلوة عزلة دائمة، وانزواء مستمرا عن الناس، فكما أن المريض يقضي فترة يسيرة من الوقت في المستشفى كي يتخلص من أمراضه الجسدية، ثم يخرج للعمل بصحة أوفر ومناعة أقوى، متلذذا بنعيم العافية؛ فكذلك المسلم يقضي في الخلوة فترة يسيرة، يخرج بعدها للحياة العملية، قوي الصلة بربه، عامر القلب بالإيمان واليقين متمتع بالمناعة القوية من تسرب بهارج الحياة الخادعة ومفاتنها المغرية إلى نفسه، وخصوص بعد أن اطلع على حقائقها الفانية، وتذوّق معنى قوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْه فانٍ} [الرحمن: ٢٦].

فكم نرى من الناس من يهتم بجسمه الفاني ويوفر له أسباب الصحة،

__________

(١) من حديث قدسي أوله: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني. فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إلي شبرا ... . الحديث أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب التوحيد عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ويفرغ له كثيرا من وقته للاستجمام والاستشفاء والراحة، فإذا دعي إلى تطبيب قلبه وتهذيب نفسه، في فترة وجيزة يخلو فيها بربه، إذا به يعرض ويستغرب، ويعتبر ذلك - لجهله - ضياعا للوقت، وابتداعا لا أصل له في الدين. فمثل هذا ينطبق عليه قول بعضهم:

تطبّب جسمك الفاني ليبقى ... وتترك قلبك الباقي مريضا

فلو فهم حقيقة الإسلام، وأنه دعا لإصلاح الأبدان والقلوب معا لاهتم بقلبه، كما يهتم بجسمه:

يا خادم الجسم كم تسعى ... لخدمته أتطلب الربح مما فيه خسران

أقبل على النفس واستكمل فضائلها ... فأنت بالروح لا بالجسم إنسان

فعلى المؤمن أن تكون له خلوات يراقب بها ربه، ويحاسب نفسه على ما قدمت من خير أو شر.

ولقد كان شيخي وسيدي محمد الهاشمي رحمه الله تعالى يرغب مريديه بالخلوة حيث يجلس المريد منفردا في مكان منعزل عن الناس بعيد عن صخب الدنيا وضوضائها، ثم يأذن له الشيخ بذكر الاسم المفرد [الله] ليردده مستغرقا جميع أوقاته في الليل والنهار، لا يتوقف إلا لصلاة أو طعام أو نوم، ولا يشغل نفسه بالتحدث إلى الناس، بل يتفرغ للذكر موافقة لقوله تعالى: {واُذْكُرِ اِسْمَ رَبِّكَ وتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل: ٨].

ويواصل الذكر ملاحظا قلبه طاردا عنه أنواع الوساوس والخواطر وصور الأكوان، جامعا قلبه على الله تعالى، مستعينا بما يمنحه شيخه من خبرته ومعارفه وأحواله وتوجيهاته.

وحينئذ ينفذ الذكر إلى سويداء قلبه؛ فيرتسم الاسم المفرد فيه، وترتحل عنه الغفلة، وتزول الأغيار، ويشعر بحلاوة الأنس بالله تعالى،



  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!