موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

البحث في قصائد الشيخ الأكبر.

طبعة محققة من الديوان الكبير.

نسخة محققة الذخائر والأعلاق في شرح ترجمان الأشواق.

قصائد الفتوحات المكية.

القصيدة التائية.

الشعر عند الشيخ محي الدين

إنَّ الشعر يعبِّر على ما انطوى عليه الوجدان عن طريق التلميح والتلويح، ولولاه لكان الكلام سطحياً مباشراً يؤدي إلى الملل بسرعة. وبما أنَّ الشعر بطبيعته مبنيٌّ على الإجمال والاختصار والرمز والإشارة، لذلك كان أداة مهمة استخدمه الصوفية في التعبير عن تجاربهم وأحوالهم، وطريقة أساسية يتَّبعونها في إيصال علومهم ومعارفهم إلى المريدين المبتدئين والشيوخ الآخرين. ولقد أثَّر الشعر الصوفي على الشعر وفنِّ الكتابة، فألبسه ثوباً متلألئاً فيه الكثير من الغموض، كما فيه الكثير من الإيحاء الذي يولِّد صوراً جمالية لا تتناهى.

يتَّبع الشيخ محي الدين في شعره أسلوباً متميِّزاً يعتمد على بساطة التعبير، مع وجود إشارات رمزية تفتح أبواباً كثيرة تقود إلى مستويات أخرى من التأويل. إنّ هذه الإشارات الرمزية ترقى بالقارئ إلى فضاء فسيح يتيح له مجالاً واسعاً من الحرية في استنباط المعاني التي ترمي إليها تلك الإشارات المترامية بين شطري الأبيات الشعرية، خاصة وأنّ هذا الأسلوب البياني، الخاص للشيخ محي الدين، يكسوه نوع غريب من السحر، اكتسبه بشكل عفوي أثناء بروزه من بحر الباطن. بذلك يستطيع الشيخ التعبير عن كثير من المعاني التي لا يمكن التعبير عنها باللغة التقليدية، وليس الهدف من هذا الأسلوب الرمزي الالتفاف على القيم الدينية والأخلاقية لإيصال معان مخالفة للعقيدة أو للشريعة، وإنما فتح آفاق مختلفة لدى القارئ ليستنبط تلك المعاني الجديدة بنفسه بما يتوافق مع عقيدته ومع وعيه وإدراكه ومستواه المعرفي، بعد أن كان لفترة طويلة تحت تأثير عبارات جامدة ذات نمط تقليدي يتميز بالتكرار وعدم التجديد، مما هو موجود عادة في الكتب الفقهية التعليمية الموجهة إلى العامة.

إنَّ توظيف الشيخ محي الدين للأسلوب الشعري يدعو القارئ إلى التفكُّر والتأمُّل، ومحاولة الدخول إلى عالم المشاهدة، لكي يعيش الحالة الوجدانية التي تُعبِّر عنها القصيدة، ولذلك لابدَّ أن يكتسب القارئ بعض أذواق الصوفية ويتشرَّب ببعض أنفاسهم حتى يستطيع قراءة نصوصهم، ويتدرّج بعدها إلى أن يفهم أقوالهم، ثم يرقى على معارج مشاهداتهم، بعد أن يكون قد تخلَّص بشكل تدريجي من تبعات آرائه السابقة وحدود تصوراته العقلية المبنية على الرواسب الفكرية التقليدية، لأن تلك الإشارات ل يمكن أن تكشف عن مكنوناتها البعيدة إلا لمن يتفاعل بشكل عميق مع التجربة الروحية التي أدَّت إلى هذه التجليات والمكاشفات.

بالإضافة إلى هذا الديوان ذي الطبيعة الخاصة، فقد كتب الشيخ محي الدين العديد من الدواوين العامة مثل "الديوان الكبير" الذي جمع قصائد متنوعة في ستة أجزاء، وديوان الزينبيات، وديوان المعشرات، وديوان المعارف الإلهية. فهو من أخصب الشعراء قريحة وأكثرهم فيضاً وأغناهم تعبيراً عما يجول في الخيال. وقد بلغ مجموع م نظمه أكثر من خمسين ألف بيت، منها أكثر من سبعة آلاف بيت في الفتوحات المكية ضمته حوالي ألف وخمسمائة قصيدة، حيث اعتاد أن يبدأ شرحه لأيِّ موضوع جديد أو فصل أو باب من أبواب الكتاب بقصيدة شعرية تختصر الكثير من الإشارات التي يريد أن يوضحها أو يشرحها.

إنَّ من يتأمّل أشعار الشيخ محي الدين يجد أنَّ الشعر ينساب على لسانه من غير فكر ولا روية، فهو يعبّر بالشعر عن الحقائق والمشاعر والأذواق والإشارات التي لا يساعد النثر في التعبير عنها، مستعملاً في ذلك كلَّ أنواع البحور والموشحات بمختلف أشكالها. وهو يكتب الشعر في اليقظة أو في المنام.

قبل وفاته بنحو أربع سنوات، جمع الشيخ محي الدين بعض أشعاره في "ديوان المعارف الإلٰهية واللطائف الروحانية"، وقد شبَّه في مقدمته الوجود كلَّه ببيت شعر، وقرَّرَ أنَّه لا يوجد على الحقيقة نثر! فيقول:

الحمد لله الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، وأنزل المقادير والأوزان، وأبدع الأرواح وخلق الأبدان، ورتَّب الأمور في جميع الأكوان، على أحسن نظام وأبدعِ إتقان، عطف بآخره على أوله، وألحق أبده في نفي النهاية بأزله، وجعله متجانس الصور متماثل السور، فكأنه قريض على رُويّ التوحيد، ينطق بلسان التحميد، فهو كلماته التي لا تنفد، وسلطانه الذي لا يُبعد، جعل الوجود سبحانه كبيت الشعر في التركيب والنظم، وخصه بما خص به الشعر من الحكم، فجعله قائما على سببين، محفوظا بوتدين: سبب خفيف وهو عالم الأرواح، وسبب ثقيل وهو عالم الأشباح، ووتد مجموع وهو حال التركيب والإنشاء، ووتد مفروق وهو حال تحلل الأجزاء، فمدار جميع الخلائق على هذه الحقائق ... النظم هو الجوهر الثابت، والنثر هو الفرع النابت، لا يظهر نثر إلا في عالم الكون، لا في حضرة العين، وإذا حُقق هذا الأمر، فما ثَمَّ نثر؛ أليس الشعر عين المقادير والأوزان؟ فانظر فيه تجده في وجود الأعيان ... وما مُنع النبي صلى الله عليه وسلم من الشعر لهوانه، ولا لانحطاط مكانته ومكانه، لكن لَمَّا كان مبنيا على الإشارات والرموز، فإنه من الشعور، والمطلوب من الرسول البيان للكافة بأوضح العبارات. لهذا لم يجيء به الرسول. فما قال تعالى: ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ﴾ [الشعراء: 69] إلا لأجل قولهم إنه شاعر، فأخبر الله تعالى أن الذي جاء به من عند الله وعلمه، إنما هو ذكر وقرآن مبين، ما هو شعر كما زعمتم، وما في هذا ذمٌّ للشعر ولا حمد، وإنما جاء ليبيِّن ما أرسل به، فهو إنباء وحقيقة.

ثم يبين الشيخ مناسبة جذالته في الشعر من غير روية ولا فكر، فيقول:

وكان سبب تلفظي بالشعر أني رأيت في الواقعة ملِكاً جاءني بقطعة نور بيضاء كأنها قطعة نور الشمس، فقلت: ما هذا؟ فقيل لي: سورة الشعراء. فابتلعتها، فأحسست بشَعرة انبعثت من صدري إلى حلقي إلى فمي حيوانًا لها رأس ولسان وعينان وشفتان، فامتدَّت من فمي إلى أن ضربت برأسها الأفقين، أفقَ المشرق والمغرب، ثم انقبضت ورجعت إلى صدري. فعلمت أن كلامي يبلغ المشرق والمغرب، ورجعت إلى حسي وأنا أتلفَّظ بالشعر من غير روية ولا فكرة، وما زال الإمداد علي هلم جرّا. فلأجل هذا المشهد الأسنى، قيدت ما تيسر على ذكري في هذا الديوان، والذي فاتني أكثر، فكل ما فيه بحمد الله إنما هو إلقاء إلٰهي ونفث قدسي روحي، وورث علوي وإحساني. فالمشكور خالقه لا كاسبه، والعبد الضعيف مقيده وكاتبه ...

ثم يؤكد كذلك، كما فعل في بداية ترجمان الأشواق، أنه لا يقصد الغزل والتشبيب لذاته، وإنما هو كناية عن أحوال ومقامات ومعارف إليهية، فيقول:

وربما يقع في هذا النظم ذكر قوم من العارفين وغيرهم على طريق المدح والتزكية والغزل والتشبيب، وليس المراد الشخص المذكور وإنما المراد اسم ذلك الشخص من الأسماء الإلٰهية المحجوبة بحُجب الأنوار، كعبد العزيز وهو حال العبد في مشهد العزة الإلٰهية، وشبه هذا، ... فإذا أثنيت فإنما أثني على الحال والمقام الذي ل يقبل التعبير، فإن الكلام على المقامات وما تعطيه هو شأن المحققين، ليس الكلام في الناس من شأنهم. وكذلك إذا وقع في ديواني هذا ما يتعلق بالغزل والتشبيب والخمور ومجالس الأنس والنساء وأسمائهن والغلمان، فليس المقصود بذكري ما يذهب إليه الشعراء من الغزل في أعيان المذكورين، وإنما قصدي علوماً إلٰهية وأسراراً ربانية. وقد شرحت بعض ما ذكرته في جزء لنا سميناه "الذخائر والأعلاق"، شرحنا به ما قصدناه بالغزل في جزء لنا فيه يسمى "ترجمان الأشواق" ... وليس في كلامي كله، منثورة ومنظومة، واوٌ ولا كلمة ولا حرف زائدٌ، ولا حشوٌ أصلًا، فما أقصد منه حرفًا ولا ترتيبًا خاصاً إل لمعنى. وإني لا أرى المُنطقَ إلا الله، ولا يَفعل شيئاً عبثاً ولا أمراً لغير حكمة. وإن لم يفهم ذلك الغير فلا أبالي. وإذا سُئلت عن شيء من ذلك بيَّنتُه. وقد سُئلت وأبنت عن ذلك غير مرة، ولا يعطى طريقنا غير هذا.



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!