موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

كتاب حقائق عن التصوف

للشيخ عبد القادر عيسى الحسيني الشاذلي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


فضله

فضله:

الشكر من أعلى المقامات، لأنه يشمل القلب واللسان والجوارح، ولأنه يتضمن الصبر والرضا والحمد وكثيرا من العبادات البدنية والقلبية، ولهذا أمر الله تعالى به، ونهى عن ضده، وهو الكفر والجحود، فقال: {وَاشْكُرُوا لِي ولا تَكْفُرُونِ} [البقرة: ١٥٢].

والشكر من أعظم صفات الرسل الكرام عليهم الصلاة والسّلام.

قال الله تعالى في وصف خليله سيدنا إبراهيم عليه السّلام: {إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتًا لله حَنِيفًا ولَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٠) شاكِرًا لِأَنْعُمِهِ} [النحل: ١٢٠ - ١٢١]. وقال تعالى عن سيدنا نوح عليه السّلام: {إِنَّهُ كانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء: ٣]. أما حبيب الله ورسوله سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم فقد كان يجهد نفسه في العبادة وإحياء الليالي، والقيام بين يدي ربه خاشعا متبتلا متحققا بمقام الشكر، ولهذا لما سئل عن سبب قيامه وإجهاد نفسه، حتى تورمت قدماه قال: أفلا أكون عبدا شكورا (١).

وقد ظن السائل أن سبب العبادة هو طلب المغفرة وقد غفر الله تعالى له صلّى الله عليه وسلّم، ولكن جواب الرسول صلّى الله عليه وسلّم رفع همة السائل إلى مقام الشكر الذي هو أعلى مقامات العبدية.

وكما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان خير من تحقق بالشكر؛ كذلك كان يدعو أصحابه رضي الله عنهم وسائر المؤمنين إلى التحقق بهذا المقام العظيم والتوجه إلى الله تعالى بالدعاء عقب كل صلاة، أن يمن الله عليهم بالإعانة على الذكر والشكر، فقال صلّى الله عليه وسلّم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه: أوصيك

__________

(١) أخرجه البخاري في صحيحه وقد مر ص ٣١٢.

يا معاذ لا تدعن في دبر كل صلاة تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك (١).

ولعلوّ مقام الشكر ورفعة منزلته كان مرتقاه صعبا، والتحقق به يحتاج إلى مجاهدات وسلوك، مع الصدق والصبر والاستقامة، ولهذا كان الشاكرون نادرين، لأن الكرام قليل، وقد وصفهم الله بالقلة حين قال: {وقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ اَلشَّكُورُ} [سبأ: ١٣].

كما وصف معظم الناس بعدم الشكر، بالرغم من نعم الله عليهم وسعة فضله وجوده، قال تعالى: {وإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى اَلنّاسِ ولَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ} [النمل: ٧٣].

ولهذا فإن الله تعالى كثيرا ما يذكّر الناس في القرآن الكريم بنعمه الكبرى ومننه العظمى، وكثيرا ما يدعو إلى التفكر في الكون، كي ندرك ما أحاطنا به من جلائل النعم وبدائع الإحسان، مما يعجز الإنسان عن تعداده والإحاطة به. كل ذلك كي نشكره تعالى حق الشكر، قال تعالى: {والله أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ ل تَعْلَمُونَ شَيْئًا وجَعَلَ لَكُمُ اَلسَّمْعَ والْأَبْصارَ والْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: ٧٧].

وقد وصف الله تعالى الإنسان العاقل الذي يتمتع بالنضوج الفكري والكمال الإنساني، ويبلغ سن الأربعين، بأنه يرى نعم الله المحيطة به، ويشهد فضل الله عليه، فيلجأ إلى الله تعالى ضارعا أن يوفقه للشكر. قال تعالى: {حَتّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وعَلى والِدَيَّ وأَنْ أَعْمَلَ صالِحً تَرْضاهُ} [الأحقاف: ١٥].

__________

(١) رواه أبو داود في سننه في باب الاستغفار، ورواه النسائي في كتاب الافتتاح ورواه الحاكم في المستدرك ج ١. ص ٤٩٩. وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي.

وقد جعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منزلة الذي يتنعم برزق الله ويشكره بمنزلة الذي يعاني العبادات ويصبر على مشقتها، فقال: الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر (١).

ثم إن الشكر هو خير وسيلة لبقاء النعمة واستمرارها، وقد قيل: عقال النعمة الشكر. وقال ابن عطاء الله رحمه الله تعالى في حكمه: (من لم يشكر النعم فقد تعرض لزوالها، ومن شكرها فقد قيّدها بعقالها) (٢).

كما أن عدم الشكر ومقابلة النعم بالكفر والجحود يورث غضب الله تعالى وعقابه وسلب نعمته، كما قال تعالى: {وضَرَبَ الله مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله فَأَذاقَهَا الله لِباسَ الْجُوعِ والْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: ١١٢].

وقد وعد الله تعالى المؤمنين أن يزيد نعمه عليهم إذا هم قابلوها بالشكر فقال: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: ٧].

والحقيقة أن الشاكر يجلب الخير لنفسه، حين يشكر الله تعالى؛ إذ يغنم بشكره مزيد نعم الله تعالى عليه، واستمرار فضله، وعظيم حبه وجميل ثنائه قال تعالى: {ومَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ومَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل: ٤٠].

وبعد أن تحقق السادة الصوفية بالشكر، وعرفوا جليل مقامه وكبير فضله، دعو الناس إليه، ورغّبوا كل من يكرمه الله تعالى بنعمة دنيوية أو

__________

(١) أخرجه الترمذي في كتاب صفة القيامة عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(٢) إيقاظ الهمم في شرح الحكم لابن عجيبة ج ١. ص ١٠٠.



  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!