موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

كتاب حقائق عن التصوف

للشيخ عبد القادر عيسى الحسيني الشاذلي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


كشف العارفين

ولو أردنا أن نستقصي تراجم الصحابة الكرام رضي الله عنهم في كشفهم وفراستهم، لخرجنا عن موضوعنا في رسالتنا هذه.

كشف العارفين:

روي عن الإمام الشافعي ومحمد بن الحسن رحمهما الله تعالى:

(أنهما كانا بفناء الكعبة، ورجل على باب المسجد فقال أحدهما: أراه نجارا، وقال الآخر: بل حدادا، فتبادر من حضر إلى الرجل فسأله فقال: كنت نجارا وأنا اليوم حداد) (١).

وعن أبي سعيد الخراز رحمه الله تعالى قال: (دخلت المسجد الحرام، فرأيت فقيرا عليه خرقتان، فقلت في نفسي: هذا وأشباهه كلّ على الناس؛ فناداني وقال: {واِعْلَمُوا أَنَّ الله يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [البقرة: ٢٣٥]. فاستغفرت الله في سرّي، فناداني وقال: {وهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ اَلتَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ} [الشورى: ٢٥]. ثم غاب عني، ولم أره) (٢).

ومثل هذا وقع لغيره. يقول خير النسّاج رحمه الله تعالى: (كنت جالسا في بيتي، فوقع لي أن الجنيد بالباب، فنفيت عن قلبي ذلك، فوقع ثانيا وثالثا، فخرجت، فإذا الجنيد، فقال: لم لم تخرج مع الخاطر الأول؟) (٣).

وحكي عن إبراهيم الخوّاص رحمه الله تعالى قال: (كنت في بغداد في جامع المدينة، وهناك جماعة من الفقراء، فأقبل شاب ظريف طيب

__________

(١) تفسير القرطبي ج ١٠. ص ٤٤.

(٢) الإحياء للغزالي ج ٣ ص ٢١.

(٣) الرسالة القشيرية ص ١١٠.

الرائحة، حسن الحرمة حسن الوجه، فقلت لأصحابنا: يقع لي أنه يهودي، فكلهم كرهوا ذلك، فخرجت وخرج الشاب، ثم رجع إليهم وقال: إيش قال الشيخ؟ فاحتشموه، فألح عليهم فقالوا: قال: إنك يهودي. قال: فجاءني، وأكبّ على يدي وأسلم، فقيل: ما السبب؟ قال نجد في كتبنا أن الصدّيق لا تخطئ فراسته فقلت: أمتحن المسلمين، فتأملتهم فقلت: إن كان فيهم صدّيق، ففي هذه الطائفة لأنهم يقولون حديثه سبحانه، فلبّست عليهم، فلم اطّلع عليّ وتفرّس فيّ علمت أنه صدّيق، وصار الشاب من كبار الصوفية) (١).

ولا عجب في ذلك فقد أخبر عن هذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقوله: إن لله عبادا يعرفون الناس بالتوسم (٢).

ووقف نصراني على الجنيد رحمه الله تعالى، وهو يتكلم في الجامع على الناس، فقال: أيها الشيخ! ما معنى حديث: اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله (٣). فأطرق الجنيد ثم رفع رأسه وقال: أسلم فقد جاء وقت إسلامك، فأسلم الغلام (٤).

وحديث الفراسة أصل في الكشف الذي يقع لكثير من الأولياء، تجد الواحد منهم يكاشف الشخص بما حصل له في غيبته، كأنه حاضر معه.

وهي فتنة في حق من لم يتخلق بأخلاق الرحمن.

وقد يكون الكشف عن أصحاب القبور منعّمين أو معذّبين:

__________

(١) الرسالة القشيرية ص ١١٠.

(٢) رواه البزار والطبراني في الأوسط عن أنس بن مالك. وإسناده حسن، كما في مجمع الزوائد ج ١٠ ص ٢٦٨.

(٣) رواه الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري. في كتاب التفسير.

(٤) الفتاوى الحديثية لابن حجر الهيثمي ص ٢٢٩.

قال العلامة عبد الرؤوف المناوي رحمه الله تعالى عند شرحه حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لو لا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر (١). وإنما أحبّ إسماعهم عذاب القبر دون غيره من الأهوال لأنه أول المنازل. وفيه أن الكشف بحسب الطاقة، ومن كوشف بما لا يطيقه هلك.

تنبيه: قال بعض الصوفية: (والاطلاع على المعذّبين والمنعّمين في قبورهم واقع لكثير من الرجال، وهو هول عظيم، يموت صاحبه في اليوم والليلة موتات، ويستغيث ويسأل الله أن يحجبه عنه، وهذا المقام لا يحصل للعبد إلا بعد غلبة روحانيته على جسمانيته، حتى يكون كالروحانيين. فالذين خاطبهم الشارع هنا هم الذين غلبت جسمانيتهم لا من غلبت روحانيتهم، والمصطفى صلّى الله عليه وسلّم كان يخاطب كل قوم بما يليق بهم) (٢).

وما حكي من فراسة المشايخ وإخبارهم عن اعتقادات الناس وضمائرهم يخرج عن الحصر، إلا أن الجاحد لا تفيده هذه الشواهد والأخبار مما ذكرناه من النقول الصحيحة عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم؛ مادام لا يؤمن إلا بالمادة ولا يصدّق ما وراءها.

قال تاج الدين السبكي رحمه الله تعالى: (اعلم أن المرء إذا صفا قلبه صار ينظر بنور الله، فلا يقع بصره على كدر أو صاف إلا عرفه. ثم تختلف المقامات، فمنهم من يعرف أن هناك كدرا ولا يدري ما أصله،

__________

(١) أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الجنة ومتعة نعيمها، والنسائي عن أنس ابن مالك رضي الله عنه.

(٢) فيض القدير، شرح الجامع الصغير للعلامة المناوي ج ٥. ص ٣٤٢.

ومنهم من يكون أعلى من هذا المقام فيدري أصله، كما اتفق لعثمان رضي الله عنه، فإنّ تأمّل الرجل للمرأة أورثه كدرا فأبصره عثمان، وفهم سببه.

وهنا دقيقة: وهي أن كل معصية لها كدر، وتورث نكتة سوداء في القلب فيكون رينا، كما قال تعالى: {كَلاّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: ١٤]. إلى أن يستحكم والعياذ بالله، فيظلم القلب وتغلق أبواب النور فيطبع عليه، فلا يبقى سبيل إلى التوبة. كما قال تعالى: {وطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} [التوبة: ٨٧].

إذا عرفت هذا؛ فالصغيرة من المعاصي تورث كدرا صغيرا بقدرها قريب المحو بالاستغفار وغيره من المكفرات. ولا يدركه إلا ذو بصر حادّ كعثمان رضي الله عنه، حيث أدرك هذا الكدر اليسير، فإنّ تأمّل المرأة والنظر إليها أدركه عثمان وعرف أصله (١). وهذا مقام عال يخضع له كثير من المقامات.

__________

(١) قال العلامة الألوسي في كتابه روح المعاني عند قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ} [النور: ٣٠]: (ثم إن غض البصر عم يحرم النظر إليه واجب، ونظرة الفجأة - لا تعمّد فيها - معفو عنها. فقد أخرج أبو داود، والترمذي وغيرهما عن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى وليست لك الآخرة تفسير روح المعاني للعلامة الألوسي ج ١٨. ص ١٢٥.

وعن أبي موسى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: كل عين زانية . رواه البزار والطبراني ورجالهما ثقات.

وعن علقمة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: زنا العينين النظر . رواه الطبراني. الحديثان في مجمع الزوائد. ج ٦. ص ٢٥٦.

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، يعني عن ربه =

وإذا انضم إلى الصغيرة صغيرة أخرى ازداد الكدر، وإذا تكاثرت الذنوب حتى وصلت - والعياذ بالله - إلى ما وصفناه من ظلام القلوب صار بحيث يشاهده كل ذي بصر، فمن رأى متضمخا بالمعاصي قد أظلم قلبه؛ ولم يتفرس فيه ذلك فليعلم أنه إنما لم يبصره لما عنده من العمى المانع للأبصار، وإلا فلو كان بصيرا لأبصر هذا الظلام الداجي، فبقدر بصره يبصر، فافهم ما نتحفك به) (١).

فالفراسة أمر جائز الوقوع، وهي منحة إلهية يكرم الله بها عباده الصالحين الذين تمسكوا بدينهم، وحفظوا جوارحهم، وصقلوا قلوبهم، وهذبوا نفوسهم.

قال المناوي في شرح الجامع الصغير عند قوله عليه الصلاة والسّلام: إنّ لكل قوم فراسة، وإنما يعرفها الأشراف : (قاعدة الفراسة وأسّها: الغض عن المحارم، قال الكرماني: من عمّر ظاهره باتباع السنة، وباطنه بدوم المراقبة، وكفّ نفسه عن الشهوات، وغض بصره عن المخالفات، واعتاد أكل الحلال لم تخطئ فراسته ابدا. اهـ

__________

= عز وجل: النظرة سهم مسموم من سهام إبليس، من تركها من مخافتي أبدلته إيمانا يجد حلاوته في قلبه . رواه الطبراني والحاكم من حديث حذيفة وقال: صحيح الإسناد.

وعن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: لتغضّن أبصاركم ولتحفظن فروجكم، أو ليكسفن الله وجوهكم . رواه الطبراني.

وعنه أيضا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: ما من مسلم ينظر إلى محاسن امرأة ثم يغض بصره إلا أحدث له الله عبادة يجد حلاوتها في قلبه . رواه الإمام أحمد. في الترغيب والترهيب ج ٣. ص ٣٤ - ٣٦.

(١) حجة الله على العالمين للنبهاني البيروتي ص ٨٦٢.

فمن وفّق لذلك أبصر الحقائق عيانا بقلبه) (١).

وعلى كل فالقلوب تختلف باختلاف صقلها وتنظيفها من أدران الذنوب المظلمة، فهي كالزجاج كلما صقل ازداد ثمنه، وكشف الجراثيم التي لا ترى. فأين زجاج النافذة من زجاج المجهر الذي يكشف الجراثيم الدقيقة؟ وكما لا يقاس زجاج النافذة بزجاج المجهر، كذلك لا تقاس القلوب الصافية المصقولة بالقلوب المكدرة المظلمة، ولا تقاس الملائكة بالشياطين.

فمن جدّ وجد، ومن سار على الطريق وصل، ومن أتقن المقدمة وصل إلى النتيجة، والبدايات تدل على النهايات.

***

__________

(١) فيض القدير شرح الجامع الصغير للمناوي ج ٢. ص ٥١٥.



  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!