موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

كتاب حقائق عن التصوف

للشيخ عبد القادر عيسى الحسيني الشاذلي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


الإنشاد والسماع في المسجد

الإنشاد والسماع في المسجد

عن أبيّ بن كعب رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: إن من الشعر حكمة (١).

وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان ينقل اللّبن مع القوم في بناء المسجد وهم يرتجزون (٢) ويقولون:

اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة ... فانصر الأنصار والمهاجرة (٣)

وعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: خرجنا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى خيبر، فسرنا ليلا، فقال رجل من القوم لعامر بن الأكوع ألا تسمعنا من هنيهاتك؟ وكان عامر رجلا شاعرا، فنزل يحدو بالقوم ويقول:

اللهم لو لا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا

فاغفر فداء لك ما اقتضينا ... وثبّت الأقدام إن لاقينا

وألقين سكينة علينا ... إنا إذا صيح بنا أتينا

وبالصياح عوّلوا علينا

فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من هذا السائق؟ قالوا: عامر بن الأكوع، قال: يرحمه الله ، فقال رجل من القوم: وجبت يا رسول الله، لو لا أمتعتن به، فأصيب ... الحديث (٣).

__________

(١) رواه البخاري في صحيحه في كتاب الأدب. ومسلم في كتاب الجهاد.

(٢) قال ابن الأثير في النهاية : الرجز بحر من بحور الشعر معروف، ونوع من أنواعه يكون كل مصراع منه مفردا، وتسمى قصائده أراجيز، فهو كهيئة السجع إلا أنه في وزن الشعر. ج ٢/ص ٧٠.

(٣) رواه البخاري في صحيحه في كتاب الأدب. ومسلم في كتاب الجهاد.

وعن سعيد بن المسيب قال: (مرّ عمر في المسجد وحسان ينشد، فلحظه عمر [أي نظر إليه نظرة إنكار]، فقال: كنت أنشد وفيه من هو خير منك [يريد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم]، ثم التفت إلى أبي هريرة فقال:

(أنشدك بالله أسمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: أجب عني، اللهم أيده بروح القدس؟ قال: نعم) (١).

عن عائشة رضي الله عنها: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يضع لحسان منبر في المسجد يقوم عليه قائما يفاخر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويقول الرسول صلّى الله عليه وسلّم:

إن الله يؤيد حسان بروح القدس ما نافح أو فاخر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (٢).

يقول العلامة السفاريني شارح منظومة الآداب : (وفي رواية أبي بكر بن الأنباري، أن كعب بن زهير لما جاء تائبا وقال قصيدته المشهورة:

بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ... متيّم إثرها لم يفد مكبول

إلى أن وصل:

إن الرسول لسيف يستضاء به ... مهنّد من سيوف الهند مسلول

رمى صلّى الله عليه وسلّم إليه بردة كانت عليه، وأن معاوية بذل فيها عشرة آلاف فقال: ما كنت لأوثر بثوب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحدا، فلما مات كعب بعث

__________

(١) رواه البخاري في صحيحه في كتاب الصلاة. وأول الحديث يا حسان أجب عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، اللهم أيده بروح القدس . ورواه مسلم في صحيحه في باب فضائل حسان بن ثابت.

(٢) رواه مسلم في صحيحه في كتاب فضائل الصحابة وأول الحديث: إن روح القدس ... .

معاوية إلى ورثته بعشرين ألفا فأخذها منهم ... إلى أن قال: تحصّل من إنشاد قصيدة كعب بن زهير رضي الله عنه بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإعطائه صلّى الله عليه وسلّم البردة عدة سنن:

١ - إباحة إنشاد الشعر.

٢ - استماعه في المساجد.

٣ - الإعطاء عليه) (١).

ذكر الإمام الشاطبي في كتابه الاعتصام : (أن أبا الحسن القرافي الصوفي يروي عن الحسن البصري رحمه الله: أن قوما أتوا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقالوا: يا أمير المؤمنين إن لنا إماما إذا فرغ من صلاته تغنّى، فقال عمر رضي الله عنه: من هو؟ فذكر الرجل، فقال:

قوموا بنا إليه، فإنا إن وجهنا إليه يظن أنا تجسسنا عليه أمره، قال: فقام عمر رضي الله عنه مع جماعة من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم حتى أتوا الرجل وهو في المسجد، فلما أن نظر إلى عمر قام فاستقبله فقال: يا أمير المؤمنين ما حاجتك؟ وم جاء بك؟ إن كانت الحاجة لنا كنا أحق بذلك منك أن نأتيك، وإن كانت الحاجة لله فأحق من عظمناه خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال له عمر: ويحك بلغني عنك أمر ساءني. قال: وما هو يا أمير المؤمنين؟ قال: أتتمجّن في عبادتك؟! قال: لا يا أمير المؤمنين، لكنها عظة أعظ بها نفسي. قال عمر: قلها فإن كان كلاما حسنا قلته معك، وإن كان قبيحا نهيتك عنه فقال:

وفؤادي كلما عاتبته ... في مدى الهجران يبغي تعبي

لا أراه الدهر إلا لاهيا ... في تماديه فقد برّح بي

__________

(١) غذاء الألباب ص ١٥٥.

يا قرين السوء ما هذا الصّبّا ... فني العمر كذا في اللعب

وشباب بان عني فمضى ... قبل أن أقضي منه أربي

ما أرجّي بعده إلا الفنا ... ضيّق الشيب عليّ مطلبي

ويح نفسي لا أراها أبدا ... في جميل لا ولا في أدب

نفس لا كنت ولا كان الهوى ... راقبي المولى وخافي وارهبي

فقال عمر رضي الله عنه:

نفس لا كنت ولا كان الهوى راقبي المولى وخافي وارهبي

ثم قال عمر رضي الله عنه: على هذا فليغنّ من غنّى) (١).

وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه: (الشعر كلام؛ فحسنه حسن، وقبيحه قبيح) (٢). وقال العلامة النووي: (لا بأس بإنشاد الشعر في المسجد إذا كان مدحا للنبوة أو الإسلام، أو كان حكمة أو في مكارم الأخلاق، أو الزهد ونحو ذلك من أنواع الخير) (٣).

وقال أبو بكر ابن العربي المالكي شارح سنن الترمذي: (لا بأس بإنشاد الشعر في المسجد إذا كان في مدح الدين وإقامة الشرع) (٤).

__________

(١) الاعتصام للإمام الشاطبي ج ١/ص ٢٢٠.

(٢) قال المحدث ابن حجر العسقلاني: (أخرج البخاري في الأدب المفرد من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا بلفظ: الشعر بمنزلة الكلام فحسنه كحسن الكلام وقبيحه كقبيح الكلام وسنده ضعيف وأخرجه الطبراني.

وقد اشتهر هذا الكلام عن الشافعي رحمه الله، واقتصر ابن بطال على نسبته إليه فقصر وعاب القرطبي المفسر على جماعة من الشافعية الاقتصار على نسبة ذلك للشافعي. فتح الباري في شرح صحيح البخاري للمحدث ابن حجر العسقلاني ج ١٠/ص ٤٤٣.

(٣) شرح صحيح مسلم للإمام النووي كتاب فضائل الصحابة ج ١٦/ص ٤٥.

(٤) تحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي ج ٢/ص ٢٧٦.

وأما الحداء فقد قال حجة الإسلام الغزالي في الإحياء : (لم يزل الحداء وراء الجمال من عادة العرب في زمان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وزمان الصحابة رضي الله عنهم، وما هو إلا أشعار تؤدّى بأصوات طيبة وألحان موزونة، ولم ينقل عن أحد من الصحابة إنكاره) (١).

وعن أنس رضي الله عنه: (أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان في سفر، وكان غلام يحدو بهن يقال له أنجشة، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: رويدك يا أنجشة سوقك بالقوارير قال أبو قلابة: يعني ضعفة النساء) (٢).

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كان للنبي صلّى الله عليه وسلّم حاد يقال له أنجشة، وكان حسن الصوت، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: يا أنجش رويدك لا تكسر القوارير . قال قتادة: يعني ضعفة النساء) (٣).

قال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري: (قال ابن بطال: القوارير: كناية عن النساء اللاتي كن على الإبل التي تساق حينئذ، فأمر عليه السّلام الحادي بالرفق بالحداء، لأنه يحث الإبل حتى تسرع، فإذا أسرعت لم يؤمن على النساء السقوط، وإذا مشت رويدا أمن على النساء السقوط ... إلى أن قال: نقل ابن عبد البر الاتفاق على إباحة الحداء، وفي كلام بعض الحنابلة خلاف فيه، ومن منعه محجوج بالأحاديث الصحيحة.

ويلتحق بالحداء هنا الحداء للحجيج المشتمل على التشوق إلى الحج بذكر الكعبة وغيرها من المشاهد، ونظيره ما يحرّض أهل الجهاد على القتال.

__________

(١) إحياء علوم الدين لحجة الإسلام الغزالي ج ٢/ص ٢٤٢.

(٢) رواه البخاري في صحيحه في كتاب الأدب، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة.

(٣) رواه البخاري في صحيحه في كتاب الأدب.

وأخرج الطبري من طريق ابن جريج قال: سألت عطاء عن الحداء والشعر والغناء، فقال: لا بأس به، ما لم يكن فحشا.

وقال ابن بطال: ما كان في الشعر والرجز ذكرا لله تعالى، وتعظيما له، ووحدانيته، وإيثار طاعته، والاستسلام له فهو حسن مرغّب فيه، وهو المراد من الحديث: إنّ من الشعر حكمة . وما كان كذبا وفحشا فهو مذموم ... إلى أن قال: ومحصله: أن الحداء بالرجز والشعر لم يزل يفعل في الحضرة النبوية، وربما التمس ذلك، وليس هو إل أشعارا توزن بأصوات طيبة، وألحان موزونة) (١).

وقال العلامة السفاريني في منظومة الآداب : (قال في الإقناع وغيره: ويباح الحداء الذي تساق به الإبل ونشيد الأعراب).

وقال السفاريني أيضا: (المذهب الإباحة من غير كراهة لما تضافرت به الأخبار، وتظاهرت به الآثار من إنشاد الأشعار، والحداء في الأسفار، وقد ذكر بعض العلماء الإجماع على إباحة الحداء) (٢).

قال الفقيه خليل النحلاوي الدمشقي في كتابه الحظر والإباحة : الباب السبعون: الغناء وهو السماع. قال في الفتاوي الخيرية (ج ٢/ص ١٦٧) - بعد نقل أقوال العلماء واختلافهم في مسألة السماع -: (وأما سماع السادة الصوفية رضي الله عنهم، فبمعزل عن هذا الخلاف، بل ومرتفع عن درجة الإباحة إلى رتبة المستحب كما صرح به غير واحد من المحققين) (٣).

__________

(١) فتح الباري شرح صحيح البخاري للحافظ أحمد بن حجر العسقلاني ج ١٠/ص ٤٤٢. توفي سنة ٨٥٢ هـ.

(٢) غذاء الألباب شرح منظومة الآداب للعلامة السفاريني ج ١/ص ١٤٥.

(٣) الدرر المباحة في الحظر والإباحة للفقية الشيخ خليل بن عبد القادر الشيباني =

ولما كانت الغاية من الإنشاد الإرشاد والمواعظ والفوائد، حيث إن من طبيعة سماعه إثارة كوامن النفوس، وتهييج مكنونات القلوب، بما فيها من الأنس بالحضرة القدسية، والشوق إلى الأنوار المحمدية، مما اتصف به ساداتنا الصوفية الذين لم يحجبوا بالأصوات لهوا، ولا يجتمعون عبثا، وهم في واد والناس في واد آخر، والسر أنهم سمعوا ما لم يسمع الناس، وعرفوا ما لم يعرف الناس، فسماعهم يثير أحوالهم الحسنة، ويظهر وجدهم، ويبعث ساكن الشوق ويحرك القلب، ولما كانت قلوبهم بربهم متعلقة، وعليه عاكفة، وفي حضرة قربه قائمة؛ فالسماع يسقي أرواحهم، ويسرع في سيرهم إلى الله تعالى، خلافا لسماع الفسقة اللئام؛ يجتمعون على اللهو وآلات الطرب، فيبعث ما في قلوبهم من الفحش والفسق، وينسيهم واجباتهم تجاه الله تعالى، وعلى ذلك لا يمكن قياس الأبرار بالفجار، ولا الصالحين على الطالحين.

وفي معرض الحديث عن فوائد الاستماع لدى ساداتنا الصوفية يطيب للنفس ذكر بعض الشواهد المروية عنهم، فمنها:

ما قاله مسلم العباداني: (قدم علينا صالح المري، وعتبة الغلام، وعبد الواحد بن زيد، ومسلم الأسواري، ونزلوا على الساحل ذات ليلة، فهيأت لهم طعاما، ودعوتهم إليه، فجاؤوا إليّ، ولما وضعت الطعام بين أيديهم قال قائل:

وتلهيك عن دار الخلود مطاعم ... ولذة نفس غيّها غير نافع

__________

= الشهير بالنحلاوي ص ٩٣.

فصاح عتبة الغلام صيحة وخر مغشيا عليه، وبكى القوم، فرفعت الطعام من بين أيديهم، وما ذاقوا والله لقمة منه) (١).

قال أبو عثمان النيسابوري: (أنشد قوّال بين يدي الحارث المحاسبي هذه الأبيات:

أنا في الغربة أبكي ... ما بكت عين غريب

لم أكن يوم خروجي ... من بلادي بمصيب

عجبا لي ولتركي ... وطنا فيه حبيبي

فقام يتواجد ويبكي، حتى رحمه كل من حضره) (٢).

(لمّا ورد ذو النون المصري بغداد جاءه قوم من الصوفية بقوّالهم، وطلبو منه أن يأذن له بأن يقول، فأذن له فأنشد:

صغير هواك عذبني ... فكيف به إذا احتنكا

وأنت جمعت في قلبي ... هوى قد كان مشتركا

أما ترثي لمكتئب ... إذا ضحك الخليّ بكى

فقام ذو النون وسقط على وجهه) (٣).

وروي: (أن أبا الحسين النوري كان مع جماعة في دعوة، فجرى بينهم مسألة في العلم وأبو الحسين ساكت. ثم رفع رأسه وأنشدهم:

ربّ ورقاء هتوف في الضحى ... ذات شجو صدحت في فنن

ذكرت إلفا ودهرا صالحا ... وبكت حزنا فهاجت حزني

__________

(١) الإحياء ج ٢/ص ١٥٢.

(٢) طبقات الصوفية لأبي عبد الرحمن السلمي المتوفى ٤١٢ هـ بتحقيق نور الدين شريبة ص ٦٠.

(٣) الإحياء ج ٢/ص ٢٥٠.

فبكائي ربما أرّقها ... وبكاها ربما أرّقني

ولقد أشكو فما أفهمها ... ولقد تشكو فما تفهمني

غير أني بالجوى أعرفها ... وهي أيضا بالجوى تعرفني

قال: فما بقي أحد من القوم إلا قام وتواجد، ولم يحصل لهم هذا الوجد من العلم الذي خاضوا فيه، وإن كان العلم جدا وحقا) (١).

قال السفاريني في غذاء الألباب : (والسماع مهيج لما في القلوب، محرك لم فيها، فلما كانت قلوب القوم معمورة بذكر الله تعالى، صافية من كدر الشهوات، محترقة بحب الله، ليس فيها سواه، الشوق والوجد والهيجان والقلق كامن في قلوبهم كمون النار في الزناد، فلا تظهر إلا بمصادفة ما يشاكلها؛ فمراد القوم فيما يسمعون إنما هو مصادف ما في قلوبهم فيستثيره بصدمة طروقه، وقوة سلطانه، فتعجز القلوب عن الثبوت عند اصطدامه، فتبعث الجوارح بالحركات والصرخات والصعقات لثوران ما في القلوب، لا أن السماع يحدث في القلوب شيئا.

ولهذا قال أبو القاسم الجنيد قدس الله سره: (السماع لا يحدث في القلوب شيئا، وإنما هو مهيج ما فيها. فتراهم يهيجون من وجدهم، وينطقون من حيث قصدهم، ويتواجدون من حيث كامنات سرائرهم، لا من حيث قول الشاعر، ولا يلتفتون إلى الألفاظ لأن الفهم سبق إلى ما يتخيله الذهن.

وشاهد ذلك كما حكي: أن أبا حكمان الصوفي سمع رجلا يطوف وينادي: [يا سعتر بري] فسقط وغشي عليه، فلما أفاق قيل له في ذلك،

__________

(١) الإحياء. ج ٢/ص ٢٦٣

فقال سمعته وهو يقول: [اسع تر بري]. ألا ترى أن حركة وجده من حيث هو فيه، لا من قول القائل ولا قصده؟.

كما روي عن بعض الشيوخ أنه سمع قائلا يقول: [الخيار عشرة بحبة]. فغلبه الوجد، فسئل عن ذلك فقال: [إذا كان الخيار عشرة بحبة، فما قيمة الأشرار؟!].

فالمحترق بحب الله تعالى لا تمنعه الألفاظ الكثيفة عن فهم المعاني اللطيفة حيث لم يكن واقفا مع نغمة، ولا مشاهدة صورة، فمن ظن أن السماع يرجع إلى رقة المعنى. وطيب النغمة، فهو بعيد من السماع.

قالوا: وإنما السماع حقيقة ربانية ولطيفة روحانية، تسري من السميع المسمع إلى الأسرار بلطائف التحف والأنوار، فتمحق من القلب ما لم يكن، ويبقى فيه ما لم يزل، فهو سماع حق بحق من حق.

قالوا: وأما الحال الذي يلحق المتواجد فمن ضعف حاله عن تحمل الوارد، وذلك لازدحام أنوار اللطائف في دخول باب القلب، فيلحقه دهش، فيعبث بجوارحه، ويستريح إلى الصعقة والصرخة والشهقة، وأكثر ما يكون ذلك لأهل البدايات. وأما أهل النهايات فالغالب عليهم السكون والثبوت لانشراح صدورهم، واتساع سرائرهم للوارد عليهم، فهم في سكونهم متحركون، وفي ثبوتهم متقلقلون، كما قيل لأبي القاسم الجنيد رضي الله عنه: م لنا لا نراك تتحرك عند السماع؟! فقال: {وتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وهِيَ تَمُرُّ مَرَّ اَلسَّحابِ} [النمل:]) (١).

***

__________

(١) غذاء الألباب ١/ ١٣٧.



  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!