موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

شرح مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية

لست العجم بنت النفيس، والمتن للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

شرح المشهد السابع [المتن]

 

 


قال الشيخ رحمة الله عليه:

(ص) [قوله: (أشهدني الحق بمشهد نور الساق، وطلوع نجم الدعاء) ].

(ش) أقول: إنه قد تقدم شرح قوله: (أشهدني) في مواضع.

فقوله: (بمشهد نور الساق) يريد به شهود الحق تعالى في محل كشف الساق وهذا الشهود يكون قد حصل له وهو في الحد الفاصل بين الباطن والآخر، وهذا الحد هو الذي نسميه البرزخ، وإليه الإشارة بقوله تعالى: ومِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون: 100 ]، فلما جرى هذا الشاهد في شهود من الحد المذكور إلى الآخرية كان جريه شهود نور الساق، وهذا النور أشد نورانية مما كان عليه في الحد وحيث حدث هذا النور في هذا الشهود سماه نورا عرفنا به أنه مستقل بذاته يباين نورانية البرزخ التي تلحظ ظلمانية وإليها إشارة النبي صلى الله عليه وسلم بقوله حيث سئل أين يكون الناس وقت التبديل، فقال:

«على الظلمة دون الجسر» فهي ظلمة البرزخ وليست نورانية كباقي الحضرات لكنها تشبه نورانية الحدود، فنورانيتها نورانية إدراك لا تمييز فيه وإن كان الوجود من حيث هو فيها مميزا لكنهم لا يشهد بعضهم بعضا، فالشاهد الذي يقف في هذا الحد الموري عنه بالبرزخ يشهد الآخرية وأفعالها ومما يتضمنه من الصفات من حين المبعث إلى حين القرار، فإن اتصف بالآخرية في هذا الشهود خرج من الحد وقطع الصفات المذكورة، وإن لم يخرج من الحد في حال الشهود فإنه يقطع نصف الصفات والأفعال، وهذا الشاهد لك يخرج في هذا الشهود من الحد، ولهذا قال بمشهد نور الساق، والساق عبارة عن ظهور الله نصف الظهور الحقيقي، وهو الظهور بالصورة، لأنه على رأي علماء الظاهر ليس وراء الصورة شيء، فإذا ظهر الله تعالى بها كان قد كشف عن ساق أي: قد ظهر كل الظهور، وأما على رأي علماء الحقيقة، فإنه إذا ظهر بالصورة كان قد ظهر نصف الظهور، لأن

________________________________________

( 1 ) الظلمة: قد تطلق على العلم بالذات الإلهية. فإنه، أي علم لا يكشف معها غيرها؛ إذ العلم يعطي ظلمة لا يدرك بها شيء كالبصر حين يغشاه نور الشمس عند تعلقه بوسط قرصها الذي هو ينبوعه، فإنه حالتئذ لا يدرك شيئا من المبصرات. ذاته من حيث هو لا ينحصر ليتصور ويشهد في مكان، وإنما ظهوره بالصورة هاهنا من جملة المظاهر، وهذه الصورة هي التي فيها النزول في الثلث الآخر من الليل، لأن ذاته الحقيقية بريئة عن التصوير والتمثيل لكنها من حيث هي تحتوي على صفتي إطلاق وتقييد، فالإطلاق لا يظهر به أبدا لبراءته هناك عن الثنوية والتقييد هو الذي يظهر فيه بالصورة المذكورة، فلما كانت ذاته تحتوي على هاتين الصفتين كان الظهور بالتقييد هو نصف الظهور الحقيقي، فإذا كشف عن ساق كان قد ظهر بالصورة كما قلناه وهو نصف الظهور الحقيقي، فهذا الشاهد قد حصل له هذا الشهود، وقد اتصف الله تعالى له بالصورة التي يظهر فيها عند كشف الساق، وقد شهد هذا الحضور نورانيا شبه نورانية الآخر، فهذه كلها دلائل على أنه قد حصل له هذا الشهود في الحد الموري عنه بالبرزخية والظلمة المنسوبة إليه، وهذه الظلمة تنتقل مع المبعوثين إلى الموقف حتى لا يشهد بعضهم بعضا في حال السير وأيضا في حال تبديل الأراضين والسماوات، فكل هذه صفات مخوفة مهولة لا يشهدها إلا الذي لا يطرأ عليه الخوف تعالى، فلما كان النازلون بالبرزخ في ظلمة كان شهود بعضهم لبعض إدراكا، فعند القيام وإرادة السير اصطحبت هؤلاء الظلمة حاملين لها إلى حيث الوقوف آن التبديل فصاروا محمولين عليها وحملهم باصطحاب شيء من اللطافة، لأنهم آخذون إلى الآخر والآخر عالم لطف، فقد حصل لهذا الشاهد هذا الشهود وهو في هذه الظلمة المذكورة قبل انتقالها حين استقرارها في البرزخ الذي هو الحد، وشهد كيفية كشف الساق في نور ليتميز من الظلمة المذكورة إذ الظلمة ضد النور والضدان لا يجتمعان، وهذا النور يشتمل على الاسم الآخر كله قائما بصفة التقييد المباينة للإطلاق، وهذه الصفة هي ظهور الله بمجموع أسمائه، ولهذا أطلق الشارع صلى الله عليه وسلم على هذا الظهور هذا الاسم.

وقوله: (وطلوع نجم الدعاء) يريد به قوله تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ ويُدْعَوْنَ إِلَى اَلسُّجُودِ [القلم: 42 ]، فطالع الدعاء الذي هو النّجم بنسبة نورانية الساق

________________________________________

( 1 ) الخوف: ما يحذر من المكروه في المستأنف أي المستقبل، وجاز أن يتعلق بالماضي حيث يتذكر فواته في سيئات أعماله. ) البرزخ: العالم المشهود بين عالم المعاني المجردة والأجسام المادية، وإنما قال: العالم المشهود، فإنه إنما يظهر على المشاعر عند تمثله بالصور، وقبله، وبعده، ولكن هذه المشاهدة مختصة بأهل الولاية، إذ من شأنهم رؤية الجبال المتصلة نقطة. في الشهود، ويباينها في عدم التمييز لأننا قلنا في أنوار الطوالع إنها ليست مميزة، وإنما هي ممكنة ليقين الشاهد في الشهود لا غير فهو نور يطلع للشاهد في حال جريه طلوعا عارضا فيمكن يقينه بكل ما شهد في حكم هذا الجري، فإننا لا نزال حائرين من شهود إلى شهود في خلع واحد لطلب مقصود حتى يطلع هذا الطالع المذكور، فيعرفنا أننا قد بلغناه فهو لتمكين لا لتمييز، والدليل عليه أنه يتميز بغيره من الأنوار، فهو مميّز لا مميّز فنور الساق هو المميز لهذا الطالع، وهو النور الذي ظهرت صورة الله به، وهذا الطالع هو الذي يمكن شهود العباد له يوم القيامة بعد الإنكار، فلا يزالون يدعون إلى السجود وهذا النور كامن في ذواتهم كمون اتحاد ودعاء، وهم إلى السجود على سبيل الجري في طلب مقصود كما قلناه، فإذا ظهر هذا الطالع عند المعرفة كان ممكنا لها ويوجب عند هذا التمكين السجود، لأن التمكين هو تحقيق المعرفة فكأنهم تحققوا أنهم عرفوا الله، فوجبت عليهم الطاعة بالفعل، وهذا الفعل هو ظهور شيء من حكم الربوبية والسجود في الحقيقة للرب، ولهذا أنكروا لما قيل لهم: اُسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ [الفرقان: 60 ]، ونزلت الآية محققة لهذا النور وهو قولهم: ومَا اَلرَّحْمنُ [الفرقان:60]، فلما ظهر هذا النجم

________________________________________

( 1 ) الطوالع: أنوار التوحيد، يريد بها الأنوار الشهودية التي تنكشف بها صرافة التوحيد عندما يطلع أهل المعرفة الذين أدركوا الشيء بعينه فبطمس سائر صحو المعلومات، فيثبت كشفا، ما كان ينفيه عقله المجرد. ) التمكين: قال قدس سره: «عندنا هو التمكن في التلوين» بمعنى أن يتحقق القلب الفائض بحضرة قاب قوسين لوسيطة تتمانع فيها الأحكام التفصيلية الإلهية وإمكانية، فترفع بذلك الأحكام. ويعود القلب حالتئذ مطلقا محيطا بها إحاطة الشيء بوجوه تقلباته، فإذا انتقل من وسيطته المقتضية استواء الأطراف ينتقل بتغليب اسم إلهي، وترجيح حكم كوني في حقه اختبار، فإنه هنالك يكون أبو الوقت الحاكم عليه، بجعله قاضيا، بظهور شيء، أو بإخفائه، وهذا هو التمكين في التلوين، فإنه باختياره يغلب حكم التقييد على نفسه فينقل من اسم إلى اسم، ومن وجه إلى وجه ومن حكم إلى حكم مع الحق الذي: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن: 29 ]، وقيل: أي التمكين: حال أهل الوصول فإنهم إذا انتهى ترقيهم إلى حضرة: (قاب قوسين) ، فإما [إنهم قد]تحققوا فيه بواسطية الاسم الظاهر، أو الاسم الباطن، أو بالبرزخية الجامعة امكان وجوب بينهم، أو [إنهم]تحققوا بحضرة: (أو أدنى) بحكم الوراثة: السيادة المحمدية. وإن تحققوا بواسطية الاسم الظاهر، استوى في حقهم حكم سائر الأسماء الظاهرة، ولهم التصرف فيها بتغليب حكم على كل حكم اعتبارا. ممكنا للمعرفة لم يبق من لم يسجد سوى المنافق كما قال: فلما شهد هذا العارف نور الساق اضطر إلى شهود الطالع في هذا المشهد خاصة وهو المنسوب إلى الدعاء كله، وهو واقف في الحد، ولهذا كان بناؤه على شهود الساق؛ لأن الله قد ظهر له نصف الظهور، والحقيقي فووري عنه بكشف الساق والطالع المناسب المنسوب إلى الدعاء مكّن له هذا الشهود، فكأنه قال: أشهدني الحق صورته في محل شهود كشف الساق ظاهرا بصفاته اللائقة بهذا الكشف، ومكن لي هذا الشهود طالع نجم الدعاء.

(ص) [قوله: (و قال لي عليه الاعتماد وهو الأمر الذي لا يرد من حضرة الجلال صدر، وفي مستقرها ظهر فاحذره إذا بدا) ].

(ش) أقول: يعني على الساق، وهو شهود الله ظاهرا صورة فاعتماد الشاهد على الصورة المذكورة، وكذلك كل من قال: «قال لي وقلت له وأشهدني، وأوقفني وأطلعني» ، فكل هؤلاء لا يعتمدون على هذه الصورة المعبر عن ظهورها بكشف الساق، وأيضا فإن الكامل أول ما يفاجئه عند إرادة الكمال شهود هذه الصورة، فهي ظاهرة له عند مفتتح كل خلع قبل الكمال وبعده، ثم ينتقل من هذه الصورة إلى أية جهة أريد لها ويستقر فيها إلى حين الرجوع، فهي مرادة للخطاب والاطلاع، والشهود لا غير، فعند تقييد الشهود يفتقر الشاهد إلى هذه الصورة اضطرارا فاعتماده عليها عند هذا التقييد بخلاف تقييد الفيض، فإنه لا يفتقر فيه المقيد أعني صاحب الفيض إليها بل إلى رفعها على الإطلاق، لأن الفيض هو خطاب الله من غير واسطة لكنه نطق مثل القول على لسان العبد، فلا يفتقر فيه إلى الثنوية بل يظهر فيه حقيقة الواحد، فلما كان الشهود الكشفي لا يكون إلا بين اثنين قيل له: على الساق الاعتماد أي على ظهور الصورة لمطلق الأعيان، وهو الأمر الذي لا يرد إشارة إلى تحقيق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وتمكين صدقه، لأنه لو لا الرسول لما تحقق هذا اليوم، وهو قوله: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ [القلم: 42 ]، فلما تحقق هذا الشاهد ما جاء به الرسول، وتمكين تحقيقه قيل له: وهو الأمر الذي لا يرد أي: الأمر الذي لا يرد أي: الأمر المحقق قوله: من حضرة الجلال صدر، وفى مستقرها

________________________________________

( 1 ) الكمال: التنزيه عن الصفات وآثارها. أي: عن كل ما يقيد ذات الحق، وحقيقته فيخرجها عن إطلاقها، صفة، وتجردها عن الاعتبارات مطلق إبقاؤها على الإطلاق الذاتي، والذي حكمه مع سائر القيود على السواء، وذلك هو الكمال الحقيقي، فافهم. ظهر يريد به ظهور صدور الأمر، لأن هذا الرسول المأمور كان مبعثه رحمانيا، والوجود صادر عن الرحمة، فالأنفس من حيث نشأتها تجنح إلى كل ما يصدر عنها، فتتحد به اتحاد مماثلة وتمتزج الرحمة ما تقدم منها بما تأخر ممازجة استدارة، والممازجة والاتحاد يفتقرون إلى الجلال إذ الجلال جمال متمكن، والجمال مراد للتأليف وقطع النفور والرحمة سببه، فلما كانت الرحمة مبتدأ الظهور وظهورها مرة ثانية ختاما لهذا الظهور افتقرنا في الظهور الثاني إلى الجلال المؤلف، وهو عند ظهور محمد صلى الله عليه وسلم فلما ظهر بالرحمة بان الأمر، وأراد الله لها الممازجة بالنشأة الأولى كان الأمر المراد للممازجة صادرا من حضرة الجلال لئلا يقع النفور من المنذرين، فكان الأمر الذي أتى به صادرا عن الصورة المعبر عن ظهورها بكشف الساق، والرسول تحقق الربوبية اضطرارا، ولهذا يلتزم الصدر ويقر بأنه عبد محكوم عليه، فإذا تحقق الرب منّزها عن مماثلة الخلق كان الخلق موجودا مع الرب ليتحقق له التنزيه فصدوره من حضرة الجلال صدور الخصوص بالرسول إذ هو مستقرها بإثبات فاعل ومفعول، وصدوره حقيقة البعثة وإلى حيث استقراره في صورته تحقق له الأنوار.

وقوله: (فاحذره إذا بدا) يريد به براءة حقيقة الكامل عن الثنوية، فإذا بدا في الصورة الموري عن ظهورها بكشف الساق ثبتت الثنوية المباينة لحقيقة العارف، فتحذيره مأمورا هو مباينة ضدية لا تحذير خوف إذ حقيقته من حيث أحديتها تباين الثنوية، فكأنه قال له: إذا بدت لك الثنوية، فيجب أن تضادها بالأحدية.

(ص) [قوله: (ثم قال لي: إن استمسكت به كلمتك، ووجدك الحبيب مصاحبي) ].

(ش) أقول: هذا معنى ظاهر ضروري وذلك أنه إذا ظهرت صورة الله لأحد لا يبعد أنها تخاطبه، لأن الخطاب لا يكون إلا بين اثنين كما قلناه مرارا، والاستمساك هاهنا هو الترقب لشهود الصورة الموري عن ظهورها بالساق، فكأنه قال: إذا ترقبت رؤية صورتي كلمتك، وهذا مما حصل للشيخ رحمه الله قبل كماله قوله: (ووجدك الحبيب مصاحبي) الحبيب هو الرسول صلى الله عليه وسلم، فاشتراككما هاهنا في الصحبة لإثبات رب ومربوب، لأن جبلة الرسول تقتضي هذا الإثبات، فلما قال في الخطاب السابق: (إن استمسكت به كلمتك) كان جواب الشرط إرادة إثبات، فإذا وجد مصاحبا ثانيا قطع بالمثلية لوجود مثبت آخر معه ومنه قوله:

«نحن معاشر الأنبياء» فلما قطع بأن معه أنبياء مثبتين لرب ومربوب قطع بالمماثلة تيقن رضا، فلما كان هذا الشاهد مخاطبا لربه وخطابه له من محل بعثة الأنبياء، قيل له: (ووجدك الحبيب مصاحبي) أي: أثبت لك الرسول هذا الخطاب.

(ص) [قوله: (ثم قال لي: لا تستمسك بالساق إلا عند طي السماء ومورها، وسير الجبال، وذهاب القدمين، وفناء كل ميت، وبقاء كل حي) ].

(ش) أقول: هذا معنى ضروري أيضا وذلك أنه يوم كشف الساق يستمسك به كل موجود وهذا الاستمساك يكون عند طي السماء ومورها إلى آخر ما ذكره من الأوصاف، والاستمساك هناك هو ترقب ظهور الله في الصورة ولهذا إذا ظهر في غير الصورة المترقبة وقع الإنكار، فإذا تحول صار هذا الترقب وصفا بمعنى الاستمساك، فإذا حصل الفصل والتفريق بميزان العدل واستقر كل من المتفرقين في محله اللائق به الثابت له وصفا نشأت البعثة من هذا الاستمساك وهي البعثة من الحي الذي لا يموت، فكيفية هذه البعثة هو استمداد لأجل الاستمساك وكل هذا من أجل الاعتماد على الصورة المذكورة إذ عليها مبنى قواعد الرسل والمخاطبين من الأولياء، ونقول بطريق التخصيص: ذهاب القدمين عبارة عن ممازجة أهل النار بأهل الجنة عند الوقفة بأرض الموقف وهو قبل الفصل، فيكون امتزاج الرحمة بالانتقام، لتظهر حقيقة الانفراد والمباينة عند الفصل، لأنه لا معنى له إلا تمييز الاسمين اللذين هما الرحمة والانتقام وإعطاء كل منهما حقه، فلو لا ذهابهما الموري عنه بذهاب القدمين لما كانت ظهرت فائدة الفصل، فعرفنا بذلك أن كل قدم عبارة عن اسم من هذين الاسمين، وكذلك اليدان والقبضتان إلى غير ذلك مما قرره الرسول صلى الله عليه وسلم وأتبع ذلك بقوله: «يضع الجبار قدمه في النار » ، فعرفنا أن للنار قدما وللجنة قدما، ومنه المنازل والمحال على قدر لفظة القدم ويراد بها الثبوت، كأن يقال لفلان قدم في المعرفة، ومنه قوله تعالى: وبَشِّرِ اَلَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ [يونس: 2 ]، أي: مقام ثبوت.

وقوله: (وفناء كل ميت وبقاء كل حي) ، يريد به بقاء الموجودات كلها على

________________________________________

( 1 ) الفصل: فوت ما ترجوه من محبوبك. كرجائك تحققك به وبأسمائه منه، وإذا اطلعت على حالة ذلك في حقك، فهو الفصل به وبأسمائه منه، وإذا اطلعت على حالة ذلك في حقك، فهو الفصل. وقال قدس سره: وهو عندنا تغيرك عنه أو عن محبوبك بشهود نفسك القاضي بمغايرتك إياه بعد حال الاتحاد الظاهر لك بحكم غلبة حال ذلك ولا يتبين فيه صحته عن سقمه. ) رواه الديلمي في الفردوس ( 5 / 101 ) ، وذكره الحافظ في الفتح ( 8 / 596 ) ، والمناوي في فيض القدير ( 4 / 255 ) . الإطلاق، لأنه إذا فني الميت صار باقيا والتحق بالأحياء الذين قد أطلق عليهم البقاء لأنه إذا فني الفناء عاد بقاء الميت، فإذا فني صار باقيا وهذا من قوله تعالى: هذا يَوْمُ اَلْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ واَلْأَوَّلِينَ [المرسلات: 38 ]، فلما فني موت الأولين وانخرطوا في سلك البقاء التحق الآخرون بهذه الصفة، وهو البقاء المذكور، وكل هذه أوصاف تظهر عند كشف الساق، فجعلت لهذا الشاهد دلائل حتى إذا ولج فيها لا يحصل له النفور مثل السالك في طريق والعالم بها يقول: خذ كذا ولا تأخذ كذا، وهذا أيضا مما وقع للشاهد قبل الكمال.

(ص) [قوله: (ثم قال لي: إذا حضر الساق فاحذر السلب) ].

(ش) أقول: إن مراده بهذا الخطاب التنبيه على مناقضة التقييد للإطلاق، لأن الساق عبارة عن الظهور الصوري مقيدا، فإذا ظهرت هذه الصورة خفي الإطلاق، بل عدم، فلما كان هذا الشاهد في حال هذا الخطاب أخذ في الترقي إلى الكمال، وقد اتصف ببعض أوصافه، قيل له إذا حضر الساق، فاحذر السلب أي سلب ما حصل لك من الأوصاف لأننا قلنا: إن الصورة صفة التقييد، وهو تضاد الإطلاق، الذي هو صفة الكمال، فلما حضر من هاتين الصفتين ارتفعت الأخرى لأجل المناقضة، فمن لم يتمكن في الكمال، وهو آخذ إليه حتى تظهر له الصورة المقيدة تحذر من السلب لأن هذه الصورة مناقضة لما حصل له، فإذا تمكن في الكمال انتفى عنه هذا الحذر، لأن كلا الصفتين عادتا له وصفا طبيعيا بغير تعمل، فإنما ظهرت منهما كمنت الأخرى في ذاته حتى يقول: أنا الظاهر بهذه الصفات، وقد يظهران كلا هما ويسمى الجمع بين النقيضين، ومن هاهنا يتحقق للعارف الكمال الحقيقي، فلما كان هذا العارف رحمه الله في حكم هذا الخطاب آخذا في طريق الكمال، وقد حصل له بعض أوصافه وجب أن يخوف هذا التخويف عند ظهور الساق، لأنه لم يكن إلى الآن ممن جمع له بين النقيضين، وهذا الشهود أيضا مما حصل له قبل الكمال.

(ص) [قوله: (ثم قال لي أشغلناهم بالاستدراج عن مشاهدة الساق عند مجاورة الحد بالنعيم الآجل) ].

(ش) أقول: هذا الخطاب فيه تناقض ولا يعرفه إلا من تفرد في عصره إذ التناقض في باطنه، ومبنى قواعد العارف كلها على الأمور الباطنة فإذا دخل الخلل في باطن كلامه مال بالظاهر إلى جهة الهلاك، ومثال ذلك القلب فإنه أخفى الأعضاء وأصغرها وهو قوام الجسد ، فإذا

________________________________________

( 1 ) الجسد: كل روح يمثل بتصرف الحال المنفصل وظهر في جسم ناري كالجن، أو النوري دخل عليه الاختلال مال بالجسد الظاهر إلى الهلاك،

قال صلى الله عليه وسلم: «إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب » ، فالعارف في حال خطابه وكلامه وتقييده له يتمثل الوجود له كجسد الإنسان وهو قائم بقلبه وقصده إظهار ما بطن وإبطان ما ظهر، والغالب إظهار ما بطن، فإذا ناقض كلامه في الباطن هدم كل ما بناه من القواعد في الحال، وهذا يدخل على العارف مقترضا.

فقوله: (أشغلناهم بالاستدراج عن مشاهدة الساق) يضاد قوله: (قال الله يوم يكشف عن ساق) ، وقد تيقن أنه لا يبقى موجود إلاّ ويشهد كشف الساق ولا أعلم من أين يدخل على المرادين المشهور هذا الاشتغال، بل أعلم أن كل موجود مربوب وكل مربوب لابد له من السجود وهذا السجود لا يكون بعد مشاهدة كشف الساق عند التحول في الصورة المعروفة، فوجه التناقض أن أحدا لا ينشغل عن مشاهدة الساق بل الله تعالى لا يريد بخلاف أحد عن مشاهدة كشف الساق هذا هو التناقض الباطني، وأما في الظاهر فلا يلحظ منه هذا التناقض، بل يلحظ منه الانتظام، وذلك أن العارف لما كان منفردا في زمانه بدوام الشهود كان الجاهل مشتغلا عن هذا الشهود بما ألفه من النعيم الذي لا يتوهم أن فوقه مقاما وهو النعيم لأجل الظاهر بالنسبة إلى الأولى أجلا، ولهذا قال: (عند مجاوزة الحد) الذي هو الفاصل بين الحضرتين وهو هاهنا يسير إلى الحد الفاصل بين الأول والظاهر، فمن حين تجاوز الموجودات هذا الحد يطلق الله تعالى على العارف عرفانه وعلى الجاهل جهله بما سبق من العلم، وليس النعيم لأجل هاهنا عبارة عن نعيم الجنة لأنه ذكر فيه الاستدراج، والاستدراج لا يكون إلا في الشر وهو من عالم الظاهر إذ ليس في الآخرة تكليف والاستدراج من عالم التكليف، وأيضا فإن شهود الساق قبل تلبس المكاشفين في موطن القيمة بالنعيم، فصح أنه النعيم الظاهر الذي هو بالنسبة إلى الأوليّة أجل، فالجاهل قد اشتغل بهذا النعيم عن مشاهدة صورة الله الموري عن ظهورها بكشف الساق.

________________________________________

( 1 ) كالأرواح الملكية والإنسانية، حيث تعطي قوتهم الذاتية الخلع واللبس، فلا يحصرهم حبس البرازخ. ) رواه البخاري ( 1 / 28 ) ، ومسلم ( 3 / 1219 ) . (ص) [قوله: (ثم قال لي على الساق قامت البنية فالشرف له لكنه تبع، ثم قال بظهوره يشتد نور الشمس ويغيب القمر وتنكدر النجوم وإليه المرجع) ].

(ش) أقول: مراده بهذا الخطاب إظهار حقيقتي الاسمين اللذين هما المستقر بعد الفصل، وهما عالم الآخرة فهما في الحقيقة متحدان وفى الظاهر متضادان إذ هما الرحمة والانتقام، وقد قلنا: إن لكل قدم اسما من هذين الاسمين، فمجموع هذين الاسمين اللذين هما البنية كما قال: لا تقوم إلا على الساق، وهذا فيه إشارة إلى العمد وواحديته، فلما كان كشف الساق عبارة عن ظهور الصورة المنفردة التي لا يشاركها غير، أشار في هذا الخطاب إلى العمد الذي هو حامل الوجود وهو واحد منفرد بالحمل، فكأنه قال على الله الاعتماد وجمعية الأمور الموري عنها بالبنية.

قوله: (فالشرف له لكنه تبع) يشير به إلى أحدية الوجود وصفتها التي هي الإطلاق، فالصورة تابعة للإطلاق لكن الاعتماد على الصورة لأنها هي الفاعلة في الوجود ومنها صدر وإليها حكمه ولها القيومية عليه، فهو صادر عنها وليس صادرا عن الإطلاق، فلها الشرف بكونها أصل الوجود ولها التبعية حال اتصاف الوجود بالأحدية فالتقييد تابع للإطلاق ولا ينعكس.

وقوله: (ثم قال لي: بظهوره يشتد نور الشمس ويغيب القمر وتنكدر النجوم وإليه المرجع) ، أقول: مراده بهذا الخطاب إظهار حقيقة العارف في حال كونه شاهدا فإنه إذا تجلى الله له تمكن باطنه واشتد ظاهره الذي هو صورته وقوي سلطان ظاهره المميز الذي هو النور حتى تتمكن صورته في التمييز، ويصير مخاطبة، ويتميز من المشهود تمييز صفة من موصوف، وليس لها مميزا في الظاهر أشد من نور الشمس وهو سلطان الظاهر، فلما كان للشاهد في هذا الشهود له باطن وظاهر، وظاهره هناك هو المقصود، وأعني بظاهره صورته قيل له: (بظهوره يشتد نور الشمس) أي: يتمكن بالنور الظاهر.

وقوله: (ويغيب القمر) يريد به الآية الممحوة، فكأنه قال: إذا ظهرت الساق اشتد تمييزك بالنور الظاهر وخفي كل ظاهر مراد للخفاء وظهر كل باطن مراد للظهور، لأن القمر يستمد من النور الظاهر الذي هو الشمس، فإذا ظهرت الشمس بأفعالها اختفى

________________________________________

( 1 ) النور: كل وارد يطرد الكون عن القلب، ولا بد أن يكون عين الحق ينبوعه، فلا يثبت معه الكون. القمر، وهذا النور المميز قد ظهرت أفعاله في تمييز صورة العارف التي تحتوى على مجموع الوجود، فيختفي قمره اضطرارا لأنه الصفة الممحوة في ذاته حيث تمكنت صورته في التمييز فليس فيها في حال هذا التمكين محو.

قوله: (تنكدر النجوم) يريد به أرباب الدعاوى عند ظهور شمس العارف، فإذا ظهر العارف متمكنا بهذا التمييز واستوى في محله اللائق بالمقابلة وسرى الخطاب بينه وبين مشهوده فخفي كل ظاهر متميز قائم بذاته في ذاته المهيأة للاتصاف، وظهر كل خاف كامن قد أطلق عليه الخفاء والبطون والعدم إلى غير ذلك، فتظهر هذه الأوصاف بظهور الصورة المشهودة له فيعود أنوارها ولأرباب الدعاوى الموري عنهم بالنجوم خافية الأضواء بادية الظلماء، وهذا هو الانكدار الذي يميل بهؤلاء عند ظهور العارف إلى الخفاء هذا في الحقيقة، وأما في الظاهر فقد جعل هذا العارف شبيها بالشمس والله من ورائه يمده بالنور وأرباب الدعاوى كالنجوم عند ظهور الشمس، فكأنه قال له: بظهوري يشتد ظهورك وبظهورك تنكدر النجوم ويغيب القمر، والقمر هاهنا في الظاهر عبارة عن مدع صغير القدر مفتر بالدعوى تكاد دعواه تماثل دعوى العارف مماثلة القمر للشمس (وإليه المرجع) أي إلى العارف.

(ص) [قوله: (ثم قال لي: إن لي عبادا اشتغلوا بالقلم الإلهي عن الساق، وإن لي عبادا اشتغلوا بالقلب عن القلم، وإن لي عبادا اشتغلوا بسر القلب، وإن لي عبادا اشتغلوا بخفي السر عن السر، وإن لي عبادا تاهوا، فكن من أي العبيد تريد) ].

(ش) أقول: إن مراده بهذا التنزل إظهار حقيقة الجمعية التي تحتوي عليها الأسماء الأربعة وهي تشتمل على هؤلاء العباد المذكورين، فمنهم من هو مستودع في الأولية، ومنهم من هو واقف في الحد، ومنهم من هو في الظاهر، ومنهم من تكفل بعلم الباطن، ومنهم من تاه في حيرة العلم بحقيقة الآخرة، ومنهم من اشتغل بسر القلب وهم المتكفلون بوصف المعاني، ومنهم من سمت به همته إلى ما هو أعلى من هذا ولم يقنع نفسه بما شاهد ولا بما قيل له لكنه سلك طريقا ممتدة لا آخر لها وغاب عن نفسه التي

________________________________________

( 1 ) القلم: علم التفصيل، فإن الحروف التي هي مظاهر تفصيله في مداد الدواة ولا يقبل التفصيل ما دامت فيها، فإذا انتقل المداد منها إلى القلم تفصلت الحروف به إلى اللوح، وتفصل العلم إلى لا غاية. هي مقصودة فلا يصل إلى مقصود مادام سالكا، وهم الذين اشتغلوا بخفي السر عن السر، فمقصود هذا شهود الصورة ولا يشهدها مادام تاركا لنفسه متخلفا عن تعظيمها وهو يطلب ما وراءها وليس وراءها شيء، فالذين اشتغلوا بالقلم الإلهي عن الساق وهم المستودعون في الأولية وهم بالحقيقة حقيقة الاسم المصور وصورهم هي القائمة، لأن القلم الإلهي هو مصور المعلومات في ذات الله تعالى وليس هو المصور الذي يقيم الصور وإنما هو مصور المعلومات فما دام الله عالما فهؤلاء دائمون في الأولية مشتغلون لهذا الفاعل، وهم على قلب المصور الحقيقي محمولون عليه، فلا يعلمون علم الساق بل لا يتصورونها ولا يومها، لأنه مادام الله تعالى مسمى بالأربعة فكل واحد منها موجود، وبدوام علمه يوجدون هو لا في الأولية لأنهم القائمون بالقلم كما قال، فلا يعلمون الساق ولا وقتها ولا الشاهدين لها، والاسم الذي يظهر فيه الساق لأنهم مشتغلون بالفعل فقط والعباد المشتغلون بالقلب عن القلم هم الذين حققوا الاسم الظاهر فهم مستودعون فيه والقلب هو الوجود الظاهر، وقد قلنا في كتاب الختم أن قلب الإنسان كالبيت وبيته كالقلب لأنه قلب للأفلاك، وإليه الإشارة بقول الإمام العارف العالم أبي طالب المكي رحمه الله: إن الأفلاك تدور بأنفاس العالم، فانظر كيف جعل نفس حركة القلب غير دوران الأفلاك، وأراد به قلب العالم الذي هو بيت الإنسان، فلما كان القلب متحركا من حين وجوده إلى حين انقضائه، كانت الأفلاك دائرة من حين وجودها إلى حين انقضائها، فهي تستمد الحركة من قلب الإنسان بالنفس وهي أدل دليل على أحدية الوجود جاذبا ودافعا منه وإليه لا يدخل عليه شيء من خارج لأن الأفلاك مفتقرة إلى الإنسان من أجل الحركة، والإنسان مفتقر إلى الأفلاك من أجل الاحتواء، فهي تفيض على الإنسان الاستمساك وهو يفيض عليها الحركة والكل واحد جاذب دافع بعضه مفتقر إلى بعض،

________________________________________

( 1 ) الاسم: باصطلاحهم ليس هو اللفظ بل ذات المسمى باعتباره صفة وجودية كالعليم والقدير وعدمية كالقدوس والسلام، لأن القدوس الظاهر المبرأ المتنزه. ) الختم: علامة الحق على قلوب العارفين، وهو وجود المنعة من اسم إلهي يتجلى بعزته للقلب المنتهي إليه، فليسع فيه الحق بحسب حيطة الاسم الحاكم عليه في القلب فلا يزاحمه الأغيار في وسعه، فهي كذلك الملك على خزائنه. فهم الذين قد تحققوا هذا الاسم مشتغلون بهذا النظام الذي هو القلب ومعانيه، وهم إحدى الأفراد الأربعة الذين قيل لهم: إنهم خارجون عن دائرة القلب، وهم على شماله حاملين لها، وهم لا يعلمون لكنهم قائمون بالاشتغال عن تحقيق هذا الاسم المشتمل على القلب وهو الاسم الظاهر، وأما العباد المشتغلون بخفي السر عن السر، فهم الذين يطلبون ما وراء أبصارهم وأفكارهم وما خفي عنهم وهم المستودعون في الحد الفاصل بين الظاهر والباطن فلا يطلق عليهم العلم ولا الجهل، وإنما لم يطلق عليهم العلم لأنهم لم يصلوا إلى مقصودهم ولا حققوه وإنما لم يطلق عليهم الجهل لأنهم طالبون، ومن شروط الجاهل عدم الفحص والطلب والسماع والإصغاء وهؤلاء مترقبون الوصول، فهم

________________________________________

( 1 ) الاسم: الحاكم على حال العبد في الوقت الحاضر، فإنه تجلي الحق دائما من الأسماء الإلهية. واعلم أن المعاني الجليلة المنسوبة إلى الحق أسماؤه، فإن اعتبرت المعاني الوجودية، فهي أسماؤه، كالحي، والعليم، والقادر. ومع العدمية أسماء سلبية، كالقدوس، والسلام، فالمعنى لا فائض من الحضرة الذاتية على العبد في الحالة الراهنة هو صاحب وقته، الحاكم عليه بما في قوته قصرا، إن كان العبد تحت تصريف الحال، وإن كان الحال تحت تصريفه، فالعبد هو الحاكم في اجتلاب ما يعنيه من الأسماء ومنع ما لا يعنيه منها في الوقت، فإن السر الوجودي المستجن في باطن الإنسان إذا اتصل بجهة إطلاقه الذاتي، وأحدية جمع حقيقته كان حكمه بالنسبة إلى وجوهه المقيدة على السواء، وقام باقتداره لتغليب وجه على وجه وتخصيص اسم للظهور الحكم دون الآخر. ) هو في البدايات: سماع الوعد والوعيد من واعظ ذكي بصوت رخيم حتى يقع موقع القبول وفي الأبواب: سماع لمة الملك وإجابة داعي الحق بعد تمييزها عن لمة الشيطان وهو اجس النفس. وفي المعاملات: سماع أخبار الكتاب والسنة وتطبيق المعاملة عليها وتبادرها على توحيد الوجهة. وفي الأخلاق: إجابة داعي الحق إلى التخلق بأخلاقه والرضا بأحكامه. وفي الأصول: سماع القلب خطاب الرب بقوله: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة: 152 ]و تقريبه بقوله: «من تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا، ومن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا، ومن أتاني ماشيا أتيته هرولة» ، وفي الأدوية: تلقي الحكم وقبول الإلهام، وفي الأحوال: قبول ملاطفات الحق في تحببه إلى العبد وسماع خطاب اتباع الحبيب في قوله: فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله [آل عمران: 31 ]، وفي الولايات: سماع إنني أنا الله من سره ثم من كل شيء، وفي الحقائق: سماع الاستجابة عند سماع قوله تعالى: فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ اَلدّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي [البقرة: 186 ]، بسمع الحق وسماع قوله تعالى: ونَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ اَلْوَرِيدِ [ق: 16 ]، بسمعه حين كان الحق سمعه، وفي النهايات: سماع العبد تلبيس، فهذه مقدمات أصولها في البدايات: مشتركة في كونها رفع الكثافات يصغون إلى كل عارف يتيقنون أنهم علمه فهم سالكون في طلب السر وهو ما وراء القلب، وأما العباد المشتغلون بخفي السر عن السر فهم الذين حققوا الاسم الباطن مستودعون في الظاهر استيداع خفاء وله ويؤنس فيهم الاستيحاش والنفور، فهم متصلون بالغيب عن الشهادة وهم شاهدون لله دائما شهودا صوريا، وأما التائهون فهم الذين تستشرف أنفسهم إلى التوحيد والمعرفة، فهم تاركون المعاش رغبة في المعاد، فسبب شهادتهم طلبهم لله بجهة دون جهة، فيقصدون الوقوف على سر الوجود ويشهدون الوجود يفتقر بعضه إلى بعض خصوصا إن قلّدوا في علم التوحيد، فيحصل لهم الحيرة وزيادة على صفتهم من التيه وغيره، فهم حائرون مشتغلون بالحيرة وعقولهم تائهة في بحر المعرفة الذي قد ارتج بابه دونهم لاستقلالهم بجهة دون جهة، فهذا للشاهد ليس من هؤلاء العباد المذكورين، وإن كان نسبه إليهم فاللائق به أن يكون من المشتغلين بالقلم عن الساق إذ أولئك فاعلون للعلم وهم على قلب فاعل المعلومات الذي هو الاسم المصور حقيقة، وهذا الشاهد من أجل تفرده في الوجود هو الفاعل فيه إلى نسبة مراده،

________________________________________

( 2 ) الطبيعية عن وجود القوى وقمع دواعي الهوى حتى تنفعل القوى من نور القلب فيقبل إلى الحق فتنفتح للسالك أبواب: وهي مشتركة في كونها انفعالات عن النور القدسي وتنورات للردع النفسي تصير النفس بها لوامة بعد أن كانت أمارة بالسوء. ) الغيب: ما ستره الحق منك لا منه، فإن الغيوب كلها عنده شهادة. عالم الأمر: ما وجد عن الحق من غير سبب، يريد به عالم العقل الأول، فإن كل ما وجد بسببه، أو بسبب غير موجود فيه بوجود، قابل سببا، فإنه مادة الجمع، وقدره شجرتهم. عالم الخلق: ما وجد عن سبب. ويطلق أيضا، بإزاء عالم الشهادة العارف والمعرفة، من أشهده الله تعالى نفسه في بينونة جامعة بين الظاهر والباطن، فظهرت عليه الأحوال من آفاق الوجود، ودارت عليه أفلاكها. والمعرفة حاله، فإنه عرف كل شيء بعينه في مرتبة ذاته، حيث أنه كل شؤون الذات المشهودة له، وقد يكون هذا الاشهاد في آن واحد، بشهود واحد، وهو شهادة المفصل في المجمل مفصلا، العالم والعلم، ومن أشهده الله ألوهيته وذاته معا، من غير مزاحمة الكثرة النسبية الأسمائية، والوحدة الذاتية، وبالعكس، فيتحقق إذا في وسطه، تتمانع فيه الأحوال الجمة، فلم يظهر عليه حال يفيده بحلمه قسرا، والعلم حالتئذ حاله يعلم أحوال الوجود، إذ ذاك، على ما هي عليه من حيث أن حكمه الوسطي إليها على السواء. فالنسبة إليهم هو الاشتراك في الفعل ولا ينكشف لأحد أن فعله هو عين فعلهم فإن وهب الله لذي عقل أن ينظر في هذا الشرح فلينظر إلى قولنا منفرد في الوجود وإنما نسبناه إليهم لأجل ما ورد إليه من الخطاب الإلهي في قوله: (فكن من أي العبيد تريد) ، وإلا فإن حقيقته المنفردة من حيث هي تجل عن المماثلة، والأصل في الإجلال التفرد.

(ص) [قوله: (ثم قال لي: الساق جزء من أجزاء المطلع، وأنت فوق المطلع فما لك والساق عليك يعتمد الساق وإليك ينظر وبه يستمسك صاحب الصخرة) ].

(ش) أقول: مراده بهذا الخطاب إظهار حقيقة استعلاء العارف الكامل محمولا وهو إلى قوله: (فما لك والساق) وهو إشارة إلى تفرده في عصره كأنه قال له لا يفتقر إلى الساق أي إلى شهود الصورة لأن الصورة قائمة بصفة التقييد والتقييد جزء الوجود، وقد جعل المطلع عبارة عن الذات إذ هي محل الفيض كما قررناه في محله وهو متصف بهاتين الصفتين أي: الإطلاق والتقييد في حال عبارتنا عنه بالذات، فالتقييد جزؤها في حال انفراده ووصفه بكشف الساق، وهذا الشاهد من حين فنائه في الذات هو متصف بجميع أوصافها وهي من حيث هي بريئة عن التقييد ولا تفتقر إليه، ولهذا قررنا أن كل ما يتضمن هذا الكتاب الذي هو مسمى بالمشاهد من المطالع فإنه يريد به محل الطلوع وليس مراده محل الاطلاع كما هو في لسان الصوفية، وقد وجدناه في هذه النسخة كله بالتشديد فنقول: المطلع، وهو خلاف مراد صاحب الكتاب رحمه الله، وأنا لا أعرف الكتابة ولا الخط ولا كيفية التشديد فيها لكن العالم العارف بأحكام التشديد والتخفيف وجمعية العلوم وما يتضمنه من المعاني، وهو صاحبي محمد بن محمد ابن خالتي، والحاكم علي عرّفني بما في هذه النسخة من أحكام وعلامات، لأنه قيوم بهذه العلوم كلها وما يتضمنه من اللغات والفصاحة والعبارات المختلفة، وأنا أكل جزاءه إلى الله تعالى.

وقوله: (عليك يعتمد) ، يشير به إلى اتصافه بالذات لأن التقييد الموري عن صورته بالساق عليها اعتماده لأنه من حين أخذ أوصافها فهو مفتقر إليها وهي غنية عنه، وهذا العارف قد ظهر بحقيقة الذات، فعليه يعتمد الصورة حقيقة، وأما في الظاهر فلكونه مقابلا له وهو صورتها المنطبعة في المرآة، فلو لا هذا الانطباع لما تحقق للصورة هذا التقييد ولتمكن الصورة الموري عن ظهورها بكشف الساق ويتصف به فعل الشاهد فيعتمد الصورة من أجل المقابلة والاتصاف ولفظ الخلافة.

وقوله: (وإليك ينظر) هو معنى ضروري مثل قوله: (يا عبدي وموضع نظري) فهو ضروري ينظر إليه من أجل أنه صورته المنطبعة في مرآته فهو دائم النظر لأجل دوام هذه الصفة أعني التقييد.

وقوله: (وبه يستمسك صاحب الصخرة) الوراثة للمعرفة بعد هذا الشاهد، لأن أرباب المعرفة كلهم يعتمدون في أول معرفتهم على الصورة الموري عن ظهورها بالساق، وصاحب الصخرة هو محقق الوجود الوارث لكمال هذا الشاهد بعده لأن من شروط الكامل الخطاب من الجزء الترابي الذي في صورته المركبة فيستنطقها الله تعالى ويجب بلسان الملاحظة ويحصل السماع بسمع الإتحاد ، وهذه الصخرة هي المحل الذي يكمل العارف فيه، ولهذا قال في المشهد الآتي في خطاب الصخرة: (إليك أوى من أكل كبد أبيه) يريد به الوارث على ما قررناه.

***

________________________________________

( 1 ) الاتحاد: تصيير الذاتين واحدة، ولا يكون إلا في العدد من الاثنين فصاعدا، وهو حال لا يعول عليه، فإنه يشاهد كذلك، ولا يكون له حقيقة فيزول. بِسْمِ الله اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ



 

 

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!