موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

كتاب مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

شروط الحصول على هذه العلوم [الشرح]

 

 


وسبيل الحصول على هذه العلوم المذكورة في قلوب أهل الحقائق له شروط جمة ، لا يفي بها إلا أهل العناية والتوفيق ، والسالكين سواء الطريق .فنقول : إن القلب على خلاف بين أهل الحقائق والمكاشفات ، كالمرآة المستديرة . لها ستة أوجه - وقال بعضهم ثمانية . هذا محل خلاف ، ولولا التطويل وخروجنا عما قصدناه من الاختصار ، لأزلنا الخلاف ، وبينّا وجه الجمع بين هذين المقامين بأدلة قاطعة . لكن تممنا هذا المقصد بكتابنا المترجم : بـ 'جلاء القلوب' . ولا يُلتفت إلى من زاد لها وجها تاسعا ، لأن الحكمة الإلهية منعت من ذلك ، ولا في الإمكان أن يوجد لها في الوجوه ما لا يتناهى ، إذ صفات الجلال لا تحصى .ولعلك تقول : أستشعر من هذا القول الذي ذكرته مناقضة الإمام أبي حامد حيث قال : ليس في الإمكان أبدع من هذا العالم .نعم ! يشعر ذلك عند من يقصر إدراكه عن الاطلاع إلى هذه العلوم السماوية . وأما عند من فحص عن كلامنا ، وبحث عن حقيقة ما أشرنا إليه يرى أن لا مناقضة بينهما . وقد أشبعنا القول بالأدلة الواضحة في شرح كلام الإمام أبي حامد رضي الله عنه ليس في الإمكان أبدع من هذا العالم في كتاب ( الجمع والتفصيل في كتاب التنزيل ) لما تكلمنا على قوله تعالى :{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً }ثم نقول : قد جعل الله في مقابلة كل وجه من وجوه القلب حضرة تقابلها من أمهات الحضرات الإلهية تقابله . فمتى جلي وجه من هذه الوجوه تجلت تلك الحضرة فيه . فإذا أراد الله سبحانه وتعالى أن يمنح عبده من هذه العلوم شيئاً ، تولى سبحانه بتوفيقه مرآة قلبه ، فيطهرها بعين اللطف والتوفيق ، وأمدها ببحر التأييد . فاهتدى ذلك الموفق للرياضات والمجاهدات ، ووجد الإرادة والمحبة من قلبه ، فبادرت الجوارح بالطاعة للقلب ، إّذ هو مالكها وسيدها . فاستعمل الأذكار ، وعلق الهمة ، وتخلق بأخلاق الله ، وغسل قلبه بماء المراقبة حتى يتخلى عن القلب صدأ الأغيار ، وتتجلى فيه حظائر الأسرار .الوجه الأول :ينظر على حضرة الأحكام ، وصقالة ذلك الوجه بالمجاهدات .والوجه الثاني :ينظر إلى حضرة الاختيار والتدبير ، وصقالة الوجه بالتسليم والتفويض .والوجه الثالث :ينظر إلى حضرة الإبداع ، وصقالة ذلك الوجه بالفكر والاعتبار .والوجه الرابع :ينظر إلى حضرة الخطاب ، وصقالته بخلع الأكوان .والوجه الخامس :ينظر إلى حضرة الحياة ، وصقالته بالتبرؤ ، والفناءوالوجه السادس :وهو الثامن عند من أثبتها ثمانية . ينظر إلى حضرة ما لا يقال ، وصقالته بـ { يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ }وأما الوجهان اللذان هما محل الخلاف ، فأهل السنة صرفوهما إلى حضرة الأحكام . وغيرهم قال :- إن أحدهما : ينظر إلى حضرة المشاهدة ، وصقالته ببيع النفس .- والآخر ينظر إلى حضرة السماع ، وصقالته بالصمت والأدب .وليس ثمة وجه تاسع ، ولا كشف لها سبحانه حضرة زائدة على هذه الثمانية . فكانت تجهلها إذ ليس لها وجه تتجلى فيه بالحكمة الإلهية التي سبقت بالإرادة القديمة . وهنا موضع نزاع بين الأشعرية والصوفية ، دقيق لا يتفطن له إلا صاحب ذوق .ثم لتعلم أن لهذه الحضرات أبوابا في مقابلة ما على وجه المرآة من الصدأ .تسمى أبواب المشيئة ، فعلى قدر الصقالة يكون التجلي ، وعلى قدر ما يفتح من الأبواب يكون الكشف . فليس كل مرآة مجلوة يكشف لها ، لكنها معدة لقبول الصور .كذلك ليس كل من سلك هذا الطريق يكشف له . قد يدخر له إلى يوم القيامة أعني قيامته ، كما تدخر المرآة المحسوسة إلى يوم ما ، أو لأيّ معنى صقلت ، أو لأيّ فائدة وجدت . لكن يلوح لها بوارق من المطلوب ، وإن كانت لا تخلى عن صور ولكن الصور التي قصدنا في هذا الباب صور مخصوصة انفردت بها مرآة أهل الحقائق .فإذا رقيت إلى هذه المنازل ، واطلعت على هذه المقامات ، صارت الغيوب مشاهدة في حقك : أعني غيوب ما بطن في ظاهر علوم الدين ، لا في يجيء فلان ، وزنى فلان . فإن تلك مكاشفات السالكين ، وإن تشوش عليك خاطرك ، ولم ترزق الإيمان بهذا المقام ، فقد أجرى الله لك في ظاهر الكون مثالا ترتقي به إلى ما ذكرناه ، وهي المرآة المحسوسة تتجلى فيها سائر المحسوسات على قدر صقالتها وجلائها .وقد نبه على ذلك سيد البشر صلى الله عليه وسلم حيث قال :( إن القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد )قيل : فما جلاؤها ؟قال صلى الله عليه وسلم : ذكر الله وتلاوة القرآن )فقديما نصبت الأمثال أدلة لعلوم ربانية ، فمن وقف مع المثال ضل ، ومن رقي عنه إلى الحقيقة اهتدى .ثم لتعلم أن لهذه الحضرات أسرارا ظاهرة وأسرارا باطنة .فالأسرار الظاهرة لأهل الاستدراج ، والباطنة لأهل الحقائق . فليس كل حكيم حكيما . بل إن الحكيم من حَكَمَتْهً الحكمة ، وقيدته بالوقوف بفصل الخطاب ، ونعته أن ينظر إلى سوى خالقه ، ولازم المقاربة على كل أحيانه فليس من نطق بالحكمة ولم تظهر آثارها عليه يسمى حكيما .فالنبي صلى الله عليه وسلم قد قال : ( رُبَّ حامل فقه ليس بفقيه ) ، إنما هي أمانة عنده ، يؤديها إلى غيره { كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً } فإذا صدرت منك حكمة ، فانظرها في نفسك فإن كنت قد تحليت بها ، فأنت صاحبها ، وإن رأيت نفسك عارية منها فأنت حامل ومسؤول عنها وتحقيق هذا أن تنظر إلى استقامتك على الطريق الأوضح ، والمهيع السديد والميزان الأرجح في قولك وفعلك وقلبك . إذ الناس في الاستقامة سبعة أقسام فقسمان لهما الفضل ، الخمسة عليهم الدرك :- فمستقيم بقوله وفعله وقلبه .- ومستقيم بفعله وقلبه دون قوله .فهذان لهما الفضل ، والأول أعلى .- ومستقيم بقوله وفعله دون قلبه ، يُرجى له النفع بغيره .- ومستقيم بقوله وقلبه دون فعله .- ومستقيم بفعله دون قوله وقلبه .- ومستقيم بقوله دون فعله وقلبه .فهؤلاء عليهم ، لا لهم . لكن بعضهم فوق بعض . ولست أعني في الاستقامة بالقول ترك الغيبة والنميمة وشبهها ، فإن الفعل يشمل ذلك وإنما نعني بالاستقامة في القول أن يرشد غيره بقوله إلى الصراط المستقيم . وقد يكون عريا ما أرشد إليه . فهذا نعني بالاستقامة . ويجمع عليه ذلك مثال واحد :وهو رجل تفقه في أمر صلاته وحققها ، ثم علمها لغيره ، فهذا مستقيم في قوله .ثم حضر وقتها فأداها على حد ما علمها وحافظ على أركانها الظاهرة ، فهذا مستقيم في فعله .ثم علم أن مراد الله منه في تلك الصلاة حضور قلبه لمناجاته ، فأحضره . فهذا مستقيم في قلبه .ثم احمل هذا المثال على ما بقي من الأقسام ، تجده واضحا إن شاء الله تعالى .ثم لتعلم أن العلل التي تصدك عن طريق الاستقامة الكاملة غير منحصرة ، مستقرها كتاب الله ، وحديث رسوله صلى الله عليه وسلم : ( فلا تأمن مكر الله ، فإنه { فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ } ) وأنّى لك بالأمن ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( اللهم إني أستغفرك مما علمت ومما لم أعلم . فقيل له : أتخاف يا رسول الله ؟ قال : وما يؤمنني ، والقلب بين إصبعين من أصابع الرحمن ، يقلبه كيف يشاء ) .والله تعالى يقول : { وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ } .فالإنسان محل للتغيير ، قابل لكل صفة ترد عليه . ولذلك قال بعض العارفين : 'لو عُرضَت علي الشهادة على باب الدار ، والموت على التوحيد عند باب الحجرة ، لاخترت الموت على الشهادة ، لأني لا أدري يُرض لقلبي من التغيير عن التوحيد إلى باب الحجرة . فكن على حذر ما دام تركيبك' .قال تعالى لموسى عليه السلام في التوراة : ( يا ابن آدم ، لا تأمن مكري حتى تجوز على الصراط ) . فالآفات رحمك الله كثيرة الخطوب . والطريق دقيق ، أدق من الشعرة وأحد من السيف . لا يثبت عليه إلا أهل العناية . فباللحظة والخطرة تزل الأقدام . ألا ترى أبا سليمان الداراني يقول : سمعت من بعض الأمراء شيئاً فأردت أن أنكر فخفت أن يقتلني ، وما خفت من الموت ، ولكن خفت أن يتعرض لقلبي شيء من التزين للخلق عند خروج روحي فكففت .فانظر حذرهم من الزلل مخافة الفوت ، وإن أردت أنوارهم وأسرارهم فاسلك آثارهم .



 

 

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!