موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل

تأليف الشيخ عبد الكريم بن إبراهيم الجيلي (667هـ - 828هـ)

 

 


خطبة الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

"يهدي الى الحق والي طريق مستقيم" 35 سورة يونس

الحمد لله لمن قام بحقّ حمده اسم الله، فتجلى في كلّ كمال استحقه وافتضاه، وحصر بنقطة خال جلاله حروف الجمال واستوفاه.

سمع حمد نفسه بما أثنى عليه المعبود، فهو الحامد والحمد والمحمود ، حقيقة الوجود المطلق.

عين هوية المسمى بالخلق والحقّ، محتد العالم الظاهر على صورة آدم معنى لفظ الكائنات، روح صور المخترعات.

الموجود بكماله من غير حلول في كل ذرّة، اللائح جمال وجهه في كل غرّة، ذي الجلال المستوجب، حائز الكمال المستوعب.

ذات حقيقة الجواهر والأعراض، صورة المعاني والأغراض، هوية العدم والوجود، إنية عين كل والد ومولود، بصفاته جمّل الجمال فعمّ، وبذاته آمل الكمال فتمّ، لاحت محاسنه على صفحات خدود الصفات، واستقامت بقيومية أحديته قدود الذات، فنطقت ألسن الصوامت أنه عينها، وشهدت عين المحاسن والمساوئ أنه زينها، توحد في التعداد، وتفرّد بالعظمة في الآزال

والآباد، تنزّه عن الاحتياج إلى التنزيه، وتقدّس عن التمثيل والتشبيه.

وتعالي في احديته عن العد وعز في عظمته أن يحصره الحد ، لا يقع الكم عليه ولا كيف ولا اين  ، ولا يحيط به العلم ولا تدركه العين حياته نفس وجود الحياة و ذاته عين قيومته بكنه الصفات .

مجلي الأعالي والاسافل عين الاواخر والأوائل هيولي الكمال الباذخ منشأ عظمة المجد الشامخ ، سريان حياته في الأشياء آل  معدن علمه بالوجود، وعلمه بها محل بصره المدرك لكل غائب و مشهود ، رؤياه للأشياء مجلي.

سماعة لكلامها وسماعه للموجودات عين ما افتضاه منه حتى نظامها إرادته مركز كلمته الباهرة.

وكلمته منشأ صفته القادرة، بقاؤه هوية بطون العدم وظهور الوجود ، ألوهيته الجمع بين ذل العابد وعز المعبود.

تفرد بالوصف المحيط، وتوحد فلا واله ولا ولد ولا خليط، تردى بالعظمة والكبرياء، وتسربل بالمجد والبهاء، فتحرك في كل متحرك بكل حركة، وسكن في كل مماكن بكل سكون بلا حلول كما يشاء.

ظهر في كل ذات بكل خلق، واتصف بكل معنى في كل خلق وحق، جمع بذاته شمل الأضداد وشمل بواحديته جمع الأعداد.

فتعالى وتقدس في فرديته عن الأزواج والأفراد، أحديته عين الكثرة المتنوعة وتريع عين الازواجيات المتشفعة، بساطة تنزيه نفس تركيب التشبيه ، تعاليه في ذاته هويه عزة التنويه ، لا تحيط بعظمته العلوم، ولا تدرك كنه جلاله فهومه الفهوم ، اعترف العالم بالعجز عن ادراكه ،ورجع العقل في ربقه من رتقه خائبا من  فتقة، وفكاكه دائرة الوجوب والجواز، نقطة التصريح والإلغاز، هوية طرفي الإمكان في المشهد الصحيح ، والغرض، آنية الجوهر والعرض .

والحياة في طالع الشهود، ومستهل النبات والحيوان عند تزل السريان ، بحر تنزل الروحانيات العلى، مصعد أوج الملك ، وحضيض مهبط الشيطان والهوى، طامس ظلام الكفر والإشراك، نور بياض الايمان والإدراك ،صبح جبين الهدى.

ليل دجى الغي والعمى، مرآة الحديث والقديم، مجلي هوية العذاب والنعيم ، حيطته بالأشياء كونه ذاتها ذاته، عجزت عن الحيطة بكنهها صفاتها، لا أول لأوليته ، ولا آخر لآخريته، قيوم أزلي باق أبدي، لا تتحرك في الوجود ذرة إلا بقوته وقدرته وارادته ، يعلم ما كان وما هو كائن من أمر بدء الوجود ونهاتيه.

وأشهد أن لا إله إلاَّ الله المتعالي عن هذه العبارات، المتقدّس عن أن تعلم ذاته بالتصريح والإشارات.

كل إشارة دلت عليه فقد أضربت عن حقيقته صفحاً، وكل عبارة أهدت إليه فقد ضلّت عنه جمحاً، هو كما علم نفسه حسب ما اقتضاه، وبذاته حاز الكمال واستوفاه.

وأشهد أن سيدنا محمداً (ص) المدعو بفرد من أفراد بني آدم، عبده ورسوله المعظم، ونبيه المكرَّم، ورداؤه المعلم، وطرازه الأفخم، وسابقه الأقدم، وصراطه الأقوم، مجلى مرآة الذات، منتهى الأسماء والصفات، مهبط أنوار الجبروت، منزل أسرار الملكوت، مجمع حقائق اللاهوت، منبع رقائق الناسوت، النافخ بروح الجبرلة، والمانح بسرّ الميكلة، والسابح

بقهر العزرلة، والجانح بجمع السرفلة عرش رحمانية الذات.

آرسي الأسماء والصفات، منتهى السدرات، رفرف سرير الأسرات، هيولى الهباء والطبيعيات، فلك أطلس الألوهيات، منطقة بروج أوج الربوبيات، سموات فخر التسامي والترقيات، شمس العلم والدراية، بدر الكمال والنهاية.

نجم الاجتباء والهداية، نار حرارة الإرادة، ماء حياة الغيب والشهادة، ريح صبا نفس الرحمة والربوبية، طينة أرض الذلة والعبودية، ذو السبع المثاني، صاحب المفاتيح والثواني، مظهر الكمال، ومقتضى الجمال والجلال.

مرآة معنى الحسن مظهر ما علا .... مجلى الكمال عذيب الينبوع

قطب على فلك المحاسن شمسه .... لا آفلاً ما زال ذا تطليع

كل الكمال عبارة عن خردل ...     متفرّق عن حسنه المجموع

صلّى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه القائمين عنه في أحواله، النائبين منابه في أفعاله وأقواله، وأشهد أن القرآن كلام الله، وأن الحق ما تضمنه فحواه، نزل به الروح الأمين على قلب خاتم النبيين والمرسلين.

وأشهد أن الأنبياء حق والكتب المنزّلة عليهم صدق، والإيمان بجميع ذلك واجب قاطع، وأن القبر والبرزخ وعذابه واقع، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأشهد أن الجنة حقّ والنار حقّ والصراط حق والحساب يوم النشور حق؛ وأشهد أن الله يريد الخير

والشر، وبيده الكسر والجبر، فالخير بإرادته وقدرته ورضاه وقضاه، والشر بإرادته وقدرته وقضائه لا برضاه، الحسنة بتأييده وهداه، والسيئة مع قضائه بشؤم العبد واغتواه، ما أصابك من حسنة فمن الله، وما أصابك من سيئة فمن نفسك، كل من عند الله، منه بدء الوجود وإليه أمره يعود.

أما بعد، فإنه لما كان كمال الإنسان في العلم بالله وفضله على جنسه بقدر ما اكتسب من فحواه، وكنت معارف التحقيق المنوطة بالإلهام والتوفيق حرماً آمناً يتخطف الناس من حوله بالموانع والتعويق، قفارها محفوفة يكون للسالك إلى رفيقها الأعلى الرفيق الرقيق، وآملاً أن يكون للطالب لتلك المطالب الشقيق الشفيق، فيستأنس به في فلواتها البسابس ، ويتطرّق به في معالمها الدوامس، ويستضئ بضياء معارفه في ظلمات نكراتها الطوامس، فقد فقدت شموس الجذب من سماء قلوب المريدين.

وأفلت بدور الكشف عن سماء أفلاك السائرين، وغربت نجوم العزائم من همم القاصدين، فلهذا قلّ أن يسلم في بحرها السابح، وينجو من مهالك قفرها السائح:

كم دون ذاك المنزل المتعالي  ... من مهمه قد حفّ بالأهوال

وصوارم بيض وخضر أسنة .... حملت على سمر الرماح عوال

والبرق يلهب حسرة من تحته .... والريح عنه مخيب الآمال

وآنت قد أسست الكتاب على الكشف الصريح، وأيدت مسائله بالخبر الصحيح، وسميته

بــ  [الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل]

لكني بعد أن شرعت في التأليف، وأخذت في البيان والتعريف، خطر في الخاطر أن أترك هذا الأمر إجلالاً لمسائل التحقيق، وإقلالاً لما أوتيت من التدقيق،

فجمعت همتي على تفريقه، وشرعت في تشتيته وتمزيقه، حتى دثرته فاندثر، وفرقته شذر مذر، فأفل شمسه وغاب، وانسدل على وجه جماله برقع الحجاب، وتراته نسياً منسياً، واتخذته شيئاً فرياً، فصار خبراً بعد أن كن أثراً مسطوراً،

وتلوت " هل اتي على الانسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا"سورة الانسان . وأنشد لسان الحال بلطيف المقال:

كن لم يكن بين الحجون إلى الصفا .... أنيس ولم يسمر بمكة سامر

فأمرني الحق الآن بإبرازه بين تصريحه وإلغازه، ووعدني بعموم الانتفاع، فقلت طوعاً للأمر المطاع، وابتدأت في تأليفه، متكلاً على الحق في تعريفه، فها أنا ذا كرع من دنه القديم بكأس الاسم العليم، في قوابل أهل الإيمان والتسليم، خمرة مرضعة من الحي الكريم، مسكرة الموجود

والعديم:

سلاف تريك الشمس والليل مظلم  ..... وتبدي السها والصبح بالضوء مقحم

تجلّ عن الأوصاف لطف شمائل .... شمول بها راق الزمان المصرم

إذا جليت في كؤس من حبابها .... وديرت بدور الدهر وهو مزمزم

وآم قلدت ندمانها بوشاحها ..... مقاليد ملك الله والأمر أعظم

وربّ عديم ملكته نطاقها ..... فأصبح يثري في الوجود ويعدم

وآم جاهل قد أنشقته نسيمها ..... فأخبر ما إبليس كن وآدم

وآم خامل قد أسمعته حديثها ..... رقى شهرة عرشاً يعزّ ويكرم

فلو نظرت عين أزجة كوسها .... لما كحلت يوماً بما ليس تعلم

هي الشمس نوراً بل هي الليل ظلمة ... هي الحيرة العظمى التي تتلعثم

مبرقعة من دونها كلّ حائل   .....     ومسفرة كالبدر لا تتكتم

فنور ولا عين وعين ولا ضيا   .....   وحسن ولا وجه ووجه ملثم

شميم ولا عطر وعطر ولا شذى ......  وخمر ولا كس وكس مختم

خذوا يا ندامى من حباب دنانها  .....    أماني آمال تَجلّ وتعظم

ولا تهملوا باللَّه قدر جنابها       .....    فما حظّ من فاتته إلاَّ التندّم

لِيَهْن أخلائي الذين حظوا بها  ......  عليهم سلامي والسلام مسلم


 

 

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!