موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل

تأليف الشيخ عبد الكريم بن إبراهيم الجيلي (667هـ - 828هـ)

 

 


16. الباب السادس عشر في الحياة

وجود الشيء لنفسه حياته التامة، ووجود الشيء لغيره حياة إضافية له، فالحق سبحانه وتعالى موجود لنفسه ، فهو الحق، وحياته هي الحياة التامة، فلا يلحق بها ممات، والخلق من حيث الجملة موجود دون الله، فليست حياتهم إلاَّ حياة إضافية.

ولهذا التحق بها الفناء والموت، ثم إن حياة الله تعالى في الخلق واحدة تامة و هو الإنسان الكامل، فإنه موجود لنفسه وجودا حقيقيا لا مجازيا ولا إضافيا قربه، فهو الحي التام الحياة بخلاف غيره.

و الملائكة العليون وهم المهيمنة ومن يلحق بهم ، وهم من العناصر كالقلم الأعلى واللوح وغيرهما من هذا النوع، فإنهم ملحقون بالإنسان الكامل فافهم.

ومن الموجودات من ظهرت الحياة فيه على صورتها لكن غير تامة وهو الإنسان الكامل الحيواني والملك والجنّ، فإن كلا من هؤلاء موجود لنفسه بعلم أنه موجود وأنه كذا وكذا.

ولكن هذا الوجود له غير حقيقي لقيامه بغير قربه موجود للحق لا له، فكانت حياة قربه حياة غير تامة.

ومنهم من ظهرت له الحياة فيه لا على صورتها، وهو باقي الحيوانات.

ومنهم من بطلت فيه الحياة، فكان موجوداً لغيره لا لنفسه كالنبات والمعدن والحيوان وأمثال ذلك، فصارت الحياة في جميع الأشياء، فما ثم شيء من الموجودات إلاَّ وهو حي، لأن وجوده عين حياته، وما الفرق إلاَّ أن يكون تاماً أو غير تام.

بل ما تمَّ إلاَّ من حياته تامة، لأنه على القدر الذي تستحقه مرتبته، فلو نقص أو زاد لعدمت تلك المرتبة، فما في الوجود إلاَّ من هو حيّ بحياة تامة، ولأن الحياة عين واحدة، فلا سبيل إلى نقص فيها ولا إلى انقسام لاستحالة تجزئ الجوهر الفرد.

فالحياة جوهر فرد موجود بكماله لنفسه في كل شيء، فمشيئة الشيء هي حياته، وهو حياة الله التي قامت الأشياء بها، وذلك هو تسبيحها له من حيث اسمه الحي.

لأن كل شيء في الوجود يسبّح الحق من حيث كل اسم، فتسبيح الموجودات لله من حيث اسمه الحيّ هو عين وجودها بحياته، وتسبيحها له من حيث اسمه العليم هو دخولها تحت علمه.

وقولها له: يا عالم، هي كونها أعطته العلم من نفسها بأن حكم عليها أنها كذا وكذا.

وتسبيحها له من حيث اسمه القدير هو دخولها تحت قدرته.

وتسبيحها له من حيث اسمه المريد هو تخصيصها بإرادته على ما هي عليه.

وتسبيحها من حيث اسمه السميع هو إسماعها له إياه كلامها وهو ما تستحقه حقائقها بطريق

الحال لكنه فيما بينها وبين الله بطريق المقال.

وتسبيحها له من حيث اسمه البصير هي كونها تحت بصره بما تستحقه حقيقتها.

وتسبيحها له من حيث اسمه المتكلم هي كونها موجودة عن كلمته.

وقس على ذلك باقي الأسماء.

فإذا علمت ذلك فاعلم أن حياتها محدثة بالنسبة إليها، قديمة بالنسبة إلى الله، لأنها حياته، وحياته صفته وصفته ملحقة به، ومتى أردت أن تتعقل .

فانظر الى حياتك وتقييدها بك فإنك لا تجد إلا روحأ مختصأ بك وذلك هو الروح المحدث ،ومتى رفعت النظر عن حياتك من حيث اختصاصها بك ، وذقت من حيث الشهود أن كل حي في حياته .

كما أنت فيها وشهدت سريان تلك الحياة في جميع الموجودات ، علمت أنها الحياة الحق الله التي قام بها العالم، وتلك هي الحياة القديمة الإلهية فافهم ما أشرت لك في هذه العبارات.

بل في جميع كتابي هذا إذ كثر مسائل هذا الكتاب مما لم أسبق إليه ما خلا المصطلح عليها فإنه لا سبيل

إلى التحدث في علم إلاَّ باصطلاح أهله وإلاَّ فاكثر ما وضعته في كتابي هذا لم يضعه أحد قبلي في كتاب فيما أعلم، ولا سمعته من أحد في خطاب فيما أفهم، بل أعطاني العلم بذلك بشهوده بالعين التي لا يحجب عنها شيء في الأرض ولا في السماء " ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين"61 سورة يونس  .

واعلم أن كل شيء من المعاني والإلهيات والأشكال والصور والأقوال والأعمال والمعدن والنبات وغير ذلك مما يطلق عليه اسم الوجود، فإنه له حياة في نفسه لنفسه حياة تامة كحياة الإنسان لكن لما حجب ذلك عن الكثرين ، نزلناه عن درجته وجعلناه موجوداً لغيره، وإلاَّ فكل شيء من الأشياء له وجود في نفسه لنفسه وحياة تامة بها ينطق وبها يعقل وبها يسمع ويبصر ويقدر ويريد ويفعل ما يشاء.

ولا يعرف هذا إلاَّ بطريق الكشف فإنا شهدناه عياناً وأيّد ذلك الإخبارات الإلهية فيما نقل إلينا من أن الأعمال تأتي يوم القيامة صوراً تخاطب صاحبها فتقول له: أنا عملك، ثم تأتيه غيرها فتطردها وتناجيه .

وكذلك قوله إن الكلمة الحسنة تأتيه في صورة كذا وكذا، والقبيحة تأتيه في صورة كذا وكذا.

وقوله تعالى: {وإن من شيء إلا يسبح بحمده}44 سورة الإسراء.

فالأشياء جميعها تسبّح لله بلسان المقال، يسمعه من كشف الله عنه، وبلسان الحال كما سبق بيانه في هذا الباب، وتسبيحه بلسان المقال بحمد الله حقيقي غير مجازي فافهم.

ومن هذا القبيل نطق الأعضاء والجوارح، وقد وجدنا فيما أعطانا الكشف جميع ذلك، فإيماننا اليوم بالغيب إيمان تحقيق لا إيمان تقليد، ولا غيب عندنا إلاَّ من حيث نسبة الموطن.

وإلاَّ فغيبنا هو شهادتنا وشهادتنا هو غيبنا، ولم نذكر هذا التأييد النقلي إلاَّ لأجل المخاطب لا لأجل أنا وجدنا هذا الكشف بهذا التأييد، فافهم وتأمل ترشد إن شاء الله تعالى والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.


 


 

 

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!