موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل

تأليف الشيخ عبد الكريم بن إبراهيم الجيلي (667هـ - 828هـ)

 

 


20. الباب الموفي عشرين في الكلام

وفيه قال رحمه الله:

إن الكلام هو الوجود البارز  .....   فيه جرى حكم الوجود الجائز

كلا وهي في العلم كانت أحرفاً   .......    لا تَنْقَري إذ ليس ثمة مائز

فتميّزت عند الظهور فعبَّروا    ......    عنها بلفظة كن ليدرى الفائز

وإعلم بأن اللَّه حقاً إن يقل     ......   للشيء كن فيكون ما هو عاجز

فله الكلام حقيقة وله مجازاً     ......    كل ذلك كان وهو الجائز

إعلم أن كلام الله تعالى من حيث الجملة هو تجلي علمه باعتبار إظهاره إياه، سواء كنت كلماته نفس الأعيان الموجودة، أو كانت المعاني التي بفهمها عبادة إما بطريق الوحي أو المكالمة أو أمثال ذلك ، لان كلام الله تعالي في الجملة صفة واحدة نفسية ، ولكن لها جهتان :

الجهة الأولى على نوعين:

النوع الأول: أن يكون الكلام صادراً عن مقام العزّة بأمر الألوهية فوق عرش الربوبية وذلك أمره العالي الذي لا سبيل لمخالفته، لكن طاعة الكون له من حيث يجهله ولا يدريه، وإنما الحق سبحانه وتعالى يسمع كلامه في ذلك المجلى عن الكون الذي يريد تقدير وجوده.

 ثم يجري ذلك الكون على ما أمره به عناية منه ورحمة سابقة ليصح للوجود بذلك اسم الطاعة فيكون سعيداً، وإلى هذا أشار بقوله تعالى في مخاطبته للسماء والأرض: {ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين } 11 سورة فصلت  .

فحكم للأكوان بطاعته، فإنها أتت غير مكرهة تفضلاً منه وعناية.

 ولذلك سبقت رحمته غضبه لأنه قد حكم لها بالطاعة والمطيع مرحوم، فلو حكم عليها بأنها أتت مكرهة لكان ذلك الحكم عدلاً.

 لأن القدرة تجبر الكون على الوجود، إذ لا اختيار لمخلوق، ولكان الغضب حينئذ أسبق إليه من الرحمة، لكن تفضل فحكم بالطاعة لأن رحمته سبقت غضبه.

فكانت الموجودات بأثرها مطيعة، فما ثم عاص له من حيث الجملة في الحقيقة، وكل الموجودات مطيعة لله

تعالى كما شهد لها في كتابه بقوله: {أتينا طائعين } [فصلت: 11 ] وكل مطيع فما له إلاَّ الرحمة، ولهذا آل حكم النار إلى أن يضع الجبار فيها قدمه فتقول قط قط فتزول.

 فينبت في محلها شجر الجرجير كما ورد في الخبر عن النبي صلي الله عليه وسلم الله عليه وسلم ، وسنبين ذلك في هذا الكتاب في محله إن شاء الله تعالى.

فهذا أحد نوعي الجهة الأولى من الكلام القديم.

وأما النوع الثاني من الجهة الأولى :

فهو الصادر عن مقام الربوبية بلغة الأنس بينه وبين خلقه كالكتب المنزّلة على أنبيائه، والمكالمات لهم ولمن دونهم من الأولياء، ولذلك وقعت الطاعة والمعصية في الأوامر المنزّلة في الكتب من المخلوق، لأن الكلام الذي صدر بلغة الإنس فهم في الطاعة كالمجبرين.

أعني جعل نسبة اختيار الفعل إليهم ليصح الجزاء في المعصية بالعذاب عدلاً، ويكون الثواب في الطاعة فضلاً، لأنه جعل نسبة الاختيار لهم بفضله، ولم يكن لهم ذلك إلاَّ بجعله لهم، وما جعل ذلك إلاَّ لكي

يصح الثواب، فثوابه فضل وعقابه عدل.

وأما الجهة الثانية للكلام:

 فأعلم أن كلام الحق نفس أعيان الممكنات، وكل ممكن كلمة من كلمات الحق، ولهذا لا نفاد للممكن، قال تعالى: { قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفذ البحر قبل ان تنفذ كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا}109 سورة الكهف.

 فالممكنات هي كلمات الحق سبحانه وتعالى، وذلك أن الكلام من حيث الجملة صورة لمعنى في علم المتكلم، أراد المتكلم بإبراز تلك الصورة فهم السامع ذلك المعنى.

فالموجودات كلام الله وهي الصورة العينية المحسوسة و المعقولة الموجودة .

وكل ذلك صور المعاني الموجودة في علمه وهي الأعيان الثابتة.

فإن شئت قلت حقائق الانسان

 وان شئت قلت ترتيب الألوهية

وان شئت قلت بساطة الوحدة

وان شئت قلت تفصيل الغيب

وان شئت قلت صور الجمال

وان شئت قلت آثار الأسماء والصفات

وان شئت قلت معلومات الحق

وان شئت قلت الحروف العاليات

والى ذلك أشار الامام ابن عربي في قوله : "كنا حروفا عاليات لم تقرأ ".

فكما أن المتكلم لا بد له في الكلام من حركة إرادية للتكلم، ونفس خارج بالحروف من الصدر الذي هو غيب إلى ظاهر الشفة.

كذلك الحق سبحانه وتعالى في إبرازه لخلقه من عالم الغيب إلى عالم الشهادة يريد أولاً ثم تبرزه القدرة.

فالإرادة مقابلة للحركة الإرادية التي في نفس المتكلم، والقدرة مقابلة للنفس الخارج بالحروف من الصدر إلى الشفة لإبرازها من عالم الغيب إلى عالم الشهادة.

 وتكوين المخلوق مقابل لتركيب الكلمة على هيئة مخصوصة في نفس المتكلم، فسبحان من جعل الإنسان نسخة له كاملة.

ولو نظرت إلى نفسك ودققت لوجدت لكلّ صفة منه نسخة من نفسك.

 فانظر هويتك نسخة أي شيء، وإنيتك نسخة أي شيء، وروحك نسخة أي شيء، وعقلك نسخة أي شيء، وفكرك نسخة أي شيء، وخيالك نسخة أي شيء، وصورتك نسخة أي شيء.

 وانظر إلى وهمك العجيب نسخة أي شيء، وبصرك وحافظتك وسمعك وعلمك وحياتك وقدرتك وآلامك وإرادتك وقلبك وقالبك كل شيء منك نسخة أي شيء من آماله، وصورة أي حسن من جماله.

ولولا العهد المربوط والشرط المشروط لبينته أوضح من هذا البيان ولجعلته غذاء للصاحي ونقلاً للسكران.

لكنه يكفي هذا القدر من الإشارة لمن له أدنى بصارة، وما أعلم أحداً من قبلي أذن له أن ينبه على أسرار نبهت عليها في هذا الباب إلاَّ أنا.

فقد أمرت بذلك، ومن هذا القبيل أكثر الكتاب لكني جعلت قشرة على الباب يلفظها من هو من أولي الألباب، ويقف دونها من وقف دون الحجاب.

والله يقول الحق وهو يهدي إلى الصواب.


 


 

 

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!