موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل

تأليف الشيخ عبد الكريم بن إبراهيم الجيلي (667هـ - 828هـ)

 

 


37. الباب السابع والثلاثون في الزبور

الزبور لفظة سريانية وهي بمعنى الكتاب، واستعملها العرب حتى أنزل الله عز وجل: "و كل شيء فعلوه في الزبر" 52 سورة القمر .
أي: في الكتب، وأنزل الزبور على داود آيات مفصلات.

ولكنه لم يخرجه لقومه إلا جملة واحدة بعد أن أكمل الله تعالی نزوله عليه.

وكان داود عليه السلام ألطف الناس محاورة وأحسنهم شمائل.

وكان إذا تلا الزبور وقفت الحيوانات حوله من الوحوش والطيور، وكان نحيف البدن قصير القامة ذا قوة شديدة كثير الاطلاع على العلوم المستعملة في زمانه.

واعلم أن كل كتاب أنزل على نبي ما جعل فيه من العلوم إلا حد ما يعلمه ذلك النبي حكمة إلهية لئلا يجهل النبي ما أتى به.

فالكتب يتميز بعضها على بعض في الأفضلية بقدر تميز المرسل بها على غيره عند الله تعالى.

ولهذا كان القرآن أفضل كتب الله تعالى المنزلة على أنبيائه، لأن محمدا صلى الله عليه وسلم كان أفضل المرسلين.
فإن قلت: كلام الله لا أفضلية لبعضه على بعض.

قلنا قد ورد في الحديث عن النبي مع أنه قال: «سورة الفاتحة أفضل آي القرآن» فإذا صحت الأفضلية في القرآن بعضه على بعض فلا امتناع في بقية الكتب من الجملة.

واعلم أن الزبور أكثره مواعظ وباقيه ثناء على الله بما هو له فيه.

وما فيه من الشرائع إلا آيات مخصوصة.

ولكن تحتوي تلك المواعظ وذلك الثناء على علوم جمة إلهية حقيقية، وعلوم الوجود المطلق، وعلم تجلي الحق تعالى في الخلق وعلم التسخير والتدبير، وعلم مقتضيات حقائق الموجودات، وعلم القوابل والاستعدادات،
وعلم الطبيعيات، وعلم الرياضات، وعلم المنطق، وعلم الخلافة، وعلم الحكمة، وعلم الفراسة إلى غير ذلك من العلوم.

كل ذلك بطريق الاستتباع؛ ومنه شيء على سبيل التصريح مما لا يضر إظهاره، ولا يؤدي إلى كشف سر من أسرار الله تعالى.

وكان داود عليه السلام کثیر العبادة، وكان يعلم منطق الطير بالكشف الإلهي، ويحدثهم بالقوة الإلهية، فيبلغهم في آذانهم ما يريده من المعاني.

بأي لفظ شاء، لا كما يزعمه من لا معرفة له بحاله، فيزعم أنه كان يتكلم بنفس لغة الطير زعما منه أنها على لفظ مصطلح عليه.

بل كان يفهم أحاديث الطيور على اختلاف أصواتها ويعلم المعاني التي تدل عليها تلك الأصوات بطريق الكشف الإلهي.

وذلك قول ولده سليمان: «علمنا منطق الطير" 16 سورة النحل .

وأستمر به ذلك الحال حتى زعم من زعم أن للطيور لغة موضوعة يتحدث بها بعضها مع بعض.

وأن فهم داود لها من حيث معرفته بذلك الوضع، بل إنما لها أصوات تخرجها من غير وضع معلوم لديها.

لكنها إذا عرض لها حال برز منها صوت يفهمه غيرها من الطيور إلهامة إلهية لما فيها من اللطف الروحي.

فإذا عرض لها حال آخر برز منها مثل ذلك الصوت بعينه أو غيره فيفهمه من يفهمه من الطيور أو غيرها إلهامية إلهيا.

فكانت سائر الحيوانات إذا برز منها صوت علم داود منها ما تضمنه الصوت علما كشفية إلهية.

وكان إذا أراد داود أن يكلم أحدا منهم كلمه إن شاء باللغة السريانية وإن شاء بغيرها من أصوات الحيوانات.

فيفهمه ذلك الحيوان للقوة الإلهية التي جعلها الله تعالى لداود في كلامه.

وهذا الأمر الذي جعله الله لداود وسليمان عليهما السلام غير محصور فيهما ولا مقصور عليهما.

وإنما هو أمر عام في جميع الخلفاء، أعني الخلافة الكبرى.

وما اختص داود وسليمان إلا بظهور ذلك والتحدي به.

وإلا فكل واحد من الأفراد والأقطاب له التصرف في جميع المملكة الوجودية، ويعلم كل واحد منهم ما اختلج في الليل والنهار فضلا عن لغات الطيور.

وقد قال الشبلي رحمه الله تعالى:

لو دبت نملة سوداء على صخرة صماء في ليلة ظلماء ولم أسمعها لقلت: إني مخدوع أو ممکرر بي.

وقال غيره: لا أقول ولم أشعر بها لأنه لا يتهيأ لها أن تدب إلا بقوتي وأنا محرکها، فكيف أقول لا أشعر بها وأنا محرکها.

وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لزم الجني وأراد أن يربطه إلى سارية المسجد، ثم ذكر دعاء سلیمان فتركه (؟)، فعلم من ذلك أن قول سلیمان: "رب هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي"35 سورة ص .

إنما أريد به التحدي والظهور بهذه الخلافة، وهو الذي لا ينبغي لأحد من بعد سلیمان على الكمال.

وأما في بعض الأشياء دون بعض فقد ظهرت به الأنبياء وتبعهم فيه الأولياء رضوان الله عليهم.

واعلم أن الزبور في الإشارة عبارة عن تجلیات صفات الأفعال.

والتوراة عبارة عن تجليات جملة أسماء الصفات فقط.

والإنجيل عبارة عن تجليات أسماء الذات فقط.

والفرقان عبارة عن تجليات جملة الصفات والأسماء مطلقة الذاتية والصفاتية.

والقرآن عبارة عن الذات المحض.

وقد سبق الكلام على القرآن والفرقان والتوراة.

وكون الزبور عبارة عن تجلیات صفات الأفعال فإنه تفصيل التفاريع الفعلية الاقتدارية الإلهية.

ولذلك كان داود عليه السلام خليفة على العالم فظهر بأحكام ما أوحي إليه في الزبور.

فكان يسير الجبال الراسيات، ويلين الحديد ، ويحكم على أنواع المخلوقات.

ثم ورث سلیمان ملکه فكان سليمان وارثا عن داود، وداود وارثة عن الحق المطلق.

فكان داود فضل لأن الحق آتاه لخلافة ابتداء وخصه بالخطاب في قوله تعالى: "يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض"26 سورة ص.
ولم يجعل ذلك لسليمان إلا بعد طلبه على نوع الحصر .

وعلم داود أنه لا يمكن لأحد أن تقصر الخلافة عليه ظاهرا وباطنة، فلم يعطه الحق إلا من حيث الظهور.
ألا ترى إلى قوله تعالی حيث أخبر عن سليمان أنه قال:"قال رب أغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي "35 سورة ص .

فقال في جوابه: "فسخرنا له الريح تجري بأمره"36 سورة ص.
ثم عدد ما أوتي سليمان من الاقتدارات الإلهية ولم يقل فأتيناه ما طلب لأن ذلك ممتنع اقتصاره على أحد من الخلق لأنه اختصاص إلهي.

فمتى ظهر الحق تعالى في مظهر بذاته كان ذلك المظهر خليفة الله في أرضه.
وإليه الإشارة في قوله تعالى: "ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون" 105 سورة الأنبياء.
يعني: الصالحين للوارثة الإلهية.

والمراد بالأرض هذا الحقائق الوجودية المنحصرة بين المجالي الحقية والمعاني الخلقية.

وإليها الإشارة في قوله:" إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون"56 سورة العنكبوت.
فإن قلت: إن دعوة سليمان مستجابة باعتبار أن المملكة الكبرى لا تنبغي لأحد من بعد الله وهو حقيقة سليمان فقد صحت الدعوة له فقد صدقت.

وإن قلت: إن دعوة سليمان غير مستجابة باعتبار عدم قصر الخلافة عليه وأن ذلك قد صح لمن بعده من الأقطاب والأفراد فقد صدقت، فاعتبر کیف شئت.

فلما علم داود امتناع قصر الخلافة عليه ترك هذا الطلب.

فطلب سلیمان تأديبة إلهية يريد تفرده بالمظاهر الإلهية لتفرد حقه بها.

وهذا ولو كان ممتنعا فهو جائز الطلب للوسع الإلهي والإمكان الوجودي.

ولكن لا يعلم أحد صح له ذلك أم لا، وفي هذا المقام أخبر الحق تعالى عن أوليائه فقال تعالى:"وما قدروا الله حق قدره"91 سورة الأنعام .

"وسبحان ربك رب العزة عما يصفون"180 سورة الصافات.

فصار من هذا الوجه ممتنعة، فلهذا قال الصديق الأكبر:
"العجز عن درك الإدراك إدراك".
وقال عليه الصلاة والسلام: "لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك" (۳) فتأدب صلى الله عليه وسلم  في طلب ما لا يمكن حصوله، واعترف بالعجز لكمال ربه.

وكان عليه الصلاة والسلام أعرف بربه من سليمان.

لأن سليمان عرف ما ينتهي فطلب حصوله ومحمد صلى الله عليه وسلم عرف ما لا ينتهي فتأدب عن طلب إدراك ما لا يدرك.

أعني تأدب فترك الدعاء بحصول ذلك لعلمه أن الله تعالى لم يجعله لأحد.

وإنه خصوصية فيه ذاتية استأثر الله تعالى بها عن سائر خلقه.

فانظر بين من لمعرفته بربه حد ينتهي، وبين من لا حد لمعرفته بربه ولا نهاية لها. وفي هذا المقام قال المحمديون من الأولياء ما قالوا.

فقال شيخنا للشيخ عبد القادر الجيلاني:
معاشر الأنبياء أوتيتم اللقب وأوتينا ما لم تؤتوه.

هكذا روى عنه الإمام محيي الدين بن العربي في الفتوحات المكية بإسناده، وقال الشيخ الولي أبو الغيث بن جميل رضي الله عنه:

"خضنا بحرا وقف الأنبياء بساحله" .

وهذا الكلام وإن كان له وجه من التأويل، فمذهبنا أن مطلق النبي أفضل من مطلق الولي.

وسيأتي الكلام على النبوة والولاية في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.

والله يهدي إلى الصواب.



 


 

 

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!