موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل

تأليف الشيخ عبد الكريم بن إبراهيم الجيلي (667هـ - 828هـ)

 

 


39. الباب التاسع والثلاثون في نزول الحق جل جلاله إلى سماء الدنيا في الثلث الأخير من كل ليلة

 وقوله صلى الله عليه وسلم: إن الله ينزل في الثلث الأخير من كل ليلة إلى سماء الدنيا فيقول: "هل هل" حديث صحيح مسلم

الحديث يدل بإشارته إلى ظهور الحق سبحانه وتعالى في كل ذرة من ذرات الوجود، فالمراد بالليلة هي الظلمة الخلقية.

والمراد بسماء الدنيا ظاهر وجود الخلق، وبالثلث الأخير حقيقته، لأن كل شيء من أشياء الوجود مقسم بين ثلاثة أقسام:
قسم ظاهر ويسمى بالملك.

وقسم باطن ويسمى بالملكوت.

والقسم الثالث القسم الجبروت.
هو المنزه عن القسم الملكي والملكوتي فهو الإلهي المعبر عنه القسم الجبروتي بالثلث الأخير بلسان الإشارة في هذا الحديث.

ولا انقسام لأن الشيء الواحد إذا اعتبرت عدم انقسامه لا بد أن تتعقل له ظاهرة وهو صورته، وباطنة وهو نفسه، ولا بد أن يكون له حقيقة يقوم بها، فظهرت الإشارة بالثلث الأخير، فتنزل الحق هو ظهوره بتنزيهه في نفس التشبيه الخلقي .

ولهذا الحديث اعتبار آخر بإشارة أخرى أعلى من هذه الإشارة الأولى .

وذلك أن تعلم أن المراد بالثلث الأخير هو الصفة الإلهية التي تجلى بها على عبده.

فحقيقة ظهور الذات إنما هو في أواخر تلك الصفة لا في مبدئها ولا في أوسطها، وهذا أمر ذوقي لا يعرف إلا بالكشف.

أعني ظهور الذات في أواخر ظهور الصفة، ولا انتهاء الشيء من الصفات، وهذا الانتهاء هو حكم الذات.

فظهرت الذات في الثلث الأخير ليلة الصفات.

وقوله: "إلى السماء الدنيا" يعني إلى صفاته التي عرفه بها خلقه في الأسماء وهم الدنيا، لأن له الصفات العلا، وهم لهم العبودية، فهي الدنيا من الدناءة، وأسماؤه هي سمائه الدنيا التي قامت بها عبوديتهم.

فالحاصل من هذه الاعتبارات أن الحق سبحانه وتعالى يظهر على عباده في صفاته التي عرفوه بها عند تناهي ظهور تلك الصفات.

 يعني أنهم قبل کمال ظهور تلك الصفة معها لا معه، فإذا أخذت في تناهي الظهور كانوا مع ذاته لا مع صفاته فافهم.

ولهذا الحديث إشارة أخرى بطريق السر وهي في حق الكمل، وذلك إذا علمت أن المراد بالليلة الذات الإلهية، وبالثلث الأخير كمال المعرفة الجائزة للذات.

 لأن للحق تعالی معرفتين:

معرفة يجوز أن يدرك كمالها.

ومعرفة لا يجوز أن يدرك كمالها.

وقولي إن كمال المعرفة الجائزة هو المراد بالثلث الأخير، لأن للولي ثلاث معارف بالله:

 المعرفة الأولى هي:

 "من عرف نفسه فقد عرف ربه" وقد سبق بيانه فيما مضى

والمعرفة الثانية معرفة الألوهية وهي تعرف الذات جمالها من الصفات، وهذه المعرفة بعد معرفة الرب المقيدة بمعرفة النفسي.

والمعرفة الثالثة هو الذوق الإلهي الذي يسري في وجود العبد فينزل بها في حقه من غيبه إلى شهادته.

 يعني تظهر آثار الربوبية في جسده فيكون يده لها القدرة، ولسانه له التكوين، ورجله له الخطوة، وعينه لا يحجب عنها شيء، وسمعه يصغي به إلى كل متكلم في الوجود.

وإلى هذا المعنى أشار عليه الصلاة والسلام بقوله: "حتى أكون سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به" (۲) الحديث، فيكون الحق ظاهره وهو الباطن.
فالحاصل من هذا الكلام :

أن المراد بنزول الرب ظهور آثاره وصفاته التي هي من مقتضيات الربوبية، والمراد بسماء الدنيا ظاهر جسم الولي.

 والثلث الأخير المعرفة الذوقية الإلهية السارية في وجود العبد التي بها يصح محقه وبها يتم سحقه، فيتحقق حقه.

والمراد بقوله: "في كل ليلة" من كل ظهور ذاتي في كل ولي إلهي فافهم.
ولا تخرج العبارة في الحديث بما أشرنا إليه عن ظاهر مفهوم الحديث بل تحقق بما نبهناك عليه.

ولا تترك أيضا ظاهر مفهوم الحديث، فإن كلامه صلى الله عليه وسلم يحتوي على أسرار لا تتناهى، ولكلامه ظاهر وباطن، ولكل باطن ظاهر، ولكل ظاهر باطن إلى سبعة بطون.

كما قال صلى الله عليه وسلم: إن للقرآن سبعة بطون وكلامه شعبة من كلام الله تعالى، لأنه لا ينطق عن الهوى:" إن هو إلا وحي يوحى"3-4 سورة النجم  ، وشرف وعظم، ومجد وكرم.



 


 

 

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!