موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل

تأليف الشيخ عبد الكريم بن إبراهيم الجيلي (667هـ - 828هـ)

 

 


52. الباب الثاني والخمسون في القلب وأنه محتد إسرافيل عليه السلام من محمد صلى الله عليه وسلم ومجد وكرم وعظم

 القلب عرش الله ذو الإمكان   ......     هو بيته المعمور في الإنسان

القلب عرش اللَّه ذو الإمكان      .....    هو بيته المعمور في الإنسان

فيه ظهور الحق فيه لنفسه        ......     وعليه حقاً مستوى الرحمن

خلق الإله القلب مركز سرّه      .....    ومحيط دور الكون والأعيان

فهو المعبر عنه في تحقيقهم      ......    بالمنظر الأعلى ومجلى الآن

والطور فيه مع الكتاب وبحره   ....    والرقّ والسقف الرفيع الشان

وهو الذي ضرب الإله بنوره    .....   مثلاً به في محكم القرآن

بالزيت والمصباح من مشكاته          ......    وزجاجة المتكوكب اللمعان

وهو المقلب و المقلب والذي     ..... يعلو فيدنو رفعة وتداني

منه الظلام له ومنه نوره         ......      وبه ينير عليه في الأكوان

وإليه جاء رسوله منه له          ......      لينال منه مقامه الربّاني

ملكاً بطاعته وربّاً بالعلا          .....      و بقبحه فحقيقة الشيطان

رمز وكل الناس فيه حائر        ......     ما بين ذي ربح وذي خسران

ما مخزن الأسرار إلاَّ درّة       .......     هي بحرها مثلاً وفي التبيان

بيت له باب عظيم ختمه          ......        لكنه للباب مصراعان

يقصيك مصراع إلى أعلى العلا   ....    وإلى الجحيم فسوف يدني الثاني

والباب إن فضيت يوماً ختمه    .....    وفتحته من غير ما كسران

يهنيك بلغت المنى بكماله         ......        ونزلت ثم بساحة الرحمن

لكن كذا كسرته تأتي الحمى      ......        وتقيم فيه مكانة السلطان

هذا مثكل القلب فإعلم سرّه       ......     ولسوف أظهره على كتمان

والبيت سرّ القلب أما بابه         ......       فاسم الإله ووصفه السبحاني

والختم فهو الذات قدّس ذاته      ......      والفض علم الحق بالإيمان

والفتح فهو شهود عين يقينه      .....         فيما حويت بمقلة وعيان

و بلوغك الأسباب منه تحقق     ......      بجوارح دانت لها الثقلان

ثم التهني بالتعالي إنه            ......         هو ساحة الرحمن في الإنسان

والكنز فإعلم علم ذلك دركه       .....          بعد الوجود لنكتة الديّان

حتى كذا لم تحترم مقداره        ......         سقط العزيز وذاك ذلّ هوان

من لم يعظم مشعر التحقيق لم    .....      يخلص من التكوين بين كيان

فوصول سرّك للحمى هو ذاته   ......     لكن بلا حسن ولا إحسان

ولقد يرجى للذي هو هكذا        .......        من نفخة تأتي بريح البان

هذا ومصراعاه واحده الرضا    ......      وهو الذي يفضي إلى رضوان

والآخر الغضب الشديد ووسعه       ......    وهو المجال الرحب للطغيان

فعلامة المرضي طاعة ربّه      ......         وعلامة المغضوب في العصيان

وعلامة المهني يفعل ما يشاء    ......         وعلامة المكسور في العرفان

هذي العروسة زفها لك خاطري        ......     في القلب فوق منصة العيدان

فانظر إلى الحسناء فيك بعينها    ......    تجلّى عليك لديك كل معان

 

اعلم وفقك الله أن القلب هو النور الأزلي والسر العلي المنزل في عين الأكوان لينظر الله تعالی به إلى الإنسان.

وعبر عنه في الكتاب بروح الله المنفوخ في روح آدم حيث قال:" ونفخت فيه من روحي".

ويسمى هذا النور بالقلب لمعان: منها:

 أنه لبابة المخلوقات وزبدة الموجودات جميعها أعاليها وأدانيها.

فسمي بهذا الاسم لأن قلب الشيء خلاصته وزبدته.

ومنها: أنه سريع التقلب وذلك لأنه نقطة يدور عليها محيط الأسماء والصفات، فإذا قابلت اسمة أو صفة بشرط المواجهة انطبعت بحكم ذلك الاسم والصفة.

وقولي بشرط المواجهة تقييد لأن القلب في نفسه لا يزال مقابلا بالذات لجميع أسماء الله تعالى وصفاته.

لكن يقابله في التوجه شیء ثان، وهو أن يكون القلب متوجهة لقبول أثر ذلك الشيء في نفسه فينطبع فيه، فيكون الحكم عليه لذلك الاسم.

ولو كانت الأسماء جميعها تحكم عليه فإنها تكون في ذلك الوقت مستترة الحكم تحت سلطان الاسم أو الأسماء الحاكمة.

فيكون الوقت وقت ذلك الاسم فيتصرف في القلب بما يقتضيه.

ثم اعلم أن وجه القلب يكون دائما إلى نور في الفؤاد يسمى الهم .

هو محل نظر القلب وجهة توجهه إليه، فإذا حاذاه الاسم أو الصفة من جهة محاذاة الهم نظره القلب فإنطبع بحكمه ثم يزول فيعقبه اسم آخر.

إما من جنسه أو من جنس غيره، فيجري معه ما جرى له مع الاسم الأول وهكذا على الدوام.

وأما ما كان من قفا القلب فإنه لا ينطبع به.

ثم اعلم أن القلب ما له قفا ينص عليه بل كله وجه لكن موضع الهم منه يسمى وجها، وموضع الفراغ منه يسمى قفا، وهذه الدائرة فيها كيفية ما ذكرناه. فافهم.

واعلم أن الهم لا يكون له من القلب جهة مخصوصة، بل يكون تارة إلى فوق وقد يكون تارة إلى تحت وعن اليمين وعن الشمال على قدر صاحب ذلك القلب.

فإن من الناس من يكون همه أبدا إلى فوق كالعارفين.

ومنهم من يكون همه أبدا إلى تحت كبعض أهل الدنيا.

ومنهم من يكون همه أبدا إلى اليمين كبعض العباد.

ومن الناس من يكون همه أبدا إلى الشمال وهو موضع النفس، فإنها محلها في الضلع الأيسر وأكثر البطالين لا يكون له هم إلا نفسه.

وأما المحققون فلا هم لهم فليس القلوبهم موضع يسمى قفا، بل يقابلون بالكلية كلية الأسماء والصفات فليس يختص وقتهم باسم دون اسم غيره.

لأنهم ذاتيون فهم مع الحق بالذات لا بالأسماء والصفات فافهم.

ومنها: أي من المعاني التي تسمى القلب من أجلها قلبا، فهو باعتبار أن الأسماء والصفات له كالقلوب ليفرغ نوره فيها و انصبابه إليها فلذلك التفريغ قد يسمى قلبا من قولهم قلبت الفضة في القالب قلبا وهو من وضع المصدر اسمة للمفعول.

ومنها: أنه مقلوب المحدثات بمعنی عکسها يعني نوره قديم إلهي.

ومنها: أنه الذي ينقلب إلى المحل الأصلي الإلهي الذي بدأ منه.

قال الله تعالى: " إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)" .سورة ق.

أي: انقلاب إلى الحق، فهو صرف وجه الهمة من العدوة الدنيا وهي الظواهر إلى العدوة القصوى وهي الحقائق وبواطن الأمور.

ومنها: أنه كان خلقة فانقلب حقا، يعني كان مشهده خلقية فصار مشهده حقية، وإلا فالخلق لا يصير حقا لأن الحق حق والخلق خلق، والحقائق لا تتبدل ولكن من كان أصله من شيء رجع إليه قال تعالى: "... وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) ".سورة العنكبوت

ومنها: أنه يعني القلب يقلب الأمور كيف يشاء، فإن القلب إذا كان على فطرته التي خلقه الله عليها تقلبت له الأمور حسب ما يحبه ويتصرف في الوجود كيفما شاء، والفطرة التي خلقه الله عليها هي الأسماء والصفات.

وهي قوله: "لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ(4) " سورة التين لكنه لما نزل مع الطبيعة إلى حكم العبادة وانتوال الشهوات، وكان هذا
غالب حكم البشر، لأنه كالثوب الأبيض ينطبع فيه أول ما يقع عليه.

وأول ما يعقله الطفل أحوال الظاهر من أهل الدنيا فينطبع فيه تشتتهم وتفرقهم وانحطاطهم إلى العوائد والطبائع، فيصير مثلهم .

وهو قوله تعالى: "ثم رددناه أسفل سافلين " فإن كان من أهل السعادات الإلهية وعقل بعد ذلك عن الحق تعالى الأمور التي تقتضيه إلى المكانة الزلفي والمراتب العليا، فإنه يتزکي يعني يتطهر مما تدنس به من .

اكتسابه البشریات، فهو بمنزلة من يغسل ثوبه مما طبع فيه، وعلى قدر تمكن الطبائع من قلبه تكون التزكية.

 فإن كان ممن لا تتمكن فيه البشريات والأمور العاديات كل التمكن، فإنه يتزکي بأقل القليل.

فهو بمنزلة من لم يتمكن لون النقش في ثوبه فغسله بالماء فعاد إلى أصله.

والآخر الذي تمكنت منه الطبائع والعادات بمنزلة من استولى النقش في ثوبه وتمكن منه فلا ينقيه إلا الطبخ بالنار والجص، وهو السلوك الشديد وقوة المجاهدات والمخالفات.

فهذا على قدر قوة سلوكه في الطريق ودوام مخالفته يكون تزكيته وصفاؤه وضعفه على قدر ضعف عزائمه في ذلك.

وهؤلاء الذين استثناهم الحق فقال: "إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25) .سورة الانشقاق - كذلك الآية 6 سورة التين .

يعني بما أودعناهم من الأسرار الإلهية التي نبهناهم عليها في كتبنا المنزلة على رسلنا، وذلك حقيقة إيمانهم بنا وبالرسل.

وهو وقوعهم على نكتة التوحيد فآمنوا وعملوا ما يصلح للحضور مع الله تعالى من الأعمال القلبية بأحسن العقائد ودوام المراقبة وأمثالها.

ومن الأعمال القالبية كالفرائض والسلوك وعدم المخالفة.

فهذا معنى قوله: " إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6)" .سورة التين .

يعني أنهم نالوا ما هو لهم فليس ذلك بموهوب حتى يكون ممنونة بل ظفروا بما اقتضته حقائقهم التي خلقناهم عليها من أصل الفطرة.

فكل ما نالوه إنما هو باستحقاق جعلناه لهم، ولو كان الكل من خزائن الجود فإن التجليات الذاتية لا تسمى موهبة، بل هي أمور استحقاقية إلهية.

وإلى هذا المعنى أشار شيخنا الشيخ عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه في قوله:
ما زلت أرتع في ميادين الرضا         ……    حتى بلغت مكانة لا توهب

ومنها: أن القلب الحقائق الوجود كالمرآة للوجه فهو عكسه، يعني أنه لما كان العالم سريع التغير في كل نفس انطبع عکسه في القلب، فهو كذلك سريع التغير.

وما سمي ذلك الانطباع عکسا وقلبا إلا لأن المرأة إذا قابلتها بشيء إنما ينطبع فيه عكسه لا عينه.

فإن كانت الكتابة مثلا من اليمين إلى الشمال انطبع فيه من الشمال إلى اليمين، حتى لو قابلت المرأة بصورة إنما تقابل يمين الصورة بشمال المرآة.

هذا لا يختلف أبدا، فلهذا سمي القلب قلبة.

وعندي أن العالم إنما هو مرآة القلب، فالأصل والصورة هو القلب والفرع والمرأة هو العالم.

وعلى هذا التقدير يصح فيه أيضا اسم القلب لأن كل واحد من الصورة والمرأة قلب الثاني: أي عكسه فافهم.

ودليلنا في أن القلب هو الأصل والعالم هو الفرع قوله تعالى: "ما وسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن ".
ولو كان العالم هو الأصل لكان أولى بالوسع من القلب، فعلم أن القلب هو الأصل وأن العالم هو الفرع.

ثم اعلم أن هذا الوسع على ثلاثة أنواع كلها سائغة في القلب:

النوع الأول:

وهو وسع العلم، وذلك هو المعرفة بالله، فلا شيء في الوجود يعقل آثار الحق ويعرف ما يستحقه كما ينبغي إلا القلب، لأن كل شيء سواه إنما يعرف ربه من وجه دون وجه، وليس لشيء غير القلب أن يعرف الله من كل الوجوه، فهذا وسع.

والنوع الثاني:

هو وسع المشاهدة، وذلك هو الكشف الذي يطلع القلب به على محاسن جمال الله تعالى، فيذوق لذة أسمائه وصفاته بعد أن يشهدها.

فلا شيء من المخلوقات يذوق ما لله تعالى إلا القلب، فإنه إذا تعقل مثلا علم الله بالموجودات وسار في فلك هذه الصفة ذاق لذاتها وعلم بمكانة هذه الصفة من الله تعالى، ثم القدرة كذلك.

ثم في جميع أوصاف الله تعالى وأسمائه فإنه يتسع لذلك ويذوقه كما يذوق مثلا معرفة غيره وقدرة غيره لسيره في أفلاكها، وهذا وسع ثان وهو للعارفين.

النوع الثالث:

وسع الخلافة وهو التحقق بأسمائه وصفاته حتى أنه يرى ذاته ذاته، فتكون هوية الحق عين هوية العبد، وانيته عين إنيته، و اسمه اسمه، وصفته صفته، وذاته ذاته، فيتصرف في الوجود تصرف الخليفة في ملك المستخلف وهذا وسع المحققين.
وهذا نكات في كيفية هذا التحقق وأين محل كل اسم منه من العارفين أضربنا عنها، واكتفينا بهذا القدر من التنبيه عليها لئلا يقضي ذلك إلى إفشاء سر الربوبية، وهذا الوسع قد يسمى وسع الاستيفاء.

اعلم وفقنا الله وإياك أن الحق تعالى لا يمكن درکه على الحيطة والاستيفاء أبدا لا لقديم ولا لحديث.

أما القديم فلأن ذاته لا تدخل تحت صفة من صفاته وهي العلم فلا يحيط بها وإلا لزم منه وجود الكل في الجزء.

تعالى الله عن الكل والجزء فلا يستوفيها العلم من كل الوجوه، بل إنه سبحانه وتعالى لا يجهل نفسه، لكن يعرفها حق المعرفة.

ولا يقال إن ذاته تدخل تحت حيطة صفة العلمية ولا تحت صفة القدرة تعالى الله، وكذلك المخلوق فإنه بالأولى لكن هذا الوسع الكمالي الذي قلنا إنه الوسع الاستيفائي إنما هو استيفاء كمال ما عليه المخلوق من الحق لا كمال ما هو الحق عليه.

فإن ذلك لا نهاية له، فهذا معنى قوله: "وسعني قلب عبدي المؤمن".

ولما خلق الله تعالى العالم جميعه من نور محمد ، كان المحل المخلوق منه إسرافيل قلب محمد له، كما سيجيء بیان خلق جميع الملائكة وغيرهم كل من محل منه.

فلهذا لما كان إسرافيل عليه السلام مخلوقا من هذا النور القلبي، كان له في الملكوت هذا التوسع والقوة.

حتى أنه يحيى جميع العالم بنفخة واحدة بعد أن يميتهم بنفخة واحدة، للقوة الإلهية التي خلقها الله تعالى في ذات إسرافيل.

لأنه محتده القلب والقلب قد وسع الله تعالى لما فيه من القوة الذاتية الإلهية.

فكان إسرافيل عليه السلام أقوى الملائكة وأقربهم من الحق أعني العنصريين من الملائكة، فافهم ذلك، والله تعالى أعلم.

 


 


 

 

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!