موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل

تأليف الشيخ عبد الكريم بن إبراهيم الجيلي (667هـ - 828هـ)

 

 


54. الباب الرابع والخمسون في الوهم وأنه محتد عزرائيل عليه السلام من محمد صلى الله عليه وسلم

وفيه قال رحمه الله:

نور على الملكوت فوق الأطلس .....    بالوهم عبر عنه بين الأنفس

هو آية الرحمن أعني صورة     .....    فيها تجلّى بالجمال الكيس

هو قهره هو علمه هو حكمه     .....    هو ذاته هو كل شيء أرأس

هو فعله هو وصفه هو اسمه     .....    هو منه مجلى كل حسن أنفس

هو نقطة الخال الذي قد عبروا   .....    بيمينه عنه لمن لم يخنس

ويمينها القسم الذي هو قشره     .....    ستر على الحوراء مثل السندس

فاختر ولا تحتر فما هي دهشة   .....    لكنها مثل الظلام الحندس

خلق الله "وهم" محمد صلى الله عليه وسلم من نور اسمه الكامل، وخلق الله عزرائيل من نور

"وهم" محمد صلى الله عليه وسلم ، فلما خلق الله "وهم" محمد صلى الله عليه وسلم من نوره الكامل أظهره بالوجود بلباس القهر.

فأقوى مقهور بوهمه شيء يوجد في الإنسان القوة الوهمية فإنها تقلب العقل والفكر، والمصورة والمدركة وكل قوي فيه فإنه مقهور بوهمه.

وأقوى الملائكة عزرائيل لأنه خلق منه.

ولهذا حين أمر الله تعالى الملائكة أن تقبض من الأرض قبضة ليخلق منها آدم عليه السلام لم يقدر أحد أن يقبض منها إلا عزرائيل.

لأنه لما نزل لها جبريل أقسمت عليه بالله أن يتركها فتركها ومضى، ثم میکائیل، ثم إسرافيل وجميع الملائكة المقربين.

فلم يقدر أحد أن يتهجم على قسمها فيقبض منها ما أمره الله تعالى أن يقبض.

فلما نزل إليها عزرائيل أقسمت عليه فاستدرجها في قسمها وقبض منها ما أمره الله تعالى أن يقبض، وتلك القبضة هي روح الأرض.

فخلق الله من روحها جسد آدم.

فلهذا تولى عزرائیل قبض الأرواح لما أودع الله تعالى فيه من القوى الكمالية المتجلية في مجلى القهر والغلبة، ولأنه القابض الأول.

ثم إن هذا الملك عنده من المعرفة بأحوال جميع من يقبض روحه ما لا يمكن شرحه.

فيتخلق لكل جنس بصورة، وقد يأتي إلى بعض الأشخاص في غير صورة بل بسيطة، فينقش مقابلته للروح فتتعشق به فتخرج الروح من الجسد وقد مسكها الجسد وتعلقت به للعشق الأول الذي بين الروح والجسد.

فيحصل النزاع بين الجاذبة العزرائيلية وبين الجسد إلى أن يغلب عليها الجذب العزرائيلي فتخرج، وهذا الخروج أمر عجيب.

واعلم أن الروح في الأصل بدخولها في الجسد وحلولها فيه لا تفارق مكانها ومحلها.

ولكن تكون في محلها وهي ناظرة إلى الجسد، وعادة الأرواح أنها تحل موضع نظرها، فأي محل وقع فيه نظرها تحله من غير مفارقة لمركزها الأصلي.

وهذا أمر مستحيل العقل ولا يعرف إلا بالكشف.

ثم إنه لما نظرت إلى الجسم نظر الاتحاد وحلت فيه حلول الشيء في هويته، اكتسبت التصوير الجسماني بهذا الحلول في أول وهلة.

ثم لا تزال تكتسب منه إما الأخلاق المرضية الإلهية فتصعد وتسمو به في عليين.

وأما الأخلاق البهيمية الحيوانية الأرضية فتهبط بتلك الأخلاق إلى سجين وصعودها هو تمكنها من العالم الملكوتي.
حال تصويرها بهذه الصورة الإنسانية، لأن هذه الصورة تكسب الأرواح ثقلها وحكمها.

فإذا تصور الروح بصورة جسده اكتسب حكمه من الثقل والحصر والعجز وأمثال ذلك.

فيفارق الروح ما كان له من الخفة والسريان لا مفارقة انفصال ولكن مفارقة اتصال.

لأنها تكون متصفة بجميع صفاتها الأصلية ولكنها غير متمكنة من إتيان الأمور الفعلية فتكون أوصافها فيها بالقوة لا بالفعل، فلهذا قلنا إنها مفارقة اتصال لا مفارقة انفصال.

فإذا كان صاحب الجسم يستعمل الأخلاق الملكية فإن روحه تتقوى وترفع حكم الثقل عن نفسها، ولا يزال كذلك إلى أن يصير الجسد في نفسه كالروح، فيمشي على الماء ويطير في الهواء. وقد مضى ذكر هذا فيما تقدم من الكتاب.

وإن كان صاحب الجسم يستعمل الأخلاق البشرية والمقتضيات الأرضية فإنه يتقوى على الروح حكم الرسوب والثقل الأرضي، فينحصر في سجنه فيحشر غدا في سجين.
ثم إنها لما تعشقت بالجسم وتعشق بها الجسم كانت ناظرة إليه ما دام معتدلا في صحة فإذا سقم وحصل فيها الألم بسببه أخذت في رفع نظرها عنه إلى عالمها الروحي. فإن تفريحها هو في ذلك العالم.
ولو كانت تكره مفارقة الجسد، فإنها تأخذ نظرها فترفعه من العالم الجسدي رفعة ما إلى العالم الروحي، كمن يهرب من ضيق إلى سعة.

ولو كان له في المحل الذي يضيق فيه من سجنه سعة فلا يجد بدأ من الفرار، ثم لا يزال الروح كذلك إلى أن يصل الأجل المحتوم وتفرغ مدة العمر المعلوم.

فيأتيها هذا الملك المسمی بعزرائيل على صورة مناسبة لحالها عند الله.

فحسن حالها عند الله على قدر حسن تصرفها مدة الحياة في الاعتقادات والأعمال والأخلاق وغيرها.

وعلى قدر قبح ذلك يكون قبح حالها عند الله، فيأتيها الملك مناسبة لحالها، فيأتي مثلا إلى الظالم من عمال الديوان على صفة من ينتقم منه أو على صفة رسل الملك لكن في هيئة بشعة مستنكرة.

كما أنه يأتي إلى أهل الصلاح والتقوى في هيئة أحب الناس إليه وأشهاهم له حتى يتصور لهم بصورة النبي صلى الله عليه وسلم .

فإذا شهدوا تلك الصورة خرجت أرواحهم، وتصوره بصورة النبي مباح له ولأمثاله من الملائكة المقربين لأنهم مخلوقون من قوی روحانية كمن خلق من قلبه.

ومن خلق من عقله، ومن خلق من خياله وغير ذلك فافهم.

فإنه ممكن لهم لأنهم مخلوقون منه، فيتصورون بصورته للمناسبة.

وتصورهم بصورته هو من باب تصور روح الشخص بسجده.

فلما تصور بصورة محمد صلى الله عليه وسلم إلا روحه.

بخلاف إبليس عليه اللعنة وأتباعه المخلوقين من بشريته، فإنه صلى الله عليه وسلم  ما تنبأ إلا وما فيه شيء من البشرية للحديث: «إن الملك أتاه وشق قلبه فأخرج منه دمة فطهر قلبه»(صحيح مسلم في: الإيمان , مسند احمد)
فالدم هو النفس البشرية وهي محل الشيطان. فانقطعت نسبة الشيطان منه.
فلذلك لا يقدر أحد منهم أن يتمثل بصورته لعدم المناسبة.

ثم إن الملك عزرائیل لا يختص بصورة لأهل طاعة ولا لأهل ظلمة ومعصية بنوع، بل يتنوع لكل على حسب حاله ومقامه وما تقتضيه طبيعة كل ذلك على حسب ما يجده مسطرة في الكتاب.

فقد يأتي إلى الوحوش الفرائس منه على هيئة الأسد والنمر أو الذئب وغير ذلك مما تعتاد الفرائس أن يهلكن منه.

وكذلك الطيور فقد يأتيها على صورة الصياد والذابح أو على صورة البازي والصقر.

وكل شيء يأتي إليه فإنه لا بد له من مناسبة إلا من يأتيه على غير صورة مركبة، بل في بسيطة غير مرئية يهلك الشخص من رائحة سمها.

فقد تكون رائحة طيبة وقد تكون كريهة على قدر ما يجده محتومة عليه.

وقد لا يدرك رائحة بل يمر عليه ما لا يدركه ذلك لدهشة حال الميت، فإذا نظره تعشق به فانجذب نظره من جسده بالكلية فانقطع وقيل خرجت روحه.

ولا خروج ولا دخول اللهم إلا إن يعد نظره الذي يحل به دخولا إذ لا يصح الحلول إلا بالدخول.

فكذلك يعد ارتفاع النظر خروجها، ثم إن الروح بعد خروجها من الجسد لا يفارق الصورة الجسدية أبدأ.

لكن يكون لها زمان تكون فيه ساكنة مثل النائم الذي ينام ولا يرى في نومه شيئا، ولا يقتدي بمن يقول إن كل نائم لا بد له أن يرى شيئا.

فمن الناس من يحفظه ومن الناس من ينساه.

وفي هذا القول نظر لأنا قد أدركنا بالكشف الإلهي أن النائم قد ينام اليوم يومين وأكثر، ولا يرى في منامه شيئا فهو في ذلك النوم كمن يطوي له الحق مدة من الزمان في طرفة عين فيكون كمن غمض عينيه ثم فتحها.

وطوى له الحق في تلك المدة اليسيرة أيام كثيرة عاش فيها غيره.

كما أن الحق قد يبسط الآن الواحد للشخص حتى يكون له فيه أعمال كثيرة وأعمار يتزوج ويولد له، ولم يكن ذلك عند غيره.

 بل عند جميع أهل الدنيا إلا في أقل من ساعة من نهار، هذا أمر وقعنا فيه وأدركناه ولا يؤمن به إلا من له نصيب منا.

وهذا السكون الأول هو موت الأرواح.

ألا ترى إلى الملائكة كيف عبر صلى الله عليه وسلم عن موتهم بانقطاع الذكر.

فمن كشف له عن ذلك عرف ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم.

 ثم إذا فرغت مدة هذا السكون الذي يسمى موت الأرواح تصير الروح في البرزخ، وسيأتي بيان البرزخ في محله إن شاء الله تعالى.

سار بنا جواد القلم في بيان العلم حتى جاوز العلم، ولنرجع إلى ما كنا بسبيله من شرح حال النور الوهمي الذي خلقه الله من شمس الكمال، وألبسه في الوجود شعاع الجلال.

اعلم أن الله تعالى جعله مرآة لنفسه ومجلى قدسه، ليس في العالم شيء أسرع إدراكا منه ولا أقوى هيمنة، له التشرف في جميع الموجودات.

 به تعبد الله العالم، وبنوره نظر الله إلى آدم، به مشی من مشى على الماء، وبه طار من طار في الهواء هو نور اليقين وأصل الاستيلاء والتمكين.

من سخر له هذا النور وحكم عليه تصرف به في الوجود العلوي والسفلي، ومن حكم عليه سلطان الوهم لعب به في أموره، فتاه في ظلام الحيرة بنوره.

واعلم حفظ الله عليك الإيمان وجعلك من أهل اليقين والإحسان أن الله لما خلق الوهم قال له:
أقسمت أن لا أتجلى لأهل التقليد إلا فيك ولا أظهر للعالم إلا في مخافيك.

فعلى قدر ما تصعد بهم إلي تدلهم علي.

وعلى قدر ما تنكس عني بأنوارهم تهلكهم في بوارهم.

فقال له الوهم: أي رب أقم المرقاة بالأسماء والصفات لتكون سلمة إلى منصة الذات، فأقام الله فيه الأنموذج المنير، فانتقش في جداره بالهيبة والتقدير.

وتحكم فيه عبودية الحق تعالى فأقسم على نفسه باسم ربه.

وإلى أن لا يزال يفتح هذه الأقفال بتلك المفاتيح الثقال إلى أن يلج جمله في سم خیاط الجمال إلى فضاء صحراء الكمال.

فيعبد فيه الحق المتعال، فحينئذ ألبسه الله حلل التقريب
وقال له: أحسنت أيها الملك الأديب، ثم كساه الله تعالى حلتين:
 الحلة الأولى من النور الأخضر مكتوب على طرازها بالكبريت الأحمر "الرحمن. علم القرآن. خلق الإنسان. علمه البيان ". سورة الرحمن
وأما الحلة الثانية فهي القاصية الدانية، قد نسجت من سواد الطغيان مكتوب على طرازها بقلم الخذلان "إن الإنسان لفي خسر" (سورة العصر).

 فلما نزل هذا النور وأخذ بين العالم في الظهور خلق الله من ظهوره الحنطة.

فأكلها آدم فخرج بها من الجنة.

فتأمل هذه الأوصاف والإشارات، وما أودع الله لك في هذه العبارات، وأخرج عن صدق ظاهر الألفاظ تحظ بالدر الفضفاض.

 "والله يقول الحق وهو يهدي السبيل". سورة الأحزاب


 


 

 

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!