موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل

تأليف الشيخ عبد الكريم بن إبراهيم الجيلي (667هـ - 828هـ)

 

 


56. الباب السادس والخمسون في الفكر وأنه محتد باقي الملائكة من محمد صلى الله عليه وسلم

الفكر نور في ظلام الأنفس       .....       يهدي الصواب به فؤاد الكيّس

لكنما زلقاته تنمو على        .....       قطر السحاب وعد رمل البسبس

وله أصول إن يراعيها الفتى       .....       تحفظه من فرع الخطا في المقبس

تلك الأصول على تنوّع جنسها       .....       قسمان يحفظهن من لم يخنس

عقل وقسم العقل مضطرّ ومك       .....       تسب بحسن تجارب في الأنفس

والنقل قسم وهو إيمان الفتى       .....       بمغيب نيرانه لم تقبس

هذان أصل الفكر من أهل النهى       .....       من لم يقس بهما يقم في الحندس

لكن أرباب العقول فأصلهم       .....       نظر يصحّ بحكم عقل أرأس

لا يأخذون بأصل إيمان ولا       .....       هو عندهم بضياء ضبح مشمس

فلأجل ذا غلطوا وفات عليهم       .....       عين الصواب وكل أمر أنفس

اعلم وفقك الله للصواب وعلمك من الحكمة وفصل الخطاب، أن الرقيقة الفكرية أحد مفاتيح الغيب الذي لا يعلم حقيقتها إلا الله.

فإن مفاتيح الغيوب نوع حقي، ونوع خلقي.
النوع الحقي: هو حقيقة الأسماء والصفات.
النوع الخلقي: هو معرفة تركيب الجوهر الفرد من الذات، أعني ذات الإنسان المقابل بوجوهه وجوه الرحمن.

والفكر أحد تلك الوجوه بلا ريب، فهو مفتاح من مفاتيح الغيب، لكنه نور.

وأين ذلك النور الوضاح الذي يستدل به على أخذ هذا المفتاح.

فتفكر في خلق السموات والأرض لا فيهما وهذه إشارات لطفت معانيها فغابت في مخافيها.

 فإذا أخذ الإنسان في الترقي إلى صور الفكر وبلغ حد سماء هذا الأمر أنزل الصور الروحانية إلى عالم الإحساس.

واستخرج الأمور الكتمانية على غير قياس، وعرج إلى السماوات وخاطب أملاكها على اختلاف اللغات.

وهذا العروج نوعان:

فنوع على صراط الرحمن  من عرج على هذا الصراط المستقيم إلى أن يبلغ من الفكر نقطة مركزه العظيم وجال في سطح خطه القويم، ظفر بالتجلي المصون الملقب بالدر المكنون، في الكتاب المكنون، الذي لا يمسه إلا المطهرون.

 وذلك اسم أدغم بين الكاف والنون، ومسماه إنما أمره إذا أراد شيئا "أن يقول له كن فيكون".83 سورة يس  .

وسلم المعراج إلى هذه الرقيقة هو سر الشريعة والحقيقة.

وأما النوع الآخر فهو السحر الأحمر : المودع في الخيال والتصوير والمستور في الحق يحجب الباطل والتزوير.

هو معراج الخسران وصراط الشيطان إلى مستوى الخذلان "كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئا". 39 سورة النور .

فينقلب النور نارا والقرار بوارا، فإن أخذ الله بيده وأخرجه بلطيفة ما أيده جاز منه إلى المعراج الثاني، فوجد الله عنده.

فعلم حينئذ مأوى الحق وما به تميز في مقعد الصدق عن طريق الباطل.

ومن يذهب ذهابه وأحكم الأمر الإلهي فوفاه حسابه، وإن أهمل في تلك الدار وترك على ذلك القرار نفخ ناره على ثياب طبائعه فأهلكها.

ثم طلع دخانه إلى مشام روحه الأعلى فقتلها، فلا يهتدي بعدها إلى الصواب ولا يفهم معنى أم الكتاب.

بل كل ما تلقيه إليه من معاني الجمال أو من تنوعات الكمال يذهب به إلى ضيع الضلال.

فيخرج به على صورة ما عنده من المحال، فلا يمكن أن يرجع إلى الحق رجعة. "أولئك الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا".(104 سورة الكهف).
ولقد كنت غرقت في هذا البحر الغزير، و كاد يهلكني موج قعره الخطير، وأنا يومئذ في سماع بمدينة زبيد عام تسع وسبعين وسبعمائة.

وكان هذا السماع في بيت أخينا الشيخ العارف شهاب الدين أحمد الرداد، وكان شيخنا أستاذ الدنيا القطب الكامل والمحقق الفاضل: أبو المعروف شرف الدين إسمعيل بن إبراهيم الجبرتي حاضرة يومئذ في السماع.

فناديت بأعلى صوتي: اللهم إني أعوذ بك من العلم المهلك، أدركني يا سيدي أدرك، فكان يراعيني الشيخ في نفس السماع مراعاة من له على الأمر اطلاع، فنقلني الله ببركته إلى المعراج القويم الذي هو على الصراط المستقيم "صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور". 53 سورة الشورى .
 إلا أن بين المعراجين لطيفة لكنها في لطفها عظيمة شريفة، فلو أخذنا في بيانها أو بيان من رجع لعدم عرفانها.

أو شرحنا حال من هلك من الأولياء في بحارها فانطبع نوره بنارها، لاحتجنا في ذلك إلى بسط يكثر عدده ويطول مدده، وقصدنا الاختصار، لا التطويل والإكثار، فلنرجع إلى ما كنا بسبيله من الكلام في الفكر.

اعلم أن الله خلق الفكر المحمدي من نور اسمه الهادي الرشيد.

وتجلى عليه باسمه المبدىء المعيد، ثم نظر إليه بعين الباعث الشهيد.

فلما حوى الفكر أسرار هذه الأسماء الحسنی، وظهر بين العالم بلباس هذه الصفات العليا.

خلق الله من فکر محمد صلى الله عليه وسلم أرواح ملائكة السماوات والأرض، ووكلهم بحفظ الأسافل والأعالي.

فلا تزال العوالم محفوظة ما دامت بهذه الملائكة ملحوظة، فإذا وصل الأجل المعلوم وآن أوان الأمر المحتوم، قبض الله أرواح هذه الملائكة ونقلهم إلى عالم الغيب بذلك القبض.

فالتحق الأمر بعضه ببعض وسقطت السموات بما فيها على الأرض، وانتقل الأمر إلى الآخرة كما ينتقل إلى المعاني أمر الألفاظ الظاهرة.

فافهم هذه الاشارات وفك لغز هذه العبارات، تحظى بالأسرار المكتومة، وترفع حجب الأستار الموهومة.

فإذا اطلعت على هذه الأسرار، وسرت في ضياء هذه الأنوار، صنها تحت كتم العبارات، واحفظها تحت ختم الإشارات ولا تفشها، فالإفشاء خيانة.

ومن فعل ذلك فقد حرم ثواب استلزام الأمانة، ورجع إلى مرتبة العوالم بعد أن كاد يبلغ الملائكة الكرام.
هذا على أن إفشاءه لا يزيد السامع إلا ضلالا، ولا يفيد المخاطب إلا تقييدا واعتلالا "والله يقول الحق وهو يهدي السبيل".


 


 

 

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!