موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل

تأليف الشيخ عبد الكريم بن إبراهيم الجيلي (667هـ - 828هـ)

 

 


57. الباب السابع والخمسون في الخيال وأنه هيولي جميع العوالم

إن الخيال حياة روح العالم       .......         هو أصل تيك وأصله ابن الآدم

ليس الوجود سوى خيال عند من        .......       يدري الخيال بقدرة المتعاظم

فالحسّ قبل بدوّه لمخيل           .......         لك وهو أن يمضي كحلم النائم

فإذاك حكل ظهوره في حسِّنا     .......         باق على أصل له بتلازم

لا تغترر بالحس فهو مخيل      .......         وكذلك المعنى وكل العالم

وكذلك الملكوت والجبروت      .......         واللاهوت والناسوت عند العالم

لا تحقرن قدر الخيال فإنه        .......         عين الحقيقة للوجود الحكم

لكنما أصل الخيال جميعه        .......         قسمان هذا عند كشف الصارم

قسم تصوّر للبقاء وآخر          .......         متصور للهلك ليس بدائم

فافهم إشارتنا وفكّ رموزها      .......         لكن على أصل الكتاب القائم

وحذار من فهم يميل عن الهدى         .......         عما أتاك به النبيّ الهاشمي

ما ذاك قصدي إنما قصدي الذي        .......         جاء الرسول به بغير تكاتم

لم أبن أسّ رسالتي إلاَّ على      .......         أني أكون لدينه كالخادم

فإذا بدا لك ما تعسر فهمه        .......         أو كنت تفهم منه قول الغاشم

فاتركه والجأ للإله وقم على      .......         سنن أتاك به حديث القاسم

صلّى عليه اللَّه ما نار اليقين      .......         باسمه في ليل شك قاتم

اعلم وفقك الله أن الخيال أصل الوجود والذات الذي فيه كمال ظهور المعبود.

ألا ترى إلى اعتقادك في الحق وأن من له الصفات والأسماء ما هو له أين محل هذا الاعتقاد الذي ظهر لك فيه الله سبحانه وتعالى إنما هو الخيال.

فلأجل هذا قلنا إنه الذات الذي فيه كمال ظهوره سبحانه وتعالى.

 فإذا عرفت هذا ظهر لك أن الخيال أصل جميع العالم، لأن الحق هو أصل جميع الأشياء.

وأكمل ظهوره لا يكون إلا في محل هو الأصل، وذلك المحل هو الخيال فثبت أن الخيال أصل جميع العوالم بأسرها؟
ألا ترى إلى النبي صلى الله عليه وسلم كيف جعل هذا المحسوس منامة والمنام خيالا
فقال: "الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا" (۱) .

يعني تظهر عليهم الحقائق التي كانوا عليها في دار الدنيا، فيعرفون أنهم كانوا نياما، لا أن الموت يحصل الانتباه الكلي.

فإن الغفلة عن الله منسحبة على أهل البرزخ وأهل المحشر وأهل النار وأهل الجنة إلى أن يتجلى عليهم الحق في الكثيب الذي يخرج إليه أهل الجنة فيشاهدون الله تعالى.

وهذه الغفلة هي النوم، فكل العوالم أصلها خيال.

ولأجل هذا يقيد الخيال من فيها من الأشخاص.

فكل أمة من الأمم مقيدة بالخيال في أي عالم كانت من العوالم.

فأهل الدنيا مثلا مقيدون بخیال معاشهم أو معادهم، وكلا الأمرين غفلة عن الحضور مع الله فإنهم نائمون.

والحاضر مع الله تعالی منتبه، وعلى قدر حضوره مع الله يكون انتباهه من النوم.

ثم أهل البرزخ نائمون لكن أخف من نوم بعض أهل الدنيا.

فهم مشغولون بما كان منهم وما هم فيه من عذاب أو نعيم، وهذا نوم لأنهم ساهون: أي غافلون عن الله.

وكذلك أهل القيامة فإنهم ولو وقفوا بين يدي الله تعالى للمحاسبة، فإنهم مع المحاسبة لا مع الله وهذا نوم لأنه غفلة عن الحضور.

ولكنهم أخف نومة من أهل البرزخ.

وكذلك أهل الجنة والنار فإن هؤلاء مع ما ينعمون به وهؤلاء مع ما يعذبون به، وهذا غفلة عن الله ونوم لا انتباه.

 لكنهم أخف نوما من أهل الحشر، فنومهم بمثابة السنة.

على أن كلا من أهل هذه العوالم وإن كانوا في نظر مع الحق من حيث الحق، لأنه مع الوجود جميعه وهو القائل: "هو معكم أينما كنتم ". 4 سورة الحديد .
لكنهم معه بالنوم لا باليقظة، فلا انتباه إلا لأهل الأعراف ومن في الكثيب فقط فإنهم مع الله.

وعلى قدر تجلى الحق عليهم يكون الانتباه.

ومن حصل له من الله في دار الدنيا بحكم التقدير ما تأخر لأهل الجنة في الكثيب فيتجلى عليه الحق تعالی وعرفه فهو يقظان.

ولأجل هذا أخبر سيد أهل هذا المقام أن الناس نيام لأنه تيقظ وعرف.

فإذا عرفت أن أهل كل عالم محكوم عليهم بالنوم، فاحكم على تلك العوالم جميعها أنها خيال، لأن النوم عالم الخيال.

 ألا إن الوجود بلا محال         .......         خيال في خيال في خيال

ولا يقظان إلاَّ أهل حق           .......         مع الرحمن هم في كل حال

وهم متفاوتون بلا خلاف         .......         فيقظتهم على قدر الكمال

هم الناس المشار إلى علاهم     .......         لهم دون الورى كل التعالي

حظوا بالذات والأوصاف طرّاً   .......         تعاظم شأنهم في ذي الجلال

فطوراً بالجلال على التذاذ       .......         وطوراً بالتلذذ بالجمال

سرت لذّات وصف اللَّه فيهم      .......         لهم في الذات لذات عوالي

" در ورمز في بحر لغز" سافر الغريب المعبر عنه بروح إلى أن بلغ العالم المعبر عنه بيوح.

 فلما وصل إلى ذلك السما قرع باب الحمى.!
فقيل له: من أنت أيها الطارق العاشق؟
فقال: عاشق مفارق أخرجت من بلادكم وأبعدت عن سواكم .

فقيدت في قيد السمك والعمق والطول والعرض.

وسجنت في سجن النار والماء والهواء والأرض.

وقد كسرت القيد وأتيت أطلب خلاصا من السجن الذي فيه بقيت.

 فالغارة الشعراء أيها العرب الكرام فليس إلا أنتم للأسير المضام.
قال الراوي:
 فبرز إلي رجل قد نزل به الشيب .

وقال: اعلم أن هذا عالم الغيب رجاله جزيلة العدد جميلة المدد قوية العدد طويلة الأمد.

ينبغي للواصل إليهم والداخل عليهم أن يتزيا بزيهم الفاخر ويتطيب بطيبهم العاطر. قلت: ومن أين أجد تلك الأثواب؟
بل وأين تباع تلك الأطياب؟
فقال: الثياب في سوق السمسمة الباقية؟!
والأطياب في أرض الخيال الراوية.

 وإن شئت أن تعكس هذه العبارة فخذ الثياب من نسج الخيال، والطيب من أرض السمسمة.

فإنها أخوان بلا ريب، لهذا العالم المسمى بعالم الغيب.

فذهبت أولا إلى الأرض السمسمة ومعدن الجمال المسمی لبعض وجوهه بعالم الخيال.

فقصدت رجلا هناك عظيم الشأن رفيع المكان عزيز السلطان يسمى روح الخيال ويكنى بروح الجنان .

فلما سلمت عليه وتمثلت بين يديه، أجاب فحيا وبيا وثني وترحب بي وهيا.

فقلت له: يا سيدي ما هذا العالم المعبر عنه بالسمسمة الباقية من آدم؟
فقال: إنها اللطيفة التي لا تفنى على الدوام، والمحل الذي لا تمر عليه الليالي والأيام، خلقها الله من هذه الطينة، وألقي هذه الحبة من جملة العجينة.

وجعلها حاكمة على الجميع وأما للكبر والوضيع قد ترجمنا عنها في الكتاب وفتحنا فيها هذا الباب.

يجوز فيها المحال ويشهد فيها بالحس صورة الخيال.

فقلت: وهل أجد سبيلا إلى هذا المحل العجيب والعالم الغريب؟
فقال: نعم إذا كمل وهمك وتم، فاتسعت لجواز المحال وتمكنت بمشاهدة الحس لمعاني الخيال.

وعلمت النكتة وقرأت سر النقطة.

حينئذ تنسج لك من تلك المعاني ثيابا، وإذا لبستها فتح لك إلى السمسمة بابا.

فقلت له: يا سيدي إني على الأمر المشروط، وقد وثقت بحبل العقد المربوط، وعلمت بالكشف والوجود أن عالم الأرواح أظهر وأقوى من عالم الحس في الذوق والشهود.

فأشار بيده بعد همهمة، فإذا أنا في أرض السمسمة.

أرض من المسك النقيّ ترابها .......               ومن الجواهر ربعها وقبابها
أشجارها متكلمات نطق        .......         وكذاك أدؤرها نعم وعتابها
في طعمها من كل شيء لذّة           .......   حقاً ومن ماء الحياة شرابها
حاز الجمال فصار يشهد صورة        .....         فيها وكم أروى العطاش شرابها
هي نسخة من جنة المأوى لمن .......                يحظى بها في الأرض طاب مآبها
هي سرّ قدرة قادر برزت لمن    .......         يدري الأمور ولم يفته حسابها
ليست بسحر إنما هي ماؤها       .......         بل نارها وهواؤها وترابها
هي أصلها والسحر فرع للقضا      .......         ويجيب داعي الساحرين خطابها
يستخرج الرجل الشجاع مراده      .......         منها فيرفع للعيون نقابها
تبدو بقوّة همّة فعالة          .......         لممكن بين الورى أترابها
والناس فيها بين ناج فائز      .......         كمل الزكاة بها فتمّ نصابها
أو هالك باع السعادة بالشقا      .......         بخساً فدساها وزاد حجابها
هي أخت آدم بل هي ابنة سرّه      .......         فجميع أنساب له أنسابها
يفنى الجميع وتلك باقية على      .......         لطف و بالمقدور طال ركابها
هي نخلة ظهرت من الثمر الذي      .......         هو آدم ما في سواه جنابها
فيجيبها الإنسان يوماً إن دعت      .......         وإذا دعا الإنسان جاء جوابها
ليست خيالاً لا ولا حساً ولا      .......         غيراً لما قد قلت هاك صوابها
فلما دخلت هذه الأرض العجيبة وتطيبت من أطياب عطرها الغريبة.

ورأيت ما فيها من العجائب والغرائب والتحف والطرف ما لا يخطر بالبال ولا يرى في المحسوس ولا في عالم الخيال.

طلبت الصعود إلى عالم الغيب الموجود فأتيت إلى الشيخ الذي كان أول دال، فوجدته قد رق من العبادة حتى صار كالخيال، وضعف حتى خلته من مفرضات المحال.

لكنه قوي الجنان والهمة، شديد السطوة والعزمة سريع العقدة والقومة، كأنه البدر التمام.

فقلت بعد أن سلمت ورد السلام: أريد الدخول إلى رجال الغيب، فقد جئت بالشروط ولا ريب.

فقال: هذا أوان الدخول وزمان الوصول.

ثم قرع الحلق فانفتح الباب وانغلق، فدخلت مدينة عجيبة الأرض عظيمة الطول والعرض، أهلها أعرف العالم بالله، ليس فيهم رجل لاه.

أرضها درمكة بيضاء، وسمائها زبر جدة خضراء.

عربها عرب كرام ليس فيهم ملك إلا الخضر عليه السلام، فحططت رحالي لديه، وجثوت عنده بين يديه، ثم أخذت بالسلام عليه.

فحياني تحية الأنيس ونادمني منادمة الجليس، ثم بسطني في المقام .

وقال: هات ما لديك من الكلام.

فقلت: سيدي أسألك عن أمرك الرفيع وشأنك المنيع الذي اختلط فيه الكلام واختلط فيه الأنام.

فقال: أنا الحقيقة العالية والرقيقة المتدانية.

أنا سر إنسان الوجود، أنا عين الباطن المعبود، أنا مدرجة الحقائق، أنا لجة الرقائق، أنا الشيخ اللاهوتي، أنا حافظ العالم الناسوتي.

أتصور في كل معنى وأظهر في كل مغنی، أتخلق بكل صورة وأبرز آية في كل سورة.

وأمري هو الباطن العجيب وحالي هو الحال الغريب، سکنی جبل قاف ومحلى الأعراف.

 أنا الواقف في مجمع البحرین، والغارق في نهر الأين والشارب من عين العين.

أنا دليل الحوت في بحر اللاهوت. . أنا سر الغذاء و الحامل للفتي.

 أنا معلم موسى الظاهر. .  أنا نقطة الأول والآخر.

 أنا القطب الفرد الجامع. .  أنا النور اللامع.

 أنا البدر الساطع. .  أنا القول القاطع.

 أنا حيرة الألباب. .  أنا بغية الطلاب.

 لا يصل إلي ولا يدخل علي إلا الإنسان الكامل والروح الواصل.

 وأما من عداه فمكانتي فوق مأواه.

 لا يعرف لي خبرة ولا يرى لي أثرة، بل يصور له الاعتقاد في بعض صور العباد، فيتسمى باسمي ويكتب على خده وسمي.

فينظر إليه الجاهل الغر، فيظن أنه المسمى بالخضر، وأين هو مني.

بل أين كأسه من دني.

اللهم إلا أن يقال إنه نقطة من بحري أو ساعة من دهري.

إذ حقيقته رقيقة من رقائقي، ومنهجه طريقة من طرائقي.

فبهذا الاعتبار أنا ذلك النجم الغرار.

 فقلت له: ما علامة الوصول إليك والنازل في سوحك عليك؟
فقال: علامته في علم القدر منزوية ومعرفته في علم التحقيق بالحقائق منطوية.

ثم سألت عن أجناس رجال الغيب
فقال: منهم من هو بني آدم، ومنهم من هو من أرواح العالم.

وهم ستة أقسام مختلفون في المقام:
القسم الأول: هم الصنف الأفضل والقوم الكمل، هم أفراد الأولياء المقتفون آثار الأنبياء، غابوا عن عالم الأكوان في الغيب المسمى بمستوى الرحمن فلا يعرفون ولا يوصفون وهم آدميون.

القسم الثاني: وهم أهل المعاني وأرواح الأواني، يتصور الولي بصورهم فيكمل الناس في الباطن والظاهر بخيرهم.

فهم أرواح كأنهم أشباح للقوة الممكنة من التصوير في العين.

 سافروا من عالم الشهود فوصلوا إلى فضاء غيب الوجود، فصار غيبهم الوجود شهادة و أنفاسهم عبادة.

وهؤلاء أوتاد الأرض القائمون الله بالسنة والفرض.
القسم الثالث: ملائكة الإلهام والبواعث يطرقون الأولياء ويكلمون الأصفياء، لا يبرزون إلى عالم الإحساس، ولا يتعرفون لعوام الناس.
القسم الرابع: رجال المناجاة في المواقع، دائما يخرجون عن عالمهم ولا يوجدون إلا في غير معالمهم، يتصورون لسائر الناس في عالم الإحساس، وقد يدخل أهل الصفا إلى ذلك اللواء فيخبرونهم بالمغيبات و ينبئونهم بالمكتمات.
القسم الخامس: رجال البسايس هم أهل الحظوة في العالم، وهم من أجناس بني آدم، يظهرون للناس ثم يغيبون و يكلمونهم فيجيبون، أكثر سکنی هؤلاء في الجبال والقفار والأودية وأطراف الأنهار، إلا من كان منهم ممكنا فإنه يتخذ من المدن مسکن، نفيس مقامهم غير متشوق إليه ولا معول عليه.
القسم السادس: يشبهون الخواطر لا الوساوس، هم المولدون من أبي التفكر وأم التصور، لا يؤبه إلى أقوالهم ولا يتشوف إلى أمثالهم، فهم بين الخطأ والصواب، وهم أهل الكشف والحجاب.

 والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وعنده أم الكتاب.


 


 

 

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!