موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل

تأليف الشيخ عبد الكريم بن إبراهيم الجيلي (667هـ - 828هـ)

 

 


61. الباب الحادي والستون في أشراط الساعة وذكر الموت والبرزخ والحساب والقيامة والميزان والصراط والجنة والنار والأعراف والكثيب الذي يخرج أهل الجنة إل

اعلم أن العالم الدنيوي الذي نحن فيه الآن له انتهاء يئول إليه؛ لأنه محدث وضرورة حكم المحدث أن ينقضي.

ولا بد من ظهور هذا الحكم، فانقضاؤه وفناؤه تحت سلطان الحقيقة الإلهية الظاهرة في لباس أفراد هذا العالم الدنيوي هو موته وظهور الحقيقة الإلهية الظاهرة عندنا بالأحكام التي ذكرها سبحانه في كتابه هو الساعة الكبرى لهذا الوجود.

ثم إن كلا من أفراد العالم له ساعة خاصة يجتمع الجميع في الساعة العامة، لأن كل فرد لا بد أن يحصل في الساعة المختصة به.

ويعم هذا الحكم جميع الأفراد الموجودة في هذا العالم، وذلك العموم هو الساعة الكبرى التي وعد الله بها.

فلما علمت هذا وتحققته وعرفت أن العالم بأجمعه أعلاه وأسفله له أجل معلوم، لأن كل واحد من أفراده له أجل معلوم.
و بنظر الجملة، فعموم الحكم هو أجل العالم بأجمعه، وما ثم إلا هذا.

فلا أدري هل تفهم هذه النكتة على ما نص الكتاب عليه أم فهمك منه على غير مرادي. وأما على مفهوم العوام من ظاهره فسأنبهك عليه بعبارة أخرى.

اعلم أن الحق تعالى له عوالم كثيرة.

فكل عالم ينظر الله إليه بواسطة الإنسان يسمى شهادة وجودية.

وكل عالم ينظر إليه من غير واسطة الإنسان يسمى غيبا.

ثم إنه جعل ذلك الغيب نوعين:
فغيب جعله مفصلا في عالم الإنسان:
فالغيب المفصل في عالم الإنسان يسمى غيبا وجوديا، وهو كعالم الملكوت.

 وغيب جعله مجملا في قابلية الإنسان:

والغيب المجمل في القابلية يسمى غيبا عدميا، وهو كالعوالم التي يعلمها الله تعالى ولا نعلمها، فهي عندنا بمثابة العدم، فذلك معنى الغيب العدمي.
ثم إن هذا العالم الدنيوي الذي ينظر الله إليه بواسطة هذا الإنسان لا يزال شهادة وجودية ما دام الإنسان واسطة نظر الحق فيها.

فإذا انتقل الإنسان منها نظر الله إلى العالم الذي انتقل إليه الإنسان بواسطة الإنسان فصار ذلك العالم شهادة وجودية وصار العالم الدنيوي غيبا عدميا.

ويكون وجود العالم الدنياوي حينئذ في

العالم الإلهي کوجود الجنة والنار اليوم في علمه سبحانه وتعالى.

فهذا هو عين فناء العالم الدنياوي، وعين القيامة الكبرى وهي الساعة.

ولسنا بصدد ذكرها، بل غرضنا أن نشرح الساعة الخاصة بكل فرد من أفراد هذا العالم.

ونتحدث عن ذلك في الإنسان؛ لأنه أكمل أفراد الوجود فلنقس الباقين عليه، ونحيل فهم علم الساعة العامة على فهمك من كتاب الله تعالى.

خشية على إيمانك أن يسلبه شيطان الشك إن ذكرنا لك عجائب الساعة الكبرى، فلنقتصر من ذلك على ذكر الساعة الصغرى التي هي قبل الساعة الكبرى.

ثم لا تظن بأنهما ساعتان، بل هي ساعة واحدة.

فمثل هذا مثل الكلي الواقع على كل واحد من جزئياته.

مثلا كما تقول: مطلق الحيوان واقع على كل أنواع الخيل والأنعام والإنسان وغير ذلك.

ثم إن نفس لفظ الحيوان واقع على كل فرد من أفراد كل نوع.

ولا تتعدد الحيوانية في نفسها لأنها كلية تامة والكلية تقع على جزئياتها من غير تعدد.

 فكذلك الساعة الكبرى واقعة على كل من الساعة الصغرى من غير تعدد؛ فأول ما نذكر علامة الساعة وأشراطها ثم نذكرها.

اعلم أن للساعة الصغرى علامات وأشرطة مناسبة لعلامات الساعة الكبرى وأشراطها.

فكما أن من أمارات الساعة الكبرى أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان.

فكذلك الإنسان من علامة قيام ساعته الخاصة به ظهور ربوبيته سبحانه وتعالى في ذاته، فذات الإنسان هي الأمة.

والولادة هي ظهور الأمر الخفي من باطنه إلى ظاهره، لأن الولد محله البطن، والولادة بروز إلى ظاهر الحمل.

فكذلك الحق سبحانه وتعالى موجود في الإنسان بغير حلول، وهذا الوجود باطن، فإذا ظهر بأحكامه وتحقق العبد بحقيقة "وكنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها".

ظهر الحق تعالى في وجود هذا الإنسان، فتمكن من التصرف في عالم الأكوان، فذاته بمثابة الأمة وآثار ربوبية الحق بمثابة الربة، وظهورها بمثابة الولادة.

ثم تجرد العارف عن الأسماء بمثابة التحفي عن النعل، لأن الأسماء مراكب العارفين، وتجرده عن الصفات بمثابة حال العراة.

وكونه دائم الملاحظة للأنوار الأزلية بمثابة رعاء الشاء.

وكون المجذوب يأخذ في الترقي من المعارف الإلهية هو بمثابة تطاول البنيان.

فكما أن ظاهر هذا الحديث من أمارات الساعة الكبرى العامة في الوجود، كذلك باطنه الذي تكلمنا
عليه هو من علامات الساعة الصغرى الخاصة بكل فرد من أفراد الإنسان.

ومن علامات الساعة الكبرى:
ظهور يأجوج ومأجوج في الأرض حتى يملكوها، فيأكلون الثمار ويشربون البحار، ثم يرسل الله عليهم في ليلة واحدة النغف فيموتون عن آخرهم، فحينئذ يكثر الزرع، وينصع الأصل والفرع، وتطيب الثمار، ويحمد الملك الجبار.

 فكذلك الساعة الصغرى من علامات قيامها في الإنسان:
ثوران النفس بثوران الخواطر الفاسدة والوساوس المعاندة قبل تمكنه من نفسه.

فيملكون أرض قلبه، ويأكلون ثمار لبه، ويشربون بحار سره، حتى لا يظهر لمعارفه وأحواله فيهم أثر، فيرجع عن سكره إلى حقيقة الصحو.

ثم تأتيه العناية الربانية بالنفحات الرحمانية بتحف ألا "إن حزب الله هم الغالبون ".آية 56 سورة المائدة. .، ألا "إن حزب الله هم المفلحون".

فتكحل عين هدايته بإثمد: "الله يصطفي من يشاء من عباده " . فحينئذ تفنى الخواطر النفسانية، وتذهب تلك الوساوس الشيطانية.

وترد محلها ملائكة الله بالعلوم اللدنية والنفثات الروحية في الكمالات الروعية.

وهو بمثابة تكثر الزرع واخضرار الأصل والفرع، ثم تحققه في مقام القرب وتلذذه بمشاهدة الرب هو بمثابة طيب الثمار وحمد الملك الجبار.

فكما أن ظاهره من أمارات الساعة الكبرى، كذلك ما أشرنا إليه وهو باطنه من أمارات الساعة الصغرى الخاصة بكل فرد من أفراد الإنسان.

ومن أمارات الساعة الكبرى:
خروج دابة الأرض، قال الله تعالى: "وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم". آية 82 سورة النمل۔ .

 يعني إذا وقع القول وهو الأمر الإلهي برجوع هذا العالم إليه، وذلك انصرام أمر عالم الدنيا إلى الآخرة.

أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم، يعني تنبئهم بحقيقة ما وعدناهم به من البعث والنشور والجنة والنار وأمثال ذلك.

لأن الناس كانوا بآياتنا، يعني الأمور التي أخبرناهم بها في كلامنا لا يوقنون، فلأجل ذلك أخرجنا لهم تلك الدابة ليعلموا أنا قادرون على كل شيء فيوقنون بما بعدها وما تخبرهم به تلك الدابة.

فيرجع من يرجع إلى الحق، ويوقن بما أخبر به تعالى.

فكذلك الساعة الصغرى من أمارات قيامها في الإنسان بروز روحه الأمينة في حضرة القدس بخروجها من أرض الطبيعة البشرية لترك الأمور العادية.

وعدم إتيان الإقتضاءات السفلية، فحينئذ يتحقق له الكشف الكبير، وينبئه روح القدس بالنقير والقطمير، فیکلمه بجميع تلك الأخبار، ويظهر له بواطن الأستار فيعلمه بكتمان الأسرار ليرتفع حينئذ من مقام التصديق إلى مقام القرب في الرفيق الأعلى ونعم الرفيق.

 وذلك منة من الله وفضل واعتناء بعبده لئلا تنهزم جيوش إيمانه بعساکر دوام الحجاب، فيرجع إلى الخطأ عن حقيقة الصواب.

لأن مکتمات الربوبية ومقتضيات المرتبة الإلهية، عزيزة المرام عالية المقام، لا تكاد القلوب لشدة عزتها أن توقن بحصولها إلا بعد الكشف.

لأن الحق في نفسه ليس له وسع قبول تلك الأشياء، فلا يوقن بها إلا بعد الكشف الإلهي.

فكما أن الناس لا يتحققون وقوع الأمر إلا بخروج الدابة، كذلك العارف لا يتحقق بقبول تلك المقتضيات الإلهية إلا بعد خروج الروح من أرض الطبائع وخلاصها من القواطع والموانعفافهم.

ومن أمارات الساعة الكبرى:
خروج الدجال، وأن تكون له جنة عن يساره ونار عن يمينه، وأنه مكتوب بين عينيه كافر بالله.

وأنه يعطش الناس ويجوعون حتى لا يجدوا مأكلا ولا مشربا إلا عند هذا الملعون.

وإن كل من آمن به فإنه يسقيه من مائه ويطعمه من طعامه، ومن أكل من ذلك أو شرب منه لا يفلح أبدا.

وأنه يدخل المؤمن به جنته ومن دخل جنته قلبها الله عليه نارة وإنه يدخل من لا يؤمن به ناره، ومن دخل ناره قلبها الله علیه جنة.

وإن من الناس من يأكل من حشيش الجزر إلى أن يرفع الله عنه هذا الضرر.

وإن اللعين لا يزال يدور في أقطار الأرض إلا مكة والمدينة، فإنه لا يدخلها، وإنه يتوجه إلى بيت المقدس فإذا بلغ رملة لد وهي قرية قريبة من بيت المقدس بينهما مسيرة يوم وليلة.

أنزل الله عيسى عليه السلام على منارة هناك وفي يده الحربة.

فإذا رآه اللعين ذاب كما يذوب الملح في الماء فيضربه بالحربة فيقتله.
وكذلك الساعة الصغرى من علامات قيامها في الإنسان خروج الدجال من حقيقته وهي النفس الدجالة.

يعني أنها تخلط عليه الباطل وتبرزه له في معرض الحق.

ويقال دجل فلان على فلان:
 يعني لبس عليه الأمر واستغلطه، وهذه النفس الدجالة هي المسماة من بعض وجوهها بشيطان الإنس وهي محل الشياطين والوسواس وموضع المردة والخناس، وتسمى أيضا من بعض وجوهها بالنفس الأمارة بالسوء.

ومطلق لفظ النفس فهو اسمها في اصطلاح الصوفية؛ فمهما ذكروا النفس فإنهم يريدون الأوصاف المعلومة من العبد.

فهي بمثابة الدجال ومقتضياتها الشهوانية هي بمثابة الجنة التي هي عن يساره لأنها طريق أهل الشقاوة.

ومخالفتها بترك الطبائع والعوائد وحسم العلائق والقواطع هي بمثابة النار التي عن يمين الدجال.

إذ اليمين طريق أهل السعادة، وما تقتضيه الأمور النفسانية من تكثيف الحجب الظلمانية هو بمثابة

الكتابة التي على جبين الدجال، هذا هو الكافر بالله.

وصيرورة العارف في أسرها حتى يعدم عليه الصواب، فلا يكاد عند غلبتها أن يفهم معنى الخطاب .

هو بمثابة الجوع والعطش للناس في زمان الدجال وقهرها باللذات بالخاصة، حتى لا يكاد يجد العارف بدأ من مرافقتها هو بمثابة أن لا يجد الناس مأكلا ولا مشربا إلا عند الدجال اللعين.

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم يشير إلى هذا المعنى:

«سيأتي على الناس زمان يكون القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر".
 الترمذي 2260، وأحمد 390 / 2 و 391، والصحيحة 957.

 فمن رجع في تلك المدة عن المجاهدة ونعوذ بالله من ذلك إلى المقتضيات النفسية وركن إلى الأمور الطبيعية.

واستعمل الملذوذات الشهوانية، وأخذ في الأفعال العادية هو بمثابة من أخذ من الدجال .

فأخذ الركون إلى المباحات التي هي عند العارف كالخمر الحرام.

هو بمثابة من أطعمه الدجال من ذلك الطعام وانهماك من رجع إلى النفس والغفلات والأماني التي هي كالشراب بمثابة من سقاه اللعين مما عنده من الشراب.

ومن رجع من العارفين قبل بلوغه إلى هذه الأشياء فهو بمثابة من لا يفلح أبدأ.

ثم الاغترار بزخارف الدار التي بقاؤها محال ولذاتها خيال، هو بمثابة من دخل جنة الدجال فيقلبها الحق عليه نارا ويصير قراره فيها بوارا.

 ومن أسعده التوفيق وثبته الحق في جادة الطريق سلك بأنوار الشريعة في ليل التحقيق راكبة على متون المخالفات والمجاهدات والرياضات وأكل من حشیش الأكوان جزر ظهور الرحمن.

فهو بمثابة من دخل نار الدجال فقلبها له نعيما لا يزول وملكا لا يحول.

وأما إنه لا يزال يدور في أقطار الأرض إلى أن يحل الأمر الفرض ما خلا مكة الزهراء والمدينة ذات الروضة الخضراء.

فهو بمثابة ما تلبس به النفس على العبد في جميع المقامات ما خلا مقامين :
أحدهما مقام الاصطلام الذاتي :
وهو غيبوبة العبد عن وجوده بجانب الحضرة الإلهية الذاتية، فيذهب عن حسه ويفني عن نفسه، وهذا هو مقام السكر،
والمقام الثاني هو المقام المحمدي :
المعبر عنه في اصطلاح القوم بالصحو الثاني، فهذان المقامان ليس للنفس فيهما مجال لأنهما مصونان عن طوارق العلل، محفوظان في غيب الأزل.

فهما في ذلك المجال بمثابة البلدتين اللتين لا يدخلهما الدجال.

وما يلتبس على العبد من الكشوفات الإلهية فيغلط بها عن المحجة الصوابية هو بمثابة توجه هذا اللعين الأنجس إلى قطر البيت الأقدس ثم وقوفه دون تلك المحجة بالأرض المسماة بالرملة .

هو لأن دجال النفوس عند ظهوره على العارف في كل لبوس قد يظهر في مقابلة المقام الأنفس.

فيتوهم من لا معرفة له بالبلوغ من الوادي الأقدس فليس له إلى ذلك المقام من إلمام ولكنه يقف عند حده دون الحجاب.

إذ الرملة من طينة التراب، فينزل عيسى الروح وفي يده حربة الفتوح فيقتله هنالك، لأن عيسى هو روح الله المالك.

وإذا جاء الحق زهق الباطل وانقطع حكم الملابس والمداجل.

فكما أن هذه الآيات للساعة الكبرى من الشروط والعلامات، فكذلك باطنها وهي الأشياء التي ذكرناها والأمور التي شرحناها في علامات الساعة الصغرى المختصة بالإنسان دون سائر الأكوان.

ومن أشراط الساعة خروج المهدي عليه السلام وأن يعدل أربعين سنة في الأنام، وأن تكون أيامه خضراء ولياليه زهراء يخصب فيها الزرع ويكثر فيها در الضرع.

ويكون الناس في أمان مشتغلين بعبادة الرحمن.

فكذلك الساعة الصغرى من شروط قيامها في الإنسان خروج المهدي.

وهو صاحب المقام المحمدي ذو الاعتدال في أوج كل كمال.

وأن تكون دولته أربعين عاما بغير جحود، وهي عدد مراتب الوجود، وقد شرحناها في كتابنا المسمى بـ "الكهف والرقيم في شرح بسم الله الرحمن الرحيم" فمن أراد معرفة ذلك فليطالع هنالك.

وكون لياليه زهراء وأيامه خضراء هو بمثابة ما يتقلب فيه العارف بين السكر المرقي والصحو المبقي.

وتكثیر الزرع وتدرير الضرع بمثابة تواتر الإنعامات وترادف الكرامات، والأمان بمثابة دخول العارف مقام الخلة ونزوله في تلك الحلة، فإنه القائل سبحانه عن مقام إبراهيم "ومن دخله كان آمنا". آية 97  سورة آل عمران.

 يعني من العذاب الأليم، فإذا كان المقام الصوري يحصل به الأمان من الإحراق بالنيران.

فبالأولى والأحرى أن المقام المعنوي يحصل به الأمان من مكر الرحمن.

وهذا هو المقام الذي لما نزله الشيخ عبد القادر الجيلاني قال: إن الحق تعالى عاهده سبعين عهدا أن لا يمكر به، فما بعد ذلك إلا عبادة الرحمن وثناء الملك الديان.

 فانظر إلى هذه الإشارات كيف ناسبت تلك العبارات، فكما أن تلك من أشراط الساعة الكبرى كذلك هذه من أشراط الساعة الصغرى.

ومن أشراط الساعة الكبرى:
طلوع الشمس من مغربها، وأن يغلق بها باب التوبة في مغربها، وأن لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل.

إذ قد طوى يومئذ بساط الوصل، فحينئذ لا تقبل توبة ولا تغفر حوبة، فكذلك الساعة الصغرى من
شروط قيامها في الإنسان:
طلوع شمس شهوده من مغرب وجوده، وذلك عبارة عن الباطن الكشفي وهو تحقق اطلاعه على السر الكتمي.

فيعلم حينئذ ما هو ومن هو ويتحقق بأوصافه ويتمتع في جنة أعرافه.

فيحل الرموز ويستخرج منها الكنوز، ويعرف الألغاز ويفوز بالله مع من فاز.

فحينئذ طوى عنه بساط الوصل والفصل وليس للإيمان هناك نفع، إذ حكمه من قبل، لأن الإيمان لا يكون إلا فيما غاب ويرتفع حكمه برفع الحجاب.

فلا يقبل توبة ولا تغفر حوبة، لأن الذهب والغفران مقام محله الاثنين.

والأحد في أحديته منزه عن الذنب وغفريته.

 فهذه شروط الساعة الصغرى مقابلة الشروط الساعة الكبرى.

وقد عبر الإمام محيي الدين ابن عربي عن تلك العبارات وقابلها بما يقابلها من باب الإشارات.

فجعل مقابلة طلوع الشمس من المغرب رجوع الروح إلى المركز الأول والمنصب، وذلك عبارة عن الممات وانتقال الأمر إلى الآخرة بحكم الوفاة وجعل مقابلة إغلاق باب التوبة هو أن المغرغر لا تقبل له توبة ولا تغفر له حوبة.

وأيد ذلك بما قيل أن بين البابين تسعين عاما، وأنها تقابل الأعمار قیاسة ونظاما، وما ذكره هذا الإمام فمقبول، وعلى أحسن وجوهه فمحمول.

ولكنا لما كنا بصدد بیان أشراط الساعة الصغرى المختصة بالإنسان في أيام بقائه في هذه الدار، لم نذهب إلى ذكر غيره خوفا من هتك الأستار.

على أنا قد رمزنا في ذلك جميع الأسرار، ولم نترك أمرا لم ننبه عليه في هذا الكتاب.
والله يقول الحق وهو يهدي الصواب.



 

فصل نذكر فيه طرفا من ذكر الموت إذ قد سبق بيانه في الباب الرابع والخمسين من هذا الكتاب فيطالع فيه.

اعلم أن الموت عبارة عن خمود النار الغريزية التي يكون بها سبب الحياة في دار الدنيا.

وتلك الحياة عبارة عن نظر الأرواح إلى نفسها في الهياكل الصورية والمناسب لذلك النظر في هذه الهياكل الصورية هي الحرارة الغريزية ما دامت على حكم الاعتدال الطبيعي.

وهو أعني اعتدال الحرارة كونها مستوية في الدرجة الرابعة
لأن انصرافها في الدرجة الأولى هو قوة الحرارة العنصرية هي تلك الدرجة لا تقبل المزاج برکن آخر من أركان العناصر.

 فهي هناك آخذة في حدها من الانتهاء وأشباهها في الدرجة الثانية هي الحرارة النارية القابلة للامتزاج، ولولا امتزاجها ببقية الأركان لم يكن للنار وجود.

لأن كل واحد من النار والماء والهواء والتراب مركب من العناصر الأربعة التي هي الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة، ولكن كل ما غلب فيه ركن الحرارة حتى اضمحل الباقي سمي بالطبيعة النارية.

وكل ما غلب رکن البرودة فيه حتى اضمحلت البواقي سمي بالطبيعة المائية.

وكل ما غلب فيه حكم ركن الرطوبة على البواقي سمي بالطبيعة الهوائية.

وكل ما غلب فيه حكم اليبوسة على البواقي حتى اضمحلت البواقي سمي بالطبيعة الترابية.

 لا يسمى في هذه الدرجة نارية ولا مائية ولا هوائية ولا ترابية إلا إذا نزل إلى الدرجة الثالثة فامتزج بالأركان فأي شيء استوت الحرارة واليبوسة منه في الدرجة الثالثة واستتر فيه الركنان الآخران الضعفهما عن هذه الدرجة سمي ذلك الشيء نارا.

 وأي شيء استوت البرودة واليبوسة منه في الدرجة الثالثة حتى استتر الركنان الآخران منه لضعفهما عن هذه الدرجة سمي ذلك الشيء ترابا.

وأي شيء استوت الحرارة والرطوبة منه في الدرجة الثالثة حتى استتر الركنان الآخران منه لضعفهما عن هذه الدرجة سمي ذلك الشيء هواء.

 وأي شيء استوت البرودة والرطوبة منه في الدرجة الثالثة حتى استتر الركان الآخران منه لضعفهما عن هذه الدرجة سمي ذلك الشيء ماء.

 ألا ترى إلى فلك العناصر کیف هو من فوق فلك الطبائع، وفلك الطبائع من فوق فلك الاستقصات، وهي أفلاك النار والهواء والماء والتراب.

ثم بعد هذا إذا نزلت الحرارة الطبيعية درجة واستوت في الدرجة الرابعة.

وجدت في هيكل من هياكل الصور ممتزجة بقية الأركان امتزاجا جسمانيا حيوانيا كان ذلك الهيكل حيوانيا.

ولا يزال موجودة ما دامت هذه الحرارة الغريزية في هذه الدرجة، فإنها في الدرجة الرابعة تسمى غريزية.

كما أنها في الدرجة الثالثة تسمى حرارة نارية.

 وكما أنها في الدرجة الثانية تسمى حرارة طبيعية.

وكما أنها في الدرجة الأولى تسمى حرارة عنصرية.

وكذلك باقي الأركان فإنها بهذه المثابة في التسمية، فالموت هو ذهاب هذه الحرارة الغريزية من الهيكل الحيواني ما يضادها من البرودة الغريزية، هذا الأمر يصيب الجسم.

وأما نصيب الروح فإن حياة هيكلها هو مدة نظرها إلى الهيكل بعين الاتحاد، وموته هو ارتفاع ذلك النظر من الهيكل إلى نفسها.

فتبقى بكليتها في عالمها لكن على هيئة الهيكل الذي كان لها تتجسد على شكله في عالم الروح.

فيحكم لها بالوجود معها لذلك التجسد، لأن أحكامه ظاهرة في ذلك المحل على تجسدها.

ومن هنا أخطأ كثير من أهل الكشف النوراني وحكموا أن الأجسام لا حشر لها.
وأما نحن فقد علمنا بالاطلاع الإلهي حشر الأجسام مع الأرواح.

لأن موت الأرواح هو انفكاكها عن نفس الجسد الهيكلي لأن ذلك مما يقضي بانعدامها فتكون كأنها بسيطة في الوجود مدة معلومة.

ومثلها كالنائم الذي لا يرى في نومه شيئا فهو کالمعدوم في تلك الساعة.

لأنه لا هو في عالم الشهادة فيقظان، ولا في عالم الغيب فيكون يتراءى شيئا يدل على وجوده، فهو موجود معدوم.

ويضرب عنه المثل بالشمس، فإن الشمس إذا أشرقت من طاقة البيت كان البيت مضيئة بضوء الشمس ولم تنزل إليه ولا حلت فيه.

فكذلك الضياء بمثابة نظر الروح في الجسم المخصوص من أجسام الحيوانات.

ثم كذلك إذا كانت الطاقة من زجاج أخضر كانت شعلة الشمس في البيت خضراء أو حمراء إذا كانت الطاقة حمراء.

وكذلك على أي لون كانت زجاجة الطاقة كانت الشعلة في البيت على هيئتها وصورتها.

والروح كذلك إذا نظرت إلى الهيكل الإنساني أو إلى غيره كانت على صورته لا تتغير عن ذلك.

ثم زوال الشمس عن البيت هو بمثابة ارتفاع نظر الروح من الجسد.

والموت هو بمثابة خفاء تلك الشعلة في نفس شعاع الشمس، فلا يزال الشخص ميتا ونسبته نسبة اختفاء تلك الشعلة في نفس شعاع الشمس في العالم.
ثم البرزخ فإنه وجود ولكن غير تام ولا مستقل ولو كان تاما أو مستقلا لكان دار إقامة مثل دار الدنيا والآخرة.

 فهو في المثال كما نتصور نحن تلك الشعلة واخضرارها بخضرة الزجاجة فتشكل لنا كما هي عليه ولكن في عالم الخيال، لأن عالم الخيال لأهل الدنيا غير تام.

فليس الخيال أهل الدنيا استقلال بنفسه على أن عالم الخيال في نفسه عالم تام.

ولكن بالنظر إليه في عينه وهو بالنظر إلى عالم الحس والمعاني غير تام.

بخلاف خيال أهل الله فإنه

کامل و مستقل وتام بنفسه، فهو بمثابة آخرة غيرهم من أهل الدنيا.

وخيال من تصفى من البراهمة والكفرة والمشركين وأمثالهم بالمجاهدات والرياضات وأمثالهما، فإنه يكون بمثابة نوم أهل الدنيا وخيال أهل الدنيا لا اعتبار به.

ولو كان محتد الخيال واحدا في نفسه للجميع.

ولكنه لما فسدت خزانة خيالهم بالأمور العادية والمطلوبات الجسدية انقطعت عن حكم الصفاء الروحي.
ولما كان المتصفون من البراهمة والفلاسفة متخلصين من هذا، ولكن قد سكنت الأمور العقليات والأحكام الطبيعيات في خزانة خيالهم، فانقطعوا بذلك عن الترقي إلى المعاني الإلهية.

بخلاف خيال أهل الله فإنه مصون عن طوارق العلل ومحفوظ بالله في غير الأزل، فليس لعالم البرزخ وجود تام ولهذا يسمی برزخا.

وكذلك خيال أهل الدنيا برزخ بين العالم الوجودي وبين العالم العدمي، ثم نسبة القيامة نسبة رجوع الشمس في طاقتها التي كان الإشراق منها، ولا مزيد على هذا في البيان.

لأن الروح ما دامت غير متجسدة في الهياكل تلحق بالبساطة وهو حقيقة الموت.

فإذا تجسدت كان ذلك التجسد لها وجودا، ولكن ما دامت في ذلك التجسد مقيدة بلوازم الجسد فهي في البرزخ.

لأنها قاصرة عن جميع ما تقتضيه الروح في الإطلاق الروحاني.

فإذا أراد الله بعثها إلى القيامة أطلقها عن مقتضيات الجسد فصارت في أرض المحشر.
ثم الإطلاق إنما كان على حسب ما كانت عليه في الدنيا:
 فإذا كانت في الدنيا على الخير كانت مطلقة على الخير.

 وإن كانت في الدنيا على الشر كانت مطلقة في الشر.

لأنها لا تطلب بإطلاقها إلا ما كانت عليه في دار الدنيا وهو قوله تعالى: "وأن ليس للإنسان إلا ماسعى."آية 39 سورة النجم.

واعلم أن نسبة كون الأرواح المتعددة مخلوقة من نور الحق هو نسبة الشعاعات المختلفة المضيئة من شعاع الشمس.

ونسبة ما يدعيه المحققون من واحدية العالم نسبة الى واحدية الشمس، ولو ظهرت في تلك الزجاجات على اختلافها فهي واحدة لم تتعدد ولم تتنوع في نفسها.
ولو تنوعت المظاهر، ويكفي هذا القدر من التنبيه على هذا الأمر، لأنا قد بينا کيفية قبض الأرواح وكيفية إتيان عزرائیل للقبض في بابه مما سبق من الكتاب.

واعلم أن أحوال الناس في البرزخ مختلفة، فمنهم من يعامل فيه بالحكمة ومنهم من يعامل فيه بالقدرة.
فمن يعامل فيها بالحكمة :
ومن يعامل بالحكمة فإنه ينقلب في البرزخ في حقيقة عمله في الدنيا، فإذا كان مثلا مطيعا في الدنيا فإن الحق تعالى يخلق له في البرزخ معاني الطاعة صورة.

 فينتقل من صورة طاعة يقيمها الله تعالى إما صلاة وإما صوما وإما صدقة وإما غير ذلك إلى صورة أخرى من الطاعات.
ولا يزال ينتقل من عمل حسن إلى عمل آخر إما مثله وإما أحسن منه كما كان في الدنيا إلى أن تبدو عليه حقائق الأمور فتقوم قيامته.
ثم إن حسن تلك الصورة وبهجتها وضيائها على حسب قدر طاعته واجتماع خاطره فيها وحسن مقصده في ذلك العمل.

وقبح الصورة على قدر قبح ذلك العمل، فلو كان مثلا ممن يزني أو يسرق أو يشرب الخمر فإن الحق تعالى يقيم له معاني تلك الأفعال صورة ينتقل فيها، فيختلق للزاني فرجا من نار يلج فيه ذكره وحرارة ناره ونتانة ريحه على قدر قوة انهماكه في تلك المعصية.

 وكذلك يقيم للشارب كأسا من نار فيه خمر من نار فيشربه وينتقل منه إلى مثل ما كان ينتقل إليه في دار الدنيا.

ومن كان بين طاعة ومعصية فإنه ينتقل بينهما، أعني من صورة تلك المعاني التي خلقها الله تعالی إما من نور كما يخلق الطاعات.

وإما من نار كما يخلق صور المعاصي، فلا يزالون ينتقلون فيه وتبدو لهم بتوالي الانتقال حقائق الأمر شيئا فشيئا إلى أن يتم عليهم أحد الحكمين فتقوم عليهم القيامة.
فمن يعامل فيها بالقدرة :

وأما من عومل بالقدرة  فإنه لا يقع في معاني أعماله، ولكن يقع في معاني صورتها بالقدرة.

 فإن كان عاصيا وقد غفر الله تعالى له فلا ينتقل إلى صورة تشبه الطاعات يقيمها الله تعالی له هيئة إلهية.

فلا يزال ينتقل من صورة حسنة إلى أحسن منها إلى أن تقوم قيامته بظهور الحقائق على ساق.

فإن كان مطيعة مثلا وقد أحبط الله عمله فإن الحق تعالی يقيم صورة ما كتبه في الأزل من الشقاوة فيجليها عليه وينوعها له.

فلا يزال يتقلب فيها إلى أن تقوم قيامته على قدر طبقته من النار فيعذب في جهنم.

 ثم إن البرزخ خلق الله تعالى له قوما يسكنون فيه ويعمرونه، وليسوا من أهل الدنيا ولا من أهل القيامة، ولكنهم ملحقون بأهل الآخرة لاتحاد المحتد الذي خلقوا منه.

فمن جانسهم في الروحية بعد موته أنس منهم.

 كمن يصل إلى قوم يعرفهم ويعرفونه فيستأنس بهم ويتروح من همه معهم.

ومن لم يجالسهم فإنه يراهم غيظة له فلا يتألفون به ولا يتألف بهم.

ثم ينبعث منهم من جعله الله سببا لعذابه فيكون على أقبح صورة كان يكرهها في الدنيا فتأتيه.

وهي صورة عمله، فيتلقى بها من الوحشة والنفور ما لا يقاس بغيره.

ومنهم من تأتيه على أحسن صورة جميلة وهي صورة عمله، فيلقى بها من الألفة والعطف والحنان فتؤنسه تلك الصورة إلى أن تقوم قيامته.

ثم اعلم أن القيامة و البرزخ والدار الدنيا وجود واحد.

فمثاله مثال دائرة فرض نصفها دنيا ونصفها أخرى وفرض البرزخ بينهما.

وكل ذلك على سبيل الفرض، فإن هويتك التي أنت بها موجود، هي بعينها التي تكون بها في البرزخ، وهي بعينها التي تكون بها في القيامة.

فأنت في الدنيا وفي البرزخ وفي الآخرة بهذه الإنية، لكن التفاوت بينهما أن أمور البرزخ ضرورية لأنها مبنية على الدنيا: وأمور القيامة أيضا ضرورية لأنها مبنية على البرزخ، وأمور الدنيا اختيارية.

ثم اعلم أن الله تعالى إذا أراد أن تقوم القيامة، أمر إسرافيل عليه السلام أن ينفخ النفخة الثانية في الصور، لأن النفخة الأولى للإماته، و الصور هو عالم الصور الروحية ينفخ فيه النفخة الأولى من حيث اسمه المفني والمميت.

فتنعدم الصور وتنحل عقد هياكلها كما تنعدم الصور المرئية في النوم بالانتباه فترجع إلى محلها الذي خلقت منه.

ثم ينفخ النفخة الثانية في الصور فترجع كما كانت في عالم الأرواح فتدخل في قوالب الأشباح كما ذكرنا لك من عود إشراق الشمس في زجاجتها.

وكل هذا باعتبارها في وجودها.

فإن العالم الأخروي هو عالم الأرواح، وجميع عالم الأرواح عبارة عن مطلق الروح الموجودة في الإنسان فلا يخرج الإنسان عن نفسه.

لأن الآخرة عبارة عن عالم الأرواح وعالم الأرواح قد يجمعه مطلق روحه لما سبق مما ذكرنا أن العالم جمیعه کمرائي متقابلات توجد كل واحدة منهن في الأخرى على حكم الأحدية لا على حكم المماثلة والمشابهة.

فجميع العوالم جوهر فرد غير منقسم في نفسه على الحقيقة.

وما تراه من التعداد والانقسام فهو خيال، بمثابة ما لو فرضنا الانقسام في الجوهر الفرد وهذا معنى قوله تعالى: "وكلهم آتيه يوم القيامة فردا".آية 95 سورة مريم .

 فإذا فهمت هذه النكتة علمت سر أحدية الحق تعالى في الوجود.

وشهدت ما وعد الله تعالى به وأوعد من الجنة والنار ومن أهوال الآخرة يقينا کشفا عيانا، فصار إيمانك إيمان زید بن حارثة رضي الله عنه حيث قال للنبي صلي الله عليه وسلم الله تعالي عليه وسلم : «أصبحت مؤمنا حقا، فقال ما حقيقة إيمانك؟
فقال: أرى كأن القيامة قد قامت وعرش ربي بارز، أو كما ذكر في الحديث».
ابن أبي شيبة 43 / 11 ، والطبراني 302 / 3 ، ومجمع الزوائد 1 / 7..

وأما القيامة الصغرى المخصوصة بكل فرد من أفراد الإنسان، فإنه متى انتصب میزان عقله الأول في قبة عدله الأكمل وأتت المقتضيات الحقائقية تحاسبه بما تقتضيه كل حقيقة من حقائقه أو ضرب له صراط الأحدية يمشي على متن جهنم الطبيعية أدق من الشعر لغموضه.

وأحد من السيف لبعده، فإما مسرع في سيره كالبرق الخاطف لقوة مركبه السائر في المعارف.

وإما كالجبل في ثقله لتعلقه بسفليته.

فإذا جاز الصراط وقام ناموس القسطاس دخل جنة الذات ورتع في ميادين الصفات ممحوقا عن إنیته، مسحوقا عن هويته، لا يرى لنفسه أثرا ولا يعرف له خبرا.

قد نادى في ناديه منادي الجبار فقال: "لمن الملك اليوم".آية 16 سورة غافر.

فلما لم يجد سواه قال: "لله الواحد القهار".آية 16 سورة غافر.
فليس له بعدها غفلة ولا حضور، ولا يرجى له بعد ذلك موت
ولا نشور، قد قامت قيامته على ساق، وعدمت علانيته، فهذه هي الساعة الصغرى.

وقس عليها أحوال الساعة الكبرى، وخذ معرفة الحساب والميزان والصراط مما دللناك عليه بالإشارة لا بالتصريح.

ويكفي العاقل هذا القدر من التلويح، وقد ذكرنا الجنة والنار في بابهما، وهو الباب الثامن والخمسون من هذا الكتاب.

و سنومئ إلى سرهما بطريق الإشارة، فإن كنت ذا فهم علي وعزم قوى أدركت ما نشير إليه، وإلا فلا تبرح كغيرك واقفا مع ظاهره ولديه.

اعلم أن الله تعالى خلق الدار الآخرة بجميع ما فيها نسخة من دار الدنيا.

وخلق الدنيا نسخة من الحق، فالدنيا هي أصل والآخرة فرع عليها.

وقد ورد: "الدنيا مزرعة الآخرة".

 وقال تعالى: "فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره".  آية 7-8 سورة الزلزلة.

 نعلم أن الأصل هو العمل الصادق في الدنيا، والفرع هو الأمر الذي تراه في الآخرة.

 وليست آخرة كل إلا ما سيكون فيه يوم القيامة، وهو لا يكون إلا في نتيجة عمله، والنتيجة فرع على المقدمة، والمقدمة هي العمل الدنيوي.

ولهذا تقدمت الدنيا في الإيجاد على الآخرة، وسميت بالأولى، لأنها الأصل، وتأخرت الآخرة وسميت بالأخرى لأنها الفرع.

فلو لم تكن الآخرة فرعا على الدنيا لكان تأخيرها نقصا في الحكمة، إذ تأخير المقدم وتقديم المؤخر من الأمور الطاعنة في الحكمة.

ثم اعلم أن محسوس الآخرة أقوى من محسوس الدنيا، وملذوذها أعظم لذة من لذة الدنيا، و مكروهها أعظم كراهة من كراهة الدنيا.

وسبب ذلك أن الروح في الآخرة متفرعة لقبول ما يرد عليها من المحبوب والمكروه، بخلاف دار الدنيا فإن الجسم لكثافة يمنع الروح من قوة التفرغ للملائم.

فلا تجد منه إلا طرفة، كما لو أكل الشخص طعاما ملذوذ وهو غير متفرغ البال بل مشغول بأمر أهمه، فإنه لا يجد لذلك الطعام ما يجده غيره من اللذة.

وسبب ذلك الاهتمام المانع له من التفرع لقبول الواردة فلهذا كانت الدار الآخرة أشرف من دار الدنيا ولو كانت أمها.

ولا تعجب من هذا فإن كثيرا من الأولاد يكون أشرف من والده، والدنيا ولو كانت أصلا

للآخرة فإن الآخرة أفضل منها وأشرف عند الله تعالى.

لما تقتضيه حقيقة الآخرة في نفسها، ألا ترى إلى اللفظ مثلا كيف كان المعنى المفهوم منه أشرف وأعلى قدرة من اللفظ بما لا يتناهي.

على أن المعنى نتيجة اللفظ وفرعه، ولولاه لم تفهم حقيقة المعنى.

فكذلك الدار الآخرة ولو كانت نتيجة الدنيا فإنها أفضل وأوسع وأشرف منها، وسبب ذلك أنها مخلوقة من الأرواح، والأرواح لطائف نورانية؛ والدنيا مخلوقة من الأجسام، والأجسام كثائف ظلمانية؛ ولا شك أن اللطائف أفضل من الكثائف.
ثم إن الآخرة دار العز والقدرة، يفعل فيها من سلم من الموانع ما يشاء كأهل الجنة والدنيا دار الذل والعجز لا يقدر ملوكها على دفع أذي نملة منها.

ومع هذا فيحاسبون على نعيمها وهو نعيم زائل.

 وأهل الآخرة يعقبهم على نعيم أفضل مما كانوا فيه، فإن عطاء الله في الآخرة بغير حساب، وعطاؤه في الدنيا بحساب لترتيب الحكمة الإلهية، فإذا فهمت هذا وتحققته بلغت المراد.

واعلم أن الآخرة بجملتها، أعني الجنة والنار والأعراف والكثيب كلها دار واحدة غير منقسمة ولا متعددة.

 فمن حكمت عليه حقائق تلك الدار كان في النار؛ لأن أهل النار محكوم عليهم تحت ذل الانقهار.

ومن لم تحكم عليه حقائق تلك الدار كان في الجنة، فمن احتكم في هذه الدار لله تعالى وأطاعه فإن الله تعالى يجعله حاكمة في حقائق تلك الدار يفعل فيها ما يشاء.

ومن لم يحتكم لله تعالی وعصاه في هذه الدار فإنه يكون محكوما عليه.

هناك تحكم عليه حقائق تلك الدار بما لا يسعه أن يخالف فيها، كما أن أهل النار تحت حكم الزبانية بخلاف أهل الجنة.

ألا ترى أن أهل الجنة يفعل الواحد منهم ما يشاء ولا يحكم عليه أحد بشيء، ومن تحقق بعلم أمر تلك الدار وتمكن من التصرف بما تحقق بعلمه كان في الأعراف، والأعراف محل القرب الإلهي .
المعبر عنه في القرآن بقوله تعالى: "عند مليك مقتدر".آية 55 سورة القمر.
 ويسمى هذا المنظر بهذا الاسم للمعرفة، وهو تحقق العلم الذي ذكرته لك، وأهل الأعراف هم العارفون بالله، لأن من عرف الله تعالی تحقق بعلم أمر الآخرة، ومن لم يعرفه لم يتحقق بعلمه.
ألا ترى قوله عز وجل: "وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم". آية 46 سورة الأعراف.
يعني وعلى مقام المعرفة بالله رجال نكرهم لجلالة شأنهم, ولأنهم مجهولون عند غيرهم يعرفون كلا بسيماهم.

لأنهم عرفوا الله تعالى ومن عرف الله تعالى فلا يخفى عليه شيء.
والكثيب مقام دون الأعراف وفوق جنات النعيم، فكما يقع لأهل الجنة من زيادة المعرفة بالله تعلو درجاتهم في الكثيب.

والفرق بين أهل الكثيب وأهل الأعراف أن أهل الكثيب خرجوا من دار الدنيا قبل أن يتجلى عليهم الحق فيها.

فلما انتقلوا إلى الآخرة كان محلهم في الجنة، ويتفضل الحق عليهم بأن يخرجهم إلى الكثيب فيتجلى عليهم.

هنالك يتجلى على كل شيء بقدر إيمانه بالله تعالى في الدنيا، وبمعرفته بقدره سبحانه وتعالى.

وأهل الأعراف قوم لم يخرجوا من الدنيا إلا وقد تجلى الله سبحانه وتعالى عليهم وعرفوه فيها.

فلما خرجوا منها إلى الآخرة لم يكن لهم محل إلا عنده، لأن من دخل بلادا وله فيها صاحب يعرفه لا ينزل إلا عنده.

بل ويجب على ذلك الصاحب أن لا ينزله إلا عنده فإذا كان هذا يفعله المخلوق فمن أولى به من الخالق تعالى.

 ألا تراه قد صرح سبحانه وتعالى أن ثمة قوما هم عند مليك مقتدر، وهنا عجائب وغرائب لا يسع الوجود بأسره أن نذكرها على سبيل التصريح.

بل هي لدقتها وغموضها لا تفهم إلا بالإشارة والتلويح.

اللهم إلا إذا كان الناظر في الكتاب قد بلغ تلك المرتبة وعاين تلك الأمور العجيبة بما ليس يدري.

وأما العالم فليس لذكرنا هذه العجائب عنده فائدة إلا لازم الخبر.

وهو أن يعلم أنا علمنا ما علم وليس لنا في ذلك قصد.

 فلنقبض العنان والله المستعان وعليه التكلان.


 


 

 

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!