موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية: مكتبة الشيخ عبد الكريم الجيلي

الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل

تأليف الشيخ عبد الكريم بن إبراهيم الجيلي (667هـ - 828هـ)

 

 


53. الباب الثالث والخمسون في العقل الأول وأنه محتد جبريل عليه السلام من محمد صلى الله عليه وسلم

اعلم وفقنا الله وإياك و دلك على نفسك وإلى التحقيق به هداك.

أن العقل الأول هو محل الشكل العلمي الإلهي في الوجود.

لأنه القلم الأعلى ثم ينزل منه العلم إلى اللوح المحفوظ، فهو إجمال اللوح واللوح تفصيله.

بل هو تفصیل علم الإجمال الإلهي واللوح هو محل تعينه وتنزله.

ثم في العقل الأول من الأسرار الإلهية ما لا يسعه اللوح، كما أن في العلم الإلهي ما لا يكون العقل الأول محلا له، فالعلم الإلهي هو أم الكتاب.

والعقل الأول هو الإمام المبين، واللوح هو الكتاب المبين فاللوح مأموم بالقلم تابع له، والقلم الذي هو العقل الأول حاكم على اللوح مفصل للقضايا المجملة في دولة العلم الإلهي المعبر عنها بالنون.

والفرق بين العقل الأول والعقل الكلي وعقل المعاش.

 أن الفعل الأول هو نور علم إلهي ظهر في أول تنزلاته التعيينية الخلقية، وإن شئت قلت أول تفصيل الإجمال الإلهي.

ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: «إن أول ما خلق الله العقل»(۱)،
فهو أقرب الحقائق الخلقية إلى الحقائق الإلهية، ثم إن العقل الكلي هو القسطاس المستقيم، فهو ميزان العدل في قبة اللوح الفصل.
وبالجملة فالعقل الكلي هو العاقلة: أي المدركة النورية التي ظهر بها صور العلوم المودعة في العقل الأول، لا كما يقول من ليس له معرفة بهذا الأمور.

لأن العقل الكلي عبارة عن شمول أفراد الجنس للعقل من كل ذي عاقلة وهذا منقوض، لأن العقل لا تعدد له، إذ هو جوهر فرد.

وهو في المثل العنصر الأرواح الإنسانية والملكية والجنية، لا للأرواح البهيمية، ثم إن العقل المعاش هو النور الموزون بالقانون الفكري.

فهو لا يدرك إلا بألة الفكر ثم إدراكه بوجه من وجوه العقل الكلي فقط لا طريق له إلى العقل الأول، لأن العقل الأول منه عن القيد بالقياس وعن الحصر بالقسطاطس.

بل هو محل صدور الوحي القدسي إلى مركز الروح النفسي.
والعقل الكلي هو الميزان العدل للأمر الفصلي، وهو منزه عن الحصر بقانون دون غيره، بل وزنه للأشياء على كل معيار.

وليس لعقل المعاش إلا معیار واحد وهو الفكر، وليست له إلا كفة واحدة وهي العادة، وليس له إلا طرف واحد وهو المعلوم، وليس له إلا شوكة واحدة وهي الطبيعة.

 بخلاف العقل الكلي، فإن له كفتين إحداهما الحكمة، والثانية القدرة.
وله طرفان: أحدهما الاقتضاءات الإلهية والثاني القوابل الطبيعية.
وله شوكتان: إحداهما الإرادة الإلهية، والثانية المقتضيات الخلقية. وله معايير شتي.
ومن جملة معايره أن لا معيار، ولهذا كان العقل الكلي هو القسطاطس المستقيم، لأنه لا يحيف ولا يظلم.

على كفة واحدة ولا يفوته شيء بخلاف عقل المعاش فإنه قد يحيف ويفوته أشياء كثيرة وطرف واحد.

فقياس عقل المعاش لا على التصحيح، بل على سبيل الخرص.

 وقد قال الله تعالى: "قتل الخراصون" (آية 10 سورة الذاريات)
وهم الذين يزنون الأمور الإلهية بعقولهم فيبخسون، لأنهم لا میزان لهم وإنما هم خراصون.والخرص بمعنى الفرض،

 فنسبة العقل الأول مثلا نسبة الشمس، ونسبة العقل الكلي نسبة الماء الذي وقع فيه نور الشمس، ونسبة عقل
المعاش نسبة شعاع ذلك الماء إذا وقع على جدار.

فالنظر مثلا في الماء يأخذه هيئة الشمس على صحة، ويأخذ نوره على جلية، كما لو رأي الشمس لا يكاد يظهر الفرق بينهما.

إلا أن الناظر إلى الشمس يرفع رأسه إلى العلو، والناظر إلى الماء ينكس رأسه إلى أسفل، فكذلك العقل الكلي ينكس بنور قلبه إلى محل الكتاب، فيأخذ منه العلوم المتعلقة بالأكوان.

وهو الحد الذي أودعه الله تعالى في اللوح المحفوظ .

بخلاف العقل الأول فإنه يتلقى عن الحق بنفسه.

ثم إن العقل الكلي إذا أخذ من اللوح وهو الكتاب إنما يأخذ علمه إما بقانون الحكمة وإما بمعيار القدرة على قانون و غير قانون.

فهذا الاستقراء منه انتكاس، لأنه من اللوازم الخلقية الكلية لا يكاد يخطىء، إلا فيما استأثر الله به.

فإن الله إن أنزله إلى الوجود لا ينزله إلا إلى العقل الأول فقط، هكذا سنة الله فيما استأثر به من علومه، إلا أن لا يوجد في اللوح المحفوظ:

واعلم أن العقل الكلي قد يستدرج به أهل الشقاوة فيفتح به عليهم في مجال أهويتهم لا في غيرها.

فيظفرون على أسرار القدرة من تحت سجف الأكوان، والأفلاك والنور والضياء، وأمثال ذلك.

فيذهبون إلى عبادة هذه الأشياء، وذلك بمكر الله بهم والنكتة فيه.

أن الله سبحانه يتجلى في لباس هذه الأشياء التي يعيدونها فیدرکها هؤلاء بالعقل الكلي فيقولون بأنها هي الفاعلة.

لأن العقل الكلي لا يتعدى الكون فلا يعرفون الله به.

لأن العقل لا يعرف الله إلا بنور الإيمان، وإلا فلا يمكن أن يعرفه العقل من نظره وقيامه، سواء كان عقل معاش أو عقلا كليا.

على أنه قد ذهب أئمتنا إلى أن العقل من أسباب المعرفة، وهذا من طريق التوسع لإقامة الحجة، وهو مذهبنا.
غير أني أقول: إن هذه المعرفة المستفادة بالعقل منحصرة مقيدة بالدلائل والآثار، بخلاف معرفة الإيمان فإنها مطلقة، فمعرفة الإيمان متعلقة بالأسماء والصفات، ومعرفة العقل متعلقة بالآثار.

فهي ولو كانت معرفة لكنها ليست عندنا بالمعرفة المطلوبة لأهل الله تعالى.

ثم نسبة عقل المعاش إلى العقل الكلي نسبة الناظر إلى الشعاع، ولا يكون الشعاع إلى من جهة واحدة، فهو لا يتطرق إلى هيئة الشمس ولا يعرف صورته، ولا يعلم النور المتشكل في الماء لا طوله ولا عرضه.

بل بخرص بالفرض والتقدير فتارة يقول بطوله لما يزعم أنه دليل على الطول، وتارة يقول بعرضه كذلك، فهو على غير تحقيق من الأمر.

 وكذلك عقل المعاش فإنه لا يضيء إلا من جهة واحدة، وهي وجهة النظر والدليل بالقياس في الفكر.

فصاحبها إذا أخذ في معرفة الله به فإنه لا يخطىء.

ولهذا متى قلنا بأن الله لا يدرك بالعقل أردنا به عقل المعاش، ومتى قلنا أنه يعرف بالعقل أردنا به العقل الأول.

فلهذا قال الله تعالى: "قتل الخراصون الذين هم في غمرة ساهون" .

 وإنما قتلوا لقطعهم بما خرصوه . وحكمهم على الأمر بأنه على ذلك فهلكوا.

لأنهم قطعوا بما يهلكهم ويطمس على أنوارهم فقتلوا.

وهم القاتلون لأنفسهم إذ خرصوا عليها بانتفاء بدنها وقطعوا عليها أن لا حياة لها بعد مماتهم.

ثم عاندوا المخبر الصادق الذي يجرهم إلى سعادتهم فلم يؤمنوا به، فلهذا هلكوا وقتلوا، وما أهلكهم إلا أنفسهم، وما قتلهم إلا ما هم عليه، فافهم.

ثم اعلم أن العقل الأول والقلم الأعلى نور واحد فنسبته إلى العبد يسمى العقل الأول، و نسبته إلى الحق يسمى القلم الأعلى.
ثم إن العقل الأول المنسوب إلى محمد صلى الله عليه وسلم خلق الله جبريل عليه السلام منه في الأزل.

فكان محمد صلى الله عليه وسلم أبا لجبريل وأصلا لجميع العالم.

فاعلم إن كنت ممن يعلم فديت من يعقل فديت من يفهم.

ولهذا وقف عنه جبريل في إسرائه وتقدم وحده، وسمي العقل الأولبالروح الأمين لأنه خزانة علم الله وأمينه.

ويسمى بهذا الاسم جبريل من تسمية الفرع باسم أصله فافهم والله أعلم.



 

 

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!