موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية: مكتبة الشيخ عبد الكريم الجيلي

الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل

تأليف الشيخ عبد الكريم بن إبراهيم الجيلي (667هـ - 828هـ)

 

 


55. الباب الخامس والخمسون في الهمة وأنها محتد میکائیل من محمد صلى الله عليه وسلم

فيها قال رحمه الله تعالى:
لنا في ذرى العليا جواد مقدّس          ......        به نرتقي نحو المعالي الرفيعة

يسمى براق العارفين إلى العلا          ......        عليه صعود الروح نحو الحقيقة

له من ضياء الحق عينان آحلا          ......        فبالسحر أولى ثم أخرى بقدرة

جناحاه إحداهن للسعد طائر      ......        وأخرى إلى بعد الشقاوة جرت

ولا عجب في أنه كل ما يرى    ......        من الصعب يلقاه بأحسن صنعة

وما دققت عيناه فيه فإنه          ......        له موقع الحافر درك بخطوة

ألا إنه نور من اللَّه منزّل         ......        تستر للإنسان في اسم همّة

واعلم وفقنا الله وإياك، ودلك عليك وهداك، أن الهمة أعز شيء وضعه الله في الإنسان.

وذلك أن الله تعالى لما خلق الأنوار وقفها بين يديه، فرأى كلا منها مشتغلا بنفسه، ورأى الهمة مشتغلة بالله.

فقال لها: وعزتي وجلالي لأجعلنك أرفع الأنوار ولا يحظى بك من خلقي إلا الأشراف الأبرار، ومن أراد الوصول إلي فلا يدخل إلا بدستورك علي، أنت معارج المریدین وبراق العارفين وميدان الواصلين.

فبك سباق السابقين وبك لحاق اللاحقين، وفيك تنزه المحققين، وتعالى المقربين، ثم تجلی عليها باسمه القريب ونظر إليها باسمه السريع المجيب، فأكسبها ذلك التجلي أن تستقرب كل ما بعد على القلوب، وأفادها ذلك النظر سرعة حصول المطلوب؛ فلهذا أن الهمة إذا قصدت شيئا ثم استقامت على ساقها نالته على حسب وفاقها.

ولاستقامتها علامتان:
العلامة الأولى: حالية، وهو قطع اليقين بحصول الأمر المطلوب على التعيين. العلامة الثانية: فعلية، وهي أن تكون حركات صاحبها وسكناته جميعها مما يصلح لذلك الأمر الذي يقصده بهمته، فإن لم يكن كذلك لا سمی صاحب همة بل هو صاحب آمال كاذبة وأماني خائبة.

فهو كمن يروم المملكة ولا يفارق المزبلة .

وهذا لا يقع على مطلوبه ولا يظفر بمحبوبه.

لأنه كمن يطلب أن يكون بلا قلم ولا مداد ولا معرفة بوضع الخط.

فالمدار بمثابة قصد الهمة للشيء.

والقلم بمثابة اليقين بحصوله.

 ومعرفة وضع الخط بمثابة الأعمال الصالحة للأمر المقصود.

فمن لم يكن على هذا الوصف لا يعرف ما هي الهمة، إذ ليس لديه منها أثر، فلا يكون عنده منها خبر.

بخلاف من كانت أفعاله مما يلائم ما يطلبه، وخصوصا إذا أخذ فيها بالجد والاجتهاد فأسرع ما يكون لديه نيل المراد.

ولقد حكي لنا عن فقير أنه سمع شيخه يقول يوما: من قصد شيئا وجد وجده.

 فقال: والله لأخطبن بنت الملك، وأبلغن فيها غاية الجد والاجتهاد، فذهب إلى الملك فخطبها منه، وكان الملك لبيبا عارفا عاقلا فكره أن يحقره أو يقول له  الست بكفء لها.
فقال له: اعلم أن مهر بنتي جوهرة تسمى بالبهرمان لا توجد إلا في خزائن كسرى أنو شروان.

فقال له: يا سيدي، وأين معدن هذا الجوهر؟
فقال له: معدنه بحر سيلان، فإن جئتنا بصداقها المطلوب مكناك من هذا النكاح المخطوبی فذهب الفقير إلى البحر وأخذ يغرف بقصعته منه ويفرغه في البر.

فمكث على ذلك مدة لا يأكل ولا يشرب وهو معتكف على ذلك المطلب ليلا ونهاره، فأوقع صدقه خوف انتزاح البحر في قلوب الحيتان فاشتكت إلى الله تعالى.

فأمر الله تعالى الملك الموكل بذلك البحر أن يذهب إلى ذلك الرجل بنفسه ويسأله عن حاجته فيسعفه ببغيته.

فلما سأله عن مقصده وأجابه الرجل أمر البحر أن يقذف بأمواجه إلى البر ما عنده من جنس ذلك الجوهر فامتلأ الساحل جواهر ولآلئ.

فحملها وذهب بها إلى الملك وتزوج ابنته، فانظر يا أخي ما فعلت الهمة.

ولا تظن بأن هذا الأمر غريب أو شيء عجيب، فقد شاهدنا والله بل جرى لنا في أنفسنا ما هو أعظم من ذلك مما لا يحد ولا يحصى، والله على ما نقول وكيل.

ولم أحلف لك إلا خوفا عليك من ردة الإنكار أن تنزع بقلبك عن سلم الهدی ومعارج الأسرار.

فإن القلوب إذا جال فيه الخناس وألبسها ثوب الوسواس يوشك أن تجول في مهامه الإياس فتحرم نور اليقين بظلمة الالتباس

ثم اعلم وفقك الله أن زجاجة الهمة قبل امتلائها يكسرها كل حصاة مخالفة و يهريق ما فيها كل هيئة منافيه.

وأما إذا امتلأت وأخذت حدها في البلوغ وانتهت، فإنها لا تحركها الرياح العواصف، ولا تكسرها المطارق والمخاوف.

فالحازم اللبيب والعارف المصيب إذا ابتدأ في هذا الأمر وأخذ في خوض هذا البحر لا يلتفت إلى وعر المسالك ولا يبالي بما يظهر فيها من المهالك.

فإنما جل ما يراه بل كل ما يلقاه نزغة من العدو والشيطان ليمنعه بذلك عن حضرة السلطان.

فليحذر من الالتفات ولا ببالي بما حصل أو فات، فإنها طريقة كثيرة الآفات، محفوفة بالقواطع مشوبة بالموانع.

آثارها دوامس وأطلالها دوارس ولياليها طوامس، طريقها هو الصراط المستقيم، وقريبها أناس يستعذبون العذاب الأليم

" وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم".(آية 35 سورة فصلت).

ثم اعلم وفقك الله تعالى: أن الهمة في محتدها الأول ومشهدها الأفضل، لا تعلق لها إلا بالجانب الإلهي لأنها نسخة ذلك الكتاب المكنون ومفتاح ذلك السر المصون المخزون.

فلا التفات لها إلى سواه ولا تشوق لها إلى ما عداه.

لأن الشيء لا يرجع إلا إلى أصله، ونوى التمر لا ينبت من غرسه إلا كعود نخله.

وكل من تعلق بالأكوان تعلقة ما فإن تعلقه لا يسمی همة بل هما.

وفائدة هذا الكلام أن الهمة في نفسها عالية المقام ليس لها بالأسافل إلمام فلا تتعلق إلا بجناب ذي الجلال والإكرام.

بخلاف الهم فإنه اسم لتوجه القلب إلى أي محل كان، إما قاص، وإما دان.

فإذا فهمت ما أشارت إليه العبارة وعرفت ما عبرت عنه الإشارة، فاعلم أيضا أن الهمة وإن علا مكانها وعظم شأنها هي الحجاب للواقف معها.

فلا يرتقي حتى يدعها، والسيد من يرتقي عنها قبل معرفة أسرارها وذوق ثمارها.

فإنها قاطعة مانعة أعني لمن وقف مع محصولها، قاطعة لمن جفاها قبل وصولها، أعني لا سبيل إلا إليها ولا طريق إلا عليها.

ولكن لا مقام عندها ولديها، بل ينبغي الجواز عنها بعد قطع المجاز منها.

فالحقيقة من ورائها والطريقة على فضائها، لأن الحصر لا حق لها والحد واثق بها، والله منزه عن الحد والحصر، مقدس عن الكشف والستر.

ولما كان محمد صلى الله عليه وسلم أم الكتاب، والمعنى دون غيره بالخطاب، فافهم إن کنت من أولي الألباب.

وخلق الله منه جميع العالم كانت كل رقيقة منه أصلا الحقيقة من حقائق الأكوان، وكان بجملته مظهرة لجملة الرحمن.

خلق الله روحا من نور همته اللاحق وسعها وسع رحمته.

فصير ذلك الروح ملكا وجعل مقادير القوابل له فلكا، ثم وكله بإيصال كل مرزوق رزقه وإعطاء كل ذي حق حقه.

لأنه الرقيقة المحمدية المخلوقة من الحقيقة الأحدية، فلما استقام مقام الموكل الوكيل، وأقسط في إعطاء كل ذي حق حقه قسط من يزن أو يكيل.

إذ بالخطاب الجميل، من المقام الجليل، يسمى هذا الروح میکائیل.

فهو من الأزل إلى الأبد يحصر المقادير ويعرف العدد ويمد كلا بما استحقه من المدد.

أجلسة الله على منبر الفضل فوق الفلك الخامس، وأعطاه قسطاس العدل وقانون المقاييس، ويكنى عن المنبر بالفيض المقابل بالقسطاس بما استحقه القوابل.

فتأمل رموز هذه العبارات، واستخرج ما فيها من كنوز الإشارات تحظ بالحكمة وفصل الخطاب.

والله يقول الحق وهو يهدي إلى الصواب.


 


 

 

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!