موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

الذخائر والأعلاق في شرح ترجمان الأشواق

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

تحقيق الدكتور محمد حاج يوسف

 

 


6- القصيدة السادسة وهي أربعة أبيات من البحر البسيط

وقال رضي الله عنه:

1

بَانَ الْعَزَاءُ وَبَانَ الصَّبْرُ إِذْ بَانُو

***

بَانُوا وَهُمْ فِي سَوَادِ الْقَلْبِ سُكَّانُ

2

سَأَلْتُهُمْ عَنْ مَقِيلِ الرَّكْبِ قِيلَ لَنَ:

***

مَقِيلُهُمْ حَيْثُ فَاحَ الشِّيحُ وَالْبَانُ

3

فَقُلْتُ لِلرِّيحِ سِيرِي وَالْحَقِي بِهِمُ

***

فَإِنَّهُمْ عِنْدَ ظِلِّ الْأَيْكِ قُطَّانُ

4

وَبَلِّغِيهِمْ سَلاماً مِنْ أَخِي شَجَنٍ

***

فِي قَلْبِهِ مِنْ فِرَاقِ الْقَومِ أَشْجَانُ

شرح البيت الأول:

1

بَانَ الْعَزَاءُ وَبَانَ الصَّبْرُ إِذْ بَانُو

***

بَانُوا وَهُمْ فِي سَوَادِ الْقَلْبِ سُكَّانُ

يقول: "بان (العزاء)" (أي) مقامُ المِنعة والصبر، "(إذ) بانوا"؛ يعني المناظر الإلهية (إذ بانت) عنِّي. وقوله: "في سويدا القلب سكان"، يقول: لَمَّا كانت المناظرُ الإلهيَّة لا تَشبُّهَ لها إلا بالمنظور إليه، وهو الله؛ وهو سبحانه في سويداء القلب، كما يليق بجلاله، من قوله تعالى في صحيح الخبر: «مَا وَسِعَنِي أَرْضِي وَلا سَمَائِي وَوَسِعَنِي قَلْبُ عَبْدِي الْمُؤْمِن» [راجع شرح البيت السابع من القصيدة الثانية]، فهو في قلب العبْدِ، لكنه لَمَّا لَمْ يُعط تجلٍّ في هذه الحالة، لَم توجد المناظر، فبانت - من كونها مناظراً- مع كونها (لا تزال) في القلب (لم ترحل عنه)؛ ويقال: "عزَّ الأمر" إذا امتنع فلم يوصل إليه، والصَّبْرُ حبس النفس عن الشكوى؛ يقول: بأنَّ هذا كلُّه لبَيْنِهم (أي لفِراقِهم).

شرح البيت الثاني:

ثم قال:

2

سَأَلْتُهُمْ عَنْ مَقِيلِ الرَّكْبِ قِيلَ لَنَ:

***

مَقِيلُهُمْ حَيْثُ فَاحَ الشِّيحُ وَالْبَانُ

يقول: سألْتُ العارفين وحقائق الشيوخ المتقدمين، الذين أبانوا لنا الطريق، وأوضحوا لنا مناهج التحقيق، لَمَّا رأيناهم في تجليَّاتنا كشفاً؛ فالضمير في "سألتُهم" يعود عليهم، (يقول: سألتهم) عن ركب هذه المناظر الإلهية، أين قالوا (أي: أين استراحوا!)؛ يقول: "أيَّ قلبٍ وعينٍ اتخذوه مقيلا؟" فقالوا لنا: اتخذوا مقيل كلَّ قلبٍ ظهرت فيه أنفاسُ الشوق والتَّوَقان، وهو قوله: "فاح الشّيحُ والبانُ"؛ فـ"الشِّيحُ" من المَيْل (من الفعل: أشاح)، و"البانُ" من البُعد، و"فاح" من الفَوح، وهي الأعراف (جمع "عُرْف") الطيِّبَة؛ وإن أراد أن يجعله من "الفَيْح" الذي هو الاتِّساع، ساغ أيضاً، فإنَّه يليق به، فإنّ السَّعَة مطلوبةٌ في هذه الحالة، لأنه قال: «مَا وَسِعَنِي (أَرْضِي وَلا سَمَائِي وَوَسِعَنِي قَلْبُ عَبْدِي الْمُؤْمِن)» [القصيدة الثانية: البيت السابع]. ولا يكون الفَيح هنا مِن "فاحت الجيفة تَفيح فيحاً"، وهي الرائحة الكريهة، فإنَّ هذه المقامات لا يليق بها (هذا)، وهذان النباتان ريحها طيِّب، فكانَ المعنى يتناقض(في هذه الحالة الأخيرة).

شرح البيت الثالث:

ثم قال:

3

فَقُلْتُ لِلرِّيحِ سِيرِي وَالْحَقِي بِهِمُ

***

فَإِنَّهُمْ عِنْدَ ظِلِّ الْأَيْكِ قُطَّانُ

يقول: لَمَّا قال المسؤولون إن قيلولة أحبَّتي حيث كان عالَم الأنفاس الشوقيَّة، لذلك قال: "فقلت للريح"؛ يقول: بعثت نفَساً شوقياً من أنفاسي (وقلت له): "اِلْحقْ بهم"، ليردَّهم إليّ. و"الأيك": شجرة الأراك، وهي مساويك؛ يشير إلى مقام الطهارة ومرضاة الربِّ، للخبر الوارد أنّ «السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ وَمَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ» [كنز العمال: 26156]، و"قُطّان": مقيمون في راحة، فإنّ "الظل": الراحة، لا سيما ظلّ الأشجار والكنف، فإنه مَن قعد في ظلِّكَ فهو في كَنَفِك.

شرح البيت الرابع:

4

وَبَلِّغِيهِمْ سَلاماً مِنْ أَخِي شَجَنٍ

***

فِي قَلْبِهِ مِنْ فِرَاقِ الْقَومِ أَشْجَانُ

يقول: وأوصلي إليهم سلاماً، من قوله تعالى: ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ اَلْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً﴾ [الفرقان: 63]؛ (و"سلاماً" هي) مصدرٌ؛ يعني (إنَّهُ) لا يعترض عليكم، من "أخٍ ذي شجن"، يقول: من صاحبِ حُزنٍ "في قلبِه مِن فِراقِ القومِ أشجان"، يقول: إنه في مقام التلوين، فكنّى عنه بالقلب، من تقلُّبه في هذه الأحوال والأحزان التي في قلبه لِفِراقهم، إنما هو من حيث أنه لم يَرَ وجه الحقِّ فيمن أعقبهم في محلِّهِ حتىلا يحسَّ بفراقٍ أصلا، وإن كان لا يصح نيلهذا المقام؛ لأنّ الحقائق تأباه وترُدُّ وجوده، فإنّ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لِي وَقْتٌ لَا يَسَعُنِي فِيهِ غَيْرُ رَبِّي» [انظر القصيدة الثانية: البيت العاشر]، ففرّق بين الأحوال، وإن كان الحق مشهودًا له في كلِّ حال، غير أنه لَمَّا كان حالُ شهودِ الذات أسنى الشهود وأجلاهوأعظم أثراً، لذلك لم يقمعنده وجهُ الحقِّ فيما عدا هذا الشهود، كما يقول: لو تعشَّقَ بالتعلُّقات الإلهية لكانت لذَّةُ شهودِ تعلُّق العِلم أعلى من شهود تعلُّقِ القدرة، لأنَّهُ أعمُّ، وتعلُّقُ القدرة أخصُّ، لأنَّ محلَّهَا الممكنات لا غير.



 

 

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!