موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

الذخائر والأعلاق في شرح ترجمان الأشواق

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

تحقيق الدكتور محمد حاج يوسف

 

 


8- القصيدة الثامنة وهي ستة أبيات من البحر الكامل

وقال رضي الله عنه:

1

دَرَسَتْ رُبُوعُهُمُ، وَإِنَّ هَوَاهُمُ

***

أَبَداً جَدِيْدٌ بِالْحَشَا مَا يَدْرُسُ

2

هٰذِي طُلُولُهُمُ وَهٰذِي الْأَدْمُعُ

***

ولِذِكْرِهِمْ أَبَداً تَذُوبُ الْأَنْفُسُ

3

نَادَيْتُ خَلْفَ رِكَابِهِمْ مِنْ حُبِّهِمْ:

***

يَا مَنْ غِنَاهُ الحُسْنُ! هَا أَنَا مُفْلِسُ

4

مَرَّغْتُ خَدِّي رِقَّة وَصَبَابَة

***

فَبِحَقِّ حَقِّ هَوَاكُمُ لا تُؤْيِسُو

5

مَنْ ظَلَّ فِي عَبَرَاتِهِ غَرِقاً وَفِي

***

نَارِ الْأَسَى حَرِقاً وَلَا يَتَنَفَّسُ

6

يَا مُوقِدَ النَّارِ الرُّوَيْدَا هٰذِهِ

***

نَارُ الصَّبَابَة شَأْنُكُمْ فَلْتَقْبِسُو

شرح البيت الأول:

1

دَرَسَتْ رُبُوعُهُمُ، وَإِنَّ هَوَاهُمُ

***

أَبَداً جَدِيْدٌ بِالْحَشَا مَا يَدْرُسُ

يقول: إنّ محالَّ الرياضات والمجاهدات، التي هي منازل الأعمال، تغيَّرت للسنِّ وعدم قوة الشباب، واختصَّ ذكر "الرّبع"، دون الطلل، والرسم، والدار، والمنزل؛ ليكون له اشتقاق من زمن الربيع، الذي هو بمنزلة الشباب من عمر الإنسان، فإنّ التغيير إنما لحق قرَّة الشباب ورَيَعانه، وكنّى عن النفْس التي هي محلُّ الهوى بالحشا، لأنها كالمحشُوَّة في البدن، أي هو حشوٌ فيه، ولذا قال (تعالى): ﴿فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ اَلْحُلْقُومَ﴾ [الواقعة: 83]، يعني عند خروجها بالموت.

فيقول: إن هواهم بالنفس ما يتغير، بل هو على غضاضته وطراوته، لأنه قائم بذاتٍ غير طبيعية.

شرح البيت الثاني:

2

هٰذِي طُلُولُهُمُ وَهٰذِي الْأَدْمُعُ

***

ولِذِكْرِهِمْ أَبَداً تَذُوبُ الْأَنْفُسُ

يقول: "هذي طُلُولُهُمُ"، يقول: أشخاصُ منازلهم، كأنّ الشخص هو الطَّلَل، وهو من: "طلَّ"، إذا بدأ يظهر، ومنه الطَّلُّ الذي هو أول نشءِ المطر، فهو ضعيف، و"هذه الأدمع" مناسبة للطَّلَل لاشتقاقه من الطلِّ أي: يَبكي على التقصير، لعدم مساعدة الآلات فيما يُريده من الطاعات.

وقوله: "ولِذِكرهم"، وهو حنين العارفين في نهايتهم إلى موطن بدايتهم، وأنه ليس شيءٌ أعظم لذَّة من البداية.

شرح البيت الثالث:

3

نَادَيْتُ خَلْفَ رِكَابِهِمْ مِنْ حُبِّهِمْ:

***

يَا مَنْ غِنَاهُ الحُسْنُ! هَا أَنَا مُفْلِسُ

يقول: لَمَّا رَحَلت قوى الشباب وملذوذات البداية، في الفترة والحيرة، والهِممُ تُزعج، والمركب غير مُساعِد، بقيتُ في صورة المفلِس الذي يرى أطايِبَ الملذوذات، ويدخل سوق النعيم والشهوات، وما له درهم يصل به إلى نَيل شهوة من شهواته. والضمير في "غِناه" يعود إلى عصر الشباب، وعلى عصر البدايات، فهو متوجه لهما، ونسبَ إليه "الحُسْن" لكونه معشوقاً، فإنّ الحسن معشوق لذاته في كلِّ شيء ظهر.

شرح البيت الرابع:

4

مَرَّغْتُ خَدِّي رِقَّة وَصَبَابَة

***

فَبِحَقِّ حَقِّ هَوَاكُمُ لا تُؤْيِسُو

يقول: "مرّغت خدّي رِقَّة وصَبابَة"، يشير إلى نزوله لحقيقةٍ من الذلِّ والافتقار طلباً للوصال، فإنّ الحقَّ يقول (لأبي يزيد البسطامي): «تَقَرَّبْ إِلَيَّ بِماَ لَيْسَ لِي»، والذلَّة: الافتقار، و"الصبابة": رِقَّةُ الشوق، فإذا كانت الذلَّة بضرب من المحبة، هي أمكن في الوصلة من الذلَّة بلا حُبّ.

وقوله: "رِقَّة": يشير إلى حالة اللُّطف (من اللطافة، عكس الكثافة) والارتقاء عن عالم الكثافة، وجعل لِلهَوَى حقًّا يُقسِم به لكونه ذا سُلطان، لأنَّه من العالم العُلوي، ولهذا سُمّي سقوط، فقيل فيه هَوَى (من الهُوِيّ)، أي سقط.

شرح البيت الخامس:

5

مَنْ ظَلَّ فِي عَبَرَاتِهِ غَرِقاً وَفِي

***

نَارِ الْأَسَى حَرِقاً وَلَا يَتَنَفَّسُ

يقول: إنّ حالته متردِّدة بين عَبْرته وزَفْرته؛ فكنّى بالعَبْرة عن الاعتبار، الذي هو الجواز عن حالة النجاة له إلى الهلاك فيه، وهو الغرق، وكنّى بالزَّفرة عن نار الأسى، أي مقام الحزن وحرارة الشجن، ولا نَفَس رحمانيّ باردٍ يُثلَج به الفؤاد فيُبرِّد حرارة الحُزن، لفوت المحزون عليه بمشاهدة ما عن عناية إلهية، ولا مُنجٍ يأخذ بيده ليَخلُص من الغرق في بحر الدموع، من كونها عَبَرات، فل يجوزَ إلى شيء من شيء، بل يشهده في كلِّ شيء، فإنّ التفرقة للعارفمن حيث المشهودِ شديدة.

شرح البيت السادس:

6

يَا مُوقِدَ النَّارِ الرُّوَيْدَا هٰذِهِ

***

نَارُ الصَّبَابَة شَأْنُكُمْ فَلْتَقْبِسُو

يخاطب كلَّ طالب نار، يقول له: لا تتعنّفي طلب نار بوجودي، فهذه نار الشوق في كبدي ظاهرةٌ، فخذ حاجتك منها؛ أي انتقل إلى النار اللطيفة، التي هي حالة موسوية: مشى (موسى عليه السلام) ليطلبَ ناراً لأهله (كي) يُصلحوا به عيشهم، فنودي - من حيث طَلَبُه - في نارٍ، ليُسرع بالإجابة (إشارة للآيات من سورة طه: 9-11 وأمثالها)، من غير انتقالٍ من حالٍ إلى حال، فكان التغيير في النارِيَّة(أي كان طلبه النار الكثيفة فوجد النار اللطيفة)، لا في الطلب، فكان أوحديَّ الهمَّة، لأنه ما تراءى له المشهود إلا في صورة ناريَّةمتعلِّقَة بشجرة واديَّة، من التشاجر، وهو مقام تداخل المقامات، لأنه مشهدٌ للكلام، والكلام متداخل المعاني، على كثرتها، فأشبَهَ الشجرة؛ فنودي من الشجرة، هذا (هو) المعنى، و(حصل ذلك) في النَّار لأنها (كانت) مطلوبُهُ، فلا يتغير عليه حال.



 

 

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!