The Greatest Master Muhyiddin Ibn al-Arabi
The Greatest Master Muhyiddin Ibn al-Arabi

الذخائر والأعلاق في شرح ترجمان الأشواق

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

تحقيق الدكتور محمد حاج يوسف

 

 


15- القصيدة الخامسة عشر وهي أحد عشر بيتاً من البحر الرمل

وقال رضي الله عنه:

1

غَادَرُونِي بِالْأُثَيلِ وَالنَّقَ

***

أَسْكُبُ الدَّمْعَ وَأَشْكُو الْحُرَقَ

2

بِأَبِي مَنْ ذُبْتُ فِيهِ كَمَداً

***

بَأَبِي مَنْ مُتُّ مِنْهُ فَرَقَ

3

حُمْرَة الْخَجْلَة فِي وَجْنَتِهِ

***

وَضَحُ الصُّبْحِ يُنَاغِي الشَّفَقَ

4

قَوَّضَ الصَّبْرُ وَطَنَّبَ الْأَسَى

***

وَأَنَا مَا بَيْنَ هٰذَيْنِ لِقَ

5

مَنْ لِبَثِّي، مَنْ لِوَجْدِي، دُلَّنِي

***

مَنْ لِحُزْنِي، مَنْ لِصَبٍّ عَشِقَ

6

كُلَّمَا صُنْتُ تَبَارِيحَ الْهَوَى

***

فَضَحَ الدَّمْعُ الْجَوَى وَالْأَرَقَ

7

فَإِذَا قُلْتُ: هَبُوا لِي نَظْرَة !

***

قِيلَ مَا تُمْنَعُ إِلَّا شَفَقَ

8

مَا عَسـَى تُغْنِيكَ مِنْهُمْ نَظْرَة

***

هِيَ إِلَّا لمْحُ بَرْقٍ بَرَقَ

9

لَسْتُ أَنْسـَى إِذْ حَدَى الْحَادِي بِهِمْ

***

يَطلُبُ الْبَيْنَ وَيَبْغِي الْأَبْرَقَ

10

نَعَقَتْ أَغْرِبَة الْبَيْنِ بِهِمْ

***

لَا رَعَى اللهُ غُرَاباً نَعَقَ

11

مَا غُرَابُ الْبَيْنِ إِلاَّ جَمَلٌ

***

سَارَ بِالْأَحْبَابِ نَصًّا عَنَقَ

شرح البيت الأول:

1

غَادَرُونِي بِالْأُثَيلِ وَالنَّقَ

***

أَسْكُبُ الدَّمْعَ وَأَشْكُو الْحُرَقَ

لَمَّا عاين جلساءه من الروحانيات الملكية قد رحلوا عنه جائلين في الفُسُحات العلى، لا يقيدهم مكان طبيعي، وبقي مُرْتهنٌ هو بهذا الهيكل وتدبيره، مقيَّدٌ به عن الأنفاس في مسارح فرج تلك الأطباق العلى؛ جعل يسكب الدمع بذلك ويشكو حرقة الشوق الذي بفؤاده حلّ به، و"الأُثَيل" عبارة عن أصله الطبيعي، يريد الطبيعة، و"النّقا" عبارة عن جسمه، فإنه أفضل ما انْتُقي، فمن هذه الطبيعة هذا الجسم الإنساني فإنه أعدل النشآت الطبيعية، ولذلك قَبِلَ الصورة الإلهية، فكنّى عنه هن بالنَّقا، وقد يريد بقوله: "أسكب الدمع"، يقول: تركوني بعالم الطبيعة أبثُّ المعارف المتعلِّقة بالمناظر العُلى لأبناء الجنس المحبوسين عن هذه الأذواق العلِيَّة ونيل ما ناله الرجال بصدق الأحوال، و"أشكو الحرقا" من الحسرة عليهم حيث لم يكن لهم هذ الخبر عيانا، فيكون من باب الرحمة بالخلق. و(المعنى) الأول أمكن في القصد من الثاني، لكن الثاني متوجِّهٌ في حقِّ السامعين، فإنهم مع الوقت، ولو كان هذا البيت مفردا لتحقَّقَ به هذا الوجه الثاني، وإنما كان الوجه الأول أمكن من أجل الأبيات التي تأتي بعده؛ فالأول والثاني للسماع، والأول وحده للسماع وزيادة، وهي معرفة م بعده.

شرح البيت الثاني:

2

بِأَبِي مَنْ ذُبْتُ فِيهِ كَمَداً

***

بَأَبِي مَنْ مُتُّ مِنْهُ فَرَقَ

يفديه بأبيه، الذي هو الروح الكلي الأعلى، فإنه أبوه الحقيقي العلوي، وأمُّه الطبيعة السفلية؛ فيفدي بهذا الأب هذا السر الإلهي النازل عليه الذي وسعه قلبه وهو المعبَّرُ عنه في هذا البيت بـ"مَنْ"، ونَسَب الذوبان فيه إلى الكمد، يقول: إنه في مقام العشق له، للاسم الجميل الذي تجلى له فيه، ثم كرر الفداء له بأبيه، فقال: "بأبي من متّ"، يشير إلى مقام الذوبان أيضا بالموت، ولكن (فَرَقا، أي) خوفا من أنوار الهيبة، يقول: فطر عليّ الذوبان والفناء عني بحالة مني، وهي العشق، وبما اقتضاه ذلك الجمال الأعلى من الهيبة، وأن الجمال مَهوبٌ مُعظَّمٌ محبوبٌ، والجلالُ ليس كذلك، فإنه مَهوبٌ مُعظَّمٌ وليس بمحبوب، فإنه من سَطَوات القهر والجبروت، فتفرَقُ (أي تخاف) منه النفوس.

شرح البيت الثالث:

ولَمَّا اطَّلَع هذا السرُّ الإلهي، الذي وسع هذا القلبُ الشريف، على م أثَّرَ فيه من الذوبان والموت استحيا منه حيث لم تتنزل معه إليه الألطافالخفية التي تبقيه، فقال:

3

حُمْرَة الْخَجْلَة فِي وَجْنَتِهِ

***

وَضَحُ الصُّبْحِ يُنَاغِي الشَّفَقَ

فذكر أنه خجل لِما ذكرناه، ومن أسمائه الحيِيّ، وقد جاء أنّ الله تعالى يستحي من عبده ذي الشيبة أن يُكذِّبَه فيما كَذَب فيه! ولَمَّا كان هذا التجلي في الصور المثالية (أي التي تحدث في عالم المثال، وهو كعالم الخيال، فهي صورة تمثيلية) - مثل حديث عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: «رأيت ربي في صورة شاب أمرد عليه حلة من ذهب وعلى رأسه تاج من ذهب وفي رجليه نعلان من ذهب»وأشباه هذه الأحاديث المشكلة التي ذكرتها العلماء- وتكلمتُ عليها، فتلك الصورة هي المنسوب إليها هذه الخجلة؛ فتقبل أيضا الحمرة، من حيث ما هي صورة جسدية (تمثيلية)، و(تقبل أيضاً) الوجنة، ثم أوقع التشبيه في بياض الوجه وحمرة الخجلة في الخد، فـ"وضح الصبح" الذي هو بياضه و"حمرة الشفق" كأنهم يتحدَّثان بالسبب الذي أوجب هذا الحياء مما طرأ على هذا القلب من هذا التجلي.

شرح البيت الرابع:

4

قَوَّضَ الصَّبْرُ وَطَنَّبَ الْأَسَى

***

وَأَنَا مَا بَيْنَ هٰذَيْنِ لِقَ

يقول: "قوض الصبر"، أي رفع خيامه ورحل، والحزن نزل ومدَّ طُنُبَه وضرب فُسْطاطه، يقول: فأدَّاني عدم الصبر ونزول الحزن، وما ثَمَّ ما يقاومه إلى الهلاك، وأنا ملقى لا حراك بي، هَلِكٌ تحت سلطان الوجد في مقام البوح والإفشاء والإعلان بم تنطوي عليه الضلوع من الأسرار الشوقية؛ يقول: انتقلتُ عن الاسم الصّبور، فلم أقدر أن أملك وجدي، فظهر فِيَّ سلطانه.

شرح البيت الخامس:

ثم أخذ يقول:

5

مَنْ لِبَثِّي، مَنْ لِوَجْدِي، دُلَّنِي

***

مَنْ لِحُزْنِي، مَنْ لِصَبٍّ عَشِقَ

يقول: هل من جامع لِما تفرَق من همومي! من يرثي لِما حلَّ بي، "من لوجدي؟" أي: ما أحس به من آلام البلوى بالانتقال مع الأسماء والوقوف معها عما تعطيه الذات من الثبات، "من لحزني؟" يقول: مَن لصعوبة هذا الأمر بتسهيله، "من لصبٍّ؟"، يقول: مائلٍ ما له مُقيمٌ من ميله، "عشقا": عانق الشدائد تعانُقَ اللام للألف، مأخوذٌ من العِشْقة. يقول: دُلُّوني على من يأخذ بيدي من مقام التفرُّق فينزلَنيفي عين جمع الجمع والشهود، بلا مزيد، فإنّ المزيد، حالة تؤذن بعدم الكمال.

شرح البيت السادس:

6

كُلَّمَا صُنْتُ تَبَارِيحَ الْهَوَى

***

فَضَحَ الدَّمْعُ الْجَوَى وَالْأَرَقَ

يقول: كلما رمت أن أقوم في مقام الكِتمان مما أكنُّه من الجوى والأرق، أبت الدموع بانسكابها إلا الإفشاء والبوح، فإنّ الوجد أملَكُ، وهو أبلغ في المحبة من الكتمان، فإنّ صاحب الكتمان له سلطان على الحب، والبائح يغلب عليه سلطان الحب، فهو أعشق، ولا يحجبنَّك قول المحب القائل:

باحَ مجنونُ عامرٍ بهواه

***

وكتمتُ الهوى فمِتًّ بوجدي

فإذا كان في القيامة نودي:

***

"من قتيل الهوى؟" تقدمت وحدي

فإن هذا القائل لم يتمكن منه الحب تمكُّنَ من لم يترك فيه سلطانَ غَيره، فإنّ الذي حجب الحبّ عن ظهور سلطانه أقوى منه، فكان عقله أغلب، ولا خير في حب يدبَّر بالعقل، بل أحكام المحبة تناقض تدبير العقول.

شرح البيت السابع:

7

فَإِذَا قُلْتُ: هَبُوا لِي نَظْرَة !

***

قِيلَ مَا تُمْنَعُ إِلَّا شَفَقَ

يشير إلى قوله عليه الصلاة والسلام: «لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَ أَدْرَكَهُ بَصَرُهُ (مِنْ خَلْقِه)» [القصيدة الثانية: البيت السادس]، فكان إرسال الحجب بين السبحات وبين الخلق رحمة بهم وإشفاقا على وجودهم، فإن قيل: فقد وعد بالرؤية في دار الآخرة فكيف يكون البقاء هناك ولا فرق بين الدارين من كونهم مخلوقتين وممكنَين؟ قلنا: إذا فهمت معنى إضافة السبحات إلى وجهه، وفرَّقت بين هذ القول وقوله: «تَرَوْنَ رَبَّكُمْ (كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ وَكَمَا تَرَوْنَ الشَّمْسَ فِي الظَّهِيرَةِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ)» [مسلم: 183]، وقوله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَة إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَة ﴾ [القيامة: 22-23]، فعلَّقَ الرؤية بالربّ والإحراقَ بالوجه. وقوله (تعالى): ﴿لَ تُدْرِكُهُ اَلْأَبْصَارُ﴾ [الأنعام: 103]، يعني الوجه، عرفت حينئذ الفرق بين الخبرَين، وتحققت أنّ هذا الاعتراض غير لازم.

ويريد أيضا بقوله: "هبوا لي نظرة"، وقولهم: "ما تمنع إلا شفقا"؛ لأن الوجد وأليم الحب والنظر إلى المحبوب يزيده وجدا إلى وجده، وحبّا إلى حبه، فكأنه يطلب الزيادة من عذابه، فقيل له: نحن نشفق عليك لذلك، وليس مع الحب تدبير فإنه يُعمي ويُصم، والمحبوب صاحٍ، فيَرفَق به من حيث لا يريد المحبُّ.

شرح البيت الثامن:

8

مَا عَسـَى تُغْنِيكَ مِنْهُمْ نَظْرَة

***

هِيَ إِلَّا لمْحُ بَرْقٍ بَرَقَ

يقول: إنّ هذه النظرة لا تغني من الوجد شيئا، فإنّ مثلها في الفعل بالقلب مثل فعل ماء البحر بالظمآن؛ كلما ازداد شربا ازداد عطشا. ثم إنك لَمَّا كنت مُركَّبا وأنت (بروحك) مدبِّرٌ لِمُركَّبٍ (وهو بدنك) ولم تكن بسيطا، لم يتمكن لك دوام الرؤية بحكم الاتصال، فإنك مطلوبٌ بإقامة مُلْكِ بدنك وتدبيره، فلابدَّ لك من الرجوع إليه وإرسال الحجب بينك وبين مطلوبك الذي تيَّمَك وهيَّمَك وهيَّجَك، فنزلتتلك النظرة بذلك التجلي بمنزلة لَمْحِكَ للبرق إذا برق، وهو الوقت الذي لا يسعك فيه غير ربِّكَ.

شرح البيت التاسع:

9

لَسْتُ أَنْسـَى إِذْ حَدَى الْحَادِي بِهِمْ

***

يَطلُبُ الْبَيْنَ وَيَبْغِي الْأَبْرَقَ

يقول: لما دُعوا من جانب الحق، هؤلاء الروحانيات العلى، الذين كانوا جلساء في الله تعالى، وحَدَا بهم داعي الحق إلى العروج إليه، كما قال عليه الصلاة والسلام: «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلاَئِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلاَئِكَةٌ بِالنَّهَارِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي. فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ» [كنز العمال: 18947]، كذلك عند الصبح والعصر. وقوله: "يطلب البين"، يعني هذا الحادي بهم يطلب الفراق والبعد من عالم الكون بهؤلاء الروحانيات، وأتى بلفظة البين دون غيره، لأنه من الأضداد فهو فراق عن كذا فيه انفصال بكذا، وهو المقصود ولا يوجد ذلك في غير لفظة البين. وقوله: "ويبغي الأبرقا"، يقول: ويبغي بهم المكان الذي يقع لهم فيه شهود الحق تعالى، وسمّاه الأبرق لَمَّا شبَّهَ الشهود الذاتي بالبرق، لنوره وسرعة زواله كنّى عن المكان والحضرة التي يقع فيها هذا الشهود بالأبرق، أي المكان الذي يظهر فيه البرق.

شرح البيت العاشر:

10

نَعَقَتْ أَغْرِبَة الْبَيْنِ بِهِمْ

***

لَا رَعَى اللهُ غُرَاباً نَعَقَ

كنّى بـ"أغربة البين" عن الأمور التي خلَّفَته عن العروج معهم إلى الأبرق، وهي ملاحظات وجوده الطبيعي الذي أُمِرَ بتدبيره والقيام بسياسته، فهو يتشاءم بملْكه ويتمنى الانتقال من مقام المُلْك إلى العبودية التي هي في الحقيقة مُلْك المُلْك.

شرح البيت الحادي عشر:

ثم أخذ يدعو على كلِّ من كان سبباً لفراقه عن أحبته المساعدين له على م في هِمَّته بتخلُّفه عنهم حين درجوا عنه:

11

مَا غُرَابُ الْبَيْنِ إِلاَّ جَمَلٌ

***

سَارَ بِالْأَحْبَابِ نَصًّا عَنَقَ

يقول: ليس غراب البين طائراً يطير بالأحباب، وإنما حمولتهم التي تحملهم عنا هي أغربة البين، وهي في الحس:المراكب التي هي الإبل وأشباهها، وفي اللطائف: الهمم التي ترتحل بالعبد المحقق عن موطن وجوده إلى تقريب شهوده، فلو عاينْتَ سير اللطائف الإنسانية على نجائب الهمم وهي تخترق سرادقات الغيوب وتقطع مفازات الكيان لرأيت عجبا، ولهذا قال العارف: والهمم للوصول، أي أنها عليها يوصل إلى المطلوب فإن سيرها ينتهي إلى المكانة التي ينعدم فيها الاسم ويضمحل الرسم.



 

 

البحث في نص الكتاب



Veuillez noter que certains contenus sont traduits de manière semi-automatique !