موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

الذخائر والأعلاق في شرح ترجمان الأشواق

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

تحقيق الدكتور محمد حاج يوسف

 

 


17- القصيدة السابعة عشر وهي سبعة أبيات من البحر البسيط

وقال رضي الله عنه:

1

يَا حَادِيَ الْعِيسِ لَا تَعْجَلْ بِهَا وَقِفَا،

***

فَإِنَّنِي زَمِنٌ فِي إِثْرِهَا غَادِي

2

قِفْ بِالمَطَايَا، وَشَمِّرْ مِنْ أَزِمَّتَهَ

***

بِاللهِ بِالوَجْدِ بِالتَّبْرِيحِ يَا حَادِي

3

نَفْسِـي تُرِيدُ، وَلٰكِنْ لَا تُسَاعِدُهَ

***

رِجْلِي، فَمَنْ لِي بِإِشْفَاقٍ وَإِسْعَادِ

4

مَا يَفْعَلُ الصَّنَعُ النِّحْرِيرُ فِي شُغُلٍ

***

آلَاتُهُ أَذِنَتْ فِيهِ بِإِفْسَادِ

5

عَرِّجْ، فَفِي أَيْمَنِ الْوَادِي خِيَامُهُمُ،

***

للهِ دَرُّكَ مَا تَحْوِيهِ يَا وَادِي

6

جَمَعْتَ قَوْماً هُمُ نَفْسِـي وَهُمْ نَفَسِـي

***

وَهُمْ سَوَادُ سُوَيْدَا خِلْبِ أَكْبَادِي

7

لَا دَرَّ دَرُّ الْهَوَى إِنْ لَمْ أَمُتْ كَمَداً

***

بِحَاجِرٍ أو بِسَلْعٍ أو بِأَجْيَادِ

شرح البيت الأول:

1

يَا حَادِيَ الْعِيسِ لَا تَعْجَلْ بِهَا وَقِفَا،

***

فَإِنَّنِي زَمِنٌ فِي إِثْرِهَا غَادِي

يقول الروح الإلهي الناطق من الإنسان المأمور بتدبير هذا البدن للداعي من جانب الحق الذي، كنّى عنه بالحادي، والعيسُ (هي) الهمم، يقول له: "لا تعجل" بسيرها، يريد: حتى تنظر بأيِّ حقيقة إلهية ذاتية تعقلها، وأمره بالوقوف على التوكيد، فثنّاه (للفعل، بقوله: "وَقِفَا")، كما قال الحجاج: «يا حارس اضربا عنقه»، أراد: "اضربْ اضربْ" مرتين للتوكيد، فثنَّاه. وقوله: "فإنني زَمِنٌ في إثرها غادي"؛ نسب الزمانة (وهي العاهة) له لوقوفه مع هذا البدن، وارتباطه به إلى الأجل المسمى. وقوله: "في إثرها"، يريد في أثر الهمم، و"غادي"، يقول: رائح عند حلول الأجل المسمى بمفارقة هذ البدن الذي أورثني الزمانة.

شرح البيت الثاني:

وأكّد هذا المعنى (وهو الأمر بالوقوف مرة ثالثة، بعد المبالغة بأسلوب التثنية، فقال):

2

قِفْ بِالمَطَايَا، وَشَمِّرْ مِنْ أَزِمَّتَهَ

***

بِاللهِ بِالوَجْدِ بِالتَّبْرِيحِ يَا حَادِي

كنّى عن الهمم بـ"المطايا"، وقوله: "شمِّر من أزمَّتها"، يقول: أمسكها عن النفودإلى مطلوبها حتى أكون فيها على قدم محقق. ثم أقسم على الحادي، الذي هو الداعي إلى الحق: "بالله"؛ أشار إلى المرتبة (وهو اسم الذات الإلهية)، فأقسم بها، لأنّ الداعي خديمها، فيقف عند هذا القسم، ولم يخص له اسماً (معيناً من أسماء الله الحسنى) لئل يكون وقوفه بحسب ما يعطيه ذلك الاسم، أو انتهاءً منه من غير وقوف، والذي أقسم به أمرٌ جامع فلا يقدر هذا الداعي أن يَحكم على الاسم الجامع (وهو اسم: الله) بأمرٍ معين، فلابدَّ له من الوقوف إبراراً للقسم، لا للمُقسم. ثم أقسم عليه "بالوجد" ليحصل في نفسه شفقة عليه، فيكون وقوفه بضرب من الرحمة والشفقة. وقوله: "والتبريح": أُقسم أيضاً بما ظهر لك من حالي وتحقَّقْتَه.

شرح البيت الثالث:

ثم ذكر أيضاً المانع من رحلته حيث تروح هممه:

3

نَفْسِـي تُرِيدُ، وَلٰكِنْ لَا تُسَاعِدُهَ

***

رِجْلِي، فَمَنْ لِي بِإِشْفَاقٍ وَإِسْعَادِ

شبَّهَ نفسه في تقييده بهذا البدن، ومنْعِ هذا التقييد له من معارجه حيث يريد الحركة؛ فالإرادة منه موجودة، والآلة التي يبلغ بها المطلوب غير مساعدة، ثم قال: "فمن لي بإشفاق"، يريد "بصاحب الإشفاق" مساعد لي على ما أريده من مفارقة هذ العالم الخسيس، محل الحجاب والظلمة، وطمس الأنوار والغمَّة، والذي أشار إليه المشفق المساعد هو: "القدر"، يقول: من لي بمساعدة القدر شفقة منه عليّ لِما أنا فيه من الغمِّ والكرب وحُكم الكيف والكم.

شرح البيت الرابع:

ثم أخذ يعزي نفسه، ويقول:

4

مَا يَفْعَلُ الصَّنَعُ النِّحْرِيرُ فِي شُغُلٍ

***

آلَاتُهُ أَذِنَتْ فِيهِ بِإِفْسَادِ

كنّى بالصَّنَععن نفسه، والصَّنَعُ: هو الحاذق بالعمل، الماهر، يقول: ما أفعل! وإن كنت قادرا على المفارقة في أوقات ما - يشير إلى زمن الفناء والغيبة في أوقات الأحوال والواردات الإلهية - ولكن ما هو مطلبي إلا الرحلة الكلِّيَّة، فإنّ الجذب الذي يجذبني من عالم الحس في وقت الفناء قويّ، وهو الذي عبَّرَ عنه بالآلة. يقول: فذلك الجذب يُفسد عليّ شغلي، أي ينكِّدُعليّ حال فنائيوغيبتي بجذبه لردِّي إليه في تدبيره، لئلا ينخرم (عالم الحِسِّ ونظام الجسم)، وذلك لعلمه بما بقي عندي في خزانتي من مصالحه وتدبيره (بالغذاء المناسب) الذي أودعنيه الحكيم سبحانه.

شرح البيت الخامس:

ثم قال يخاطب الحادي:

5

عَرِّجْ، فَفِي أَيْمَنِ الْوَادِي خِيَامُهُمُ،

***

للهِ دَرُّكَ مَا تَحْوِيهِ يَا وَادِي

يقول للحادي: عرّج بالهمم إلى أيمن الوادي، يشير إلى المراد بالطود الأيمن بالوادي المقدس، حالة التكليم والمناجاة بفنون العلوم. وقوله: "خيامهم"، يقول: منازل هذه الهمم، يقول: إنها لا تنزل إلاّ في العلم بالله، لا في الله، لأنه سبحانه ليس بمحلٍّ لنزول شيء فيه، ولكن غاية الممكن كلِّهِ العلمُ بالله؛ فمدار الكلِّ على العلم لا على غيره، لأنه ليس بيد الممكن سواه حيث كان.

ثم أخذ يقول: "للّه درك ما تحويه يا وادي"، يريد: (ما تحويه) من المعارف الإلهية القدسية الموسوية، الذي قيل فيها لنبيِّنا صلى الله عليه وسلم: ﴿وَمَ كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا﴾ [القصص: 46]، وقوله (تعالى): ﴿فَسَالَتْ أَوْدِيَة بِقَدَرِهَا﴾ [الرعد: 17].

شرح البيت السادس:

ثم أخذ يقول في نعت هذه المعارف والهمم:

6

جَمَعْتَ قَوْماً هُمُ نَفْسِـي وَهُمْ نَفَسِـي

***

وَهُمْ سَوَادُ سُوَيْدَا خِلْبِ أَكْبَادِي

يخاطب الوادي، يقول: جمعت قوماً يريد ما فيه من المعارف والهمم، "هم نَفْسي"، يريد الهمم، "وهم نَفَسي"، يريد المعارف، "وهم سَواد سُويدا خِلبأكبادي": يريد الهمم، فإن انبعاثاتها من سويداء القلب. يقول: وأنا وإن لم أحظ بحلولي فيك (أيها الوادي) لألتذَّ بما تحويه وأتنزه (في فسحاتك)، فإنّ حلول هممي فيك كحلولي (أنا نفسي) لأنها مني وإليّ؛ (وقال ذلك) تعزيةً لنفسه بذلك لِما يجده من الشوق إلى المفارقة واللُّحوق بالعالم الأقدس.

شرح البيت السابع:

ثم أخذ يعرّض بحاله وهيمانه في ذلك، فقال:

7

لَا دَرَّ دَرُّ الْهَوَى إِنْ لَمْ أَمُتْ كَمَداً

***

بِحَاجِرٍ أو بِسَلْعٍ أو بِأَجْيَادِ

يقول: أنا أدَّعي الهوى، والهوى سبب مُهلك؛ إذا أفرط أدى إلى الرحلة عن هذا الموطن، كما اتفق فيما حُكي عن جماعة من المحبِّين أنّ محبوبه قال له: "إن كنت تحبني فمت!" فوقع من حينه في الأرض بين يديه ميتاً. فأخذ (الكاتب في هذه القصيدة) يدعو على هواه في هذا العالم الأقدس: لا كان هذا الذي لا يميتني كمداً وشوقاً بحاجرِ اللُّحوق بالبرزخ، إذ هو الحاجز بين الشيئين، أو بسلع، يقول: إن لم أمت كمدا بسبب حبّ اللحوق بعالم البرزخ، فأتجرَّدَ عن هذ الهيكل الذي طال حسي فيه بالحجاب، أو بسَلع، أو بسبب مقامٍ مشرفٍ على المقام المحمَّدي، فإنّ المقام المحمدي ممنوعٌ الدخولُ فيه، وغاية معرفتنا به النظر إليه، كما يُنظرُ في الجنة إلى عليِّين كنظرنا إلى الكواكب في السماء؛ فإن سَلعاً جبلٌ بذي الحُليفة يُشرِف على المدينة، فكنّى عنها (أي: المدينة المنورة) بالمقام المحمدي لإقامة محمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم) فيها، فأشار إلى رتبته ومرتبته.

(وقوله:) "أو بأجياد"، جبل مشرف بالحرم المكي على البيت (الحرام)، يقول: أو بسبب مقامٍ إلهي يغنيني عن كلِّ كونٍ، فلا كان هوى لا يُلحقني بهذه المراتب الثلاث، أو بمكان منها!



 

 

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!