The Greatest Master Muhyiddin Ibn al-Arabi
The Greatest Master Muhyiddin Ibn al-Arabi

الذخائر والأعلاق في شرح ترجمان الأشواق

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

تحقيق الدكتور محمد حاج يوسف

 

 


19- القصيدة التاسعة عشر وهي ثمانية أبيات من البحر الرجز

وقال رضي الله عنه:

1

يَا طَلَلاً عِنْدَ الْأُثَيلِ دَارِسَ

***

لَاعَبْتُ فِيهِ خُرَّداً أَوَانِسَ

2

بِالْأَمْسِ كَانَ مُؤْنِساً وَضَاحِكاً

***

وَالْيَوْمَ أَضْحَى مُوحِشاً وَعَابِسَ

3

نَأَوْا وَلَمْ أَشْعُرْهُمُ فَمَا دَرَوْ

***

أَنَّ عَلَيْهِمْ مِنْ ضَمِيرِي حَارِسَ

4

يَتْبَعُهُمْ حَيْثُ نَأَوْا وَخَيَّمُو

***

وَقَدْ يَكُونُ لِلْمَطَايَا سَائِسَ

5

حَتَّى إِذَا حَلُّو بِقَفْرٍ بَلْقَعٍ

***

وَخَيَّمُوا وَافْتَرَشُوا الطَّنَافِسَ

6

عَادَ بِهِمْ رَوْضاً أَغَنَّ يَانِعاً

***

مِنْ بَعْدِمَا قَدْ كَانَ قَفْراً يَابِسَ

7

مَا نَزَلُوا مِنْ مَنْزِلٍ إِلَّا حَوَى

***

مِنَ الْحِسَانِ رَوْضُهُ طَوَاوِسَ

8

وَلَا نَأَوْا عَنْ مَنْزِلٍ إِلَّا حَوَى

***

مِنْ عَاشِقِيهِمْ أَرْضُهُ نَوَاوِسَ

شرح البيت الأول:

1

يَا طَلَلاً عِنْدَ الْأُثَيْلِ دَارِسَ

***

لَاعَبْتُ فِيهِ خُرَّداً أَوَانِسَ

كُنَّا قد نزعنا في شرح هذه القطعة وغيرها منازعَ مختلفةً في مواضع شتى (من هذا الكتاب) على حسب ما يعطيه السماع في وارد الوقت، فالآن أيضا أقول فيها: إنّ السماع أعطى في قوله: "يا طللا عند الأثيل"؛ الطّلل ما بقي من أثر الديار بعد خلوّها عن ساكنيها، واعلم أنّ الإنسان فيه مُناسبٌ من كلِّ شيء في العالَم، فيضاف كلُّ مناسبٍ إلى مناسبه بأظهرِ وجوهه، وتخصِّصُهُ الحالُ والوقتُ والسماعُ بمناسبٍ ما دون غيره من المَنَاسِب إذا كان له مناسبات كثيرة لوجوه كثيرة يطلبها بذاته. فأقول: إنّ الأُثَيل تصغير الأَثْل، وهو الأصل، والطّلل أثر طبيعي، وهو ما بقي فيه من أثره الطبيعي، فالأُثَيل هنا الطبيعة التي هي الأصل.

وقوله: "دارسا"، يريد متغيرا بما يَرِد عليه من الأحوال، فيتغيَّر من حالة إلى حالة، وإذا تغيَّرَ إلى حالة ما فقد ذهب أثره من الحالة التي انتقل عنها، حتى أعقبها غيرها.

وقوله: "لاعبت فيه خرَّداً أوانسا"؛ أراد بالخرَّد الحِكم الإلهية التي يأْنَسُ بالاطلاع عليها قلب العارف، فهو يتذكر حالته التي كان عليها عند فنائه عن عالم الفناء والدثور.

وقوله: "لاعبت فيه"، الضمير يعود على الطلل (الذي يشير إلى بقايا طبيعته الجسمانية)، فإنه ما شاهد شيئا (من العلوم والمعارف) إلاّ فيه وبسببه، فإنه بالأصل متولِّدٌ عنه، فإنه بعد التسوية الطبيعية (للجسم) يحصلُفيه هذا السر الروحاني الرباني (من قوله تعالى: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي﴾ [الحجر: 29، ص: 72]) على صورة المزاج وطبع التأليف (ويكون هذ السر الروحاني) ساذجا لا علم له، ثم إنه بواسطة ما أودع الله في هذا الهيكل من القوى (الحسية والعقلية) يحصل (له) ما يظهر عليه من العلوم والمعارف كلِّها، الرياضية والطبيعية والإلهية، فبهذا يكون شرف لهذا القالب (الطبيعي).

شرح البيت الثاني:

ثم قال:

2

بِالْأَمْسِ كَانَ مُؤْنِساً وَضَاحِكاً

***

وَالْيَوْمَ أَضْحَى مُوحِشاً وَعَابِسَ

كنّى بـ"الأمس" عن الزمان الماضي، يقول: كان فيه - بمغيبه وفنائه مع العالم الأعلى، عالم البقاء، من غير استمرار أزمان عن عالم الفناء والإحساس المقيَّد في عالم الشهادة - "مؤنسا وضاحكا"، في ابتهاج وسرور وغبطة وحبور، فإنه بمناسبه الروحاني كانت أُلْفَتُهُ في هذا المشهد، فلما رُدَّ في الحالة الثانية، التي كنّى عنها بـ"اليوم"، إلى حالة إحساسه ومشاهدة عالَم الضيق والحرج، وفراق تلك الفسحات والفُرَج العلوية والمسارح، أخذتْهُ الوحشة لتلك الفُرْقة فصار عبوس مهموما.

شرح البيت الثالث:

ثم أخذ يقول:

3

نَأَوْا وَلَمْ أَشْعُرْهُمُ فَمَا دَرَوْ

***

أَنَّ عَلَيْهِمْ مِنْ ضَمِيرِي حَارِسَ

يقول: إنّ الملأ الأعلى الذين كانوا مشهودين له في هذا المقام، لَمَّ رحلوا ورُدِدتُ إلى شاهدي من تلك الغيبة، بعث عليهم حارسا ضميري وخواطري وهممي تخدمهم وتبصرهم، مثل ما يفارق الإنسان منزلا ما بإحساسه وهو حاضرٌ معه بخياله، ومثالُهُ في نفسه.

شرح البيت الرابع:

ثم أخذ يصف حالة هذا الضمير، فقال:

4

يَتْبَعُهُمْ حَيْثُ نَأَوْا وَخَيَّمُو

***

وَقَدْ يَكُونُ لِلْمَطَايَا سَائِسَ

يقول: "يتبعهم" حيث توجهوا في سيرهم في المنازل الإلهية، "وخيموا" إذ قاموا بمقام ما من مقامات الجمع والوجود، لورود الشهود الذي لا تصح معه حركة منه، بل له الثبوت في ذلك المشهد، و"المطايا": هم السائرون الذين اشتاق إليهم. وقوله: "سائسا" يسوسهم، أي يؤثِّرُ فيهم بالهمَّة فتكون منهم التفاتَةٌ إليه، وذلك من صدقه، فإنَّ الصغير يؤثِّر في الكبير إذا كان صادق التوجه - وهذا يظهر كثيراً في المريدين الصادقين مع الشيوخ، وإن كان الشيوخ أعلى، ولكنَّ صدق التوجُّهِ إليهم أثَّرَ لهم رحمةً بهم ﴿لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ﴾ [الأحزاب: 24] عاجلا، وهو هذا، وآجلا ما يكون في الأخرى لهم.

شرح البيت الخامس:

ثم أخذ يصف أحوال السائرين، فقال:

5

حَتَّى إِذَا حَلُّو بِقَفْرٍ بَلْقَعٍ

***

وَخَيَّمُوا وَافْتَرَشُوا الطَّنَافِسَ

يقول: (حتى إذا) نزلوا بمقام التنزيه وتجريد التوحيد، "وخيموا"، مثل قوله عليه السلام: «إنّ الإنسان يوم القيامة في ظلِّ صدقته» [كنز العمال: 15996]، "وافترشوا الطّنافسا"،هو ما مَهَّد لهم الحق في منازلهم عند ورودهم عليه من عالم الأكوان، وما أتحفهم به في ذلك المقام من البِرِّ والإكرام.

شرح البيت السادس:

ثم أخذ يذكر ما أثَّرَ نزولهم في ذلك المقام عندهم، وما ينزل إليهم من عند الحق من الألطاف والتحف والعوارف بنزولهم، فقال:

6

عَادَ بِهِمْ رَوْضاً أَغَنَّ يَانِعاً

***

مِنْ بَعْدِمَا قَدْ كَانَ قَفْراً يَابِسَ

نبَّهَ في هذا البيت على أنّ تجريد التوحيد لا يثبت معه حقيقة زائدة على العين أصلا، فإذا قاموا في هذا المقام وتحققوا به وعلموا معنى قوله (تعالى): ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: 11] ردَّهم إلى توحيد ذواتهم من حيث أحديَّتِهم، التي لا شبيه لها من حيث العين في ذاتها، ثم ذكر قبولها لما يفيضه الحق عليها من الأسرار الإلهية لحقائق الأسماء، فشببها بالروضة لكونها جامعة لفنون الأزهار، وبيّن أنَّ ذلك من مقام الفهوانية، بقوله: "أغنّ"، فجمع بين الكسب والوهب من طريق المشاهدة والكلام، فكأنه في هذا المقام موسوي ومحمدي، على مذهب ابن عباس وأكثر المحققين.

شرح البيت السابع:

ثم أخذ يصف ما يؤثِّرون هؤلاء في المنازل بنزولهم:

7

مَا نَزَلُوا مِنْ مَنْزِلٍ إِلَّا حَوَى

***

مِنَ الْحِسَانِ رَوْضُهُ طَوَاوِسَ

يقول: إذا نزلوا في منزل، فكان ذلك بحسن فنون حالاتهم وأعمالهم وخُلُقهم، نزلوه "طواوساً" لحسنهم واختلاف ألوان لباسهم، وشبَّههم بالطيور لغلبة الروحانية عليهم، ولَمَّا كانت الطيور ممتزجة بين العالم الروحاني المطلق، من حيث طيرانهم في الجو وسياحتهم في الهواء، وبين العالم الجسماني من حيث هيكلهم وتركيبهم، لذلك أوقع التشبيه بها لأنّ الأرواح الإنسانية المقيدة بهذا الهيكل لم تخلُص عنه تخلُّص الأرواح المُسرَّحة التي ل تقييد لها بعالم الأجسام، لأنها مدبّرة بأصل الفطرة والجبلَّة، ولا تخلَّصت أيض لأن تكون من عالم الجسم فتكون ظلمة مطلقة كثيفة ثقيلة، تتحرك بغيرها لا بنفسها، فأشبهت الطير بهذا، وذلك أنها متولدة بين الظلمة والنور، فهي ممتزجة، فكأنها برزخ بين العالمين النوراني والظلماني.

شرح البيت الثامن:

ثم قال:

8

وَلَا نَأَوْا عَنْ مَنْزِلٍ إِلَّا حَوَى

***

مِنْ عَاشِقِيهِمْ أَرْضُهُ نَوَاوِسَ

يقول: ولا رحلوا عن منزل "إلاّ حوى من عاشقيهم"، أي مَن له تعلُّقٌ بهم من الحقائق التي تحبأن تظهر آثارها فيهم لظهور سلطانهم لهم، فإنّ المعارف لا وجود لها إلا بالعارفين، فهي أشدُّ عشقا في وجود العارف بها - من حيث ما هو عارف بها - من شوق العارف إليها، فإنّ العارف قد يمكن أن يجهل بعض المعارف فلا يُتصوَّر منه طلب ولا عشق (لها)، فلهذا وصفها (الشيخ محي الدين) عند مفارقة العارفين بالموت، فإنّ "النواويس" المدافن.



 

 

البحث في نص الكتاب



Veuillez noter que certains contenus sont traduits de manière semi-automatique !