موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

الذخائر والأعلاق في شرح ترجمان الأشواق

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

تحقيق الدكتور محمد حاج يوسف

 

 


21- القصيدة الحادية والعشرين وهي ستة أبيات من البحر الطويل

وقال رضي الله عنه:

1

أَيَا رَوْضَة الْوَادِي أَجِبْ رَبّة الْحِمَى،

***

وَذَاتَ الثَّنَايَا الْغُرَّ، يَا رَوْضَة الْوَادِي

2

وَظَلِّلْ عَلَيْهَا مِنْ ظِلَالِكَ سَاعَةً

***

قَلِيلاً، إِلى أَنْ يَسْتَقِرَّ بِهَا النَّادِي

3

وَتُنْصَبَ بِالْأَجْوَازِ مِنْكَ خِيَامُهُ

***

فَمَا شِئْتَ مِنْ طَلٍّ غِذَاءً لِمَيَّادِ

4

وَمَا شِئْتَ مِنْ وَبَلٍ، وَمَا شِئْتَ مِنْ نَدىً،

***

سَحَابٌ عَلَى بَانَاتِهَا رَائِحٌ غَادِ

5

وَمَا شِئْتَ مِنْ ظِلٍّ ظَلِيلٍ، وَمِنْ جَنىً

***

شَهِيٍّ لَدَى الْجَانِي يَمِيسُ بِمَيَّادِ

6

وَمِنْ نَاشِدٍ فِيهَا زَرُودَ وَرَمْلَهَا،

***

وَمِنْ مُنْشِدٍ حَادٍ وَمِنْ مُنْشِدٍ هَادِ

شرح البيت الأول:

1

أَيَا رَوْضَة الْوَادِي أَجِبْ رَبّة الْحِمَى،

***

وَذَاتَ الثَّنَايَا الْغُرَّ، يَا رَوْضَة الْوَادِي

"الوادي" هو الوادي المقدس، يريد مقام التقديس، وكنّى بـ"الروضة" عن الشجرة التي ظهر النور فيها للمكلَّمِ موسى عليه السلام، و"ربة الحمى": حقيقة موسى عليه السلام، فهي إشارة للعارف إلى مرتبة موسوية ورثها منه، و"الحمى": يريد مقام العزة التي تمنع ذاته من الوصول إليها.

وقوله: "وذات الثنايا الغر"، إشارة إلى إشراق المباسم، واختصَّها بالذكر لأنه في مقام المناجاة، والكلام محلُّه الفم، وهي صافية من الأقذاء والقلوح، يريد مقام الصفاء والطهارة.

وقوله: "أجب"، فإنّ الحقيقة الموسوية كانت طالبة نارا، فلذا قيل: "أجب".

شرح البيت الثاني:

ثم خاطب الروضة في البيت الثاني، فقال:

2

وَظَلِّلْ عَلَيْهَا مِنْ ظِلَالِكَ سَاعَة

***

قَلِيلاً، إِلى أَنْ يَسْتَقِرَّ بِهَا النَّادِي

يقول لهذه الروضة: هذه ربة الحمى! ظلل عليها من أفنان أغصان معارفك قدر مايُظِلّ ما هو من جانبها، أي أنه يخاطب من خارج، بحكم الجهة، إلى أن يقع الأنس بذلك ويتهيأ المحل للقبول، فيقوم له النداء والخطاب من ذاته، من غير نظر إلى الأعيان من خارج، واستقرارُ النادي بها ثبوتُها في الطمأنينة بذلك.

شرح الأبيات من الثالث إلى السادس:

وقد بين ما ذكرناه في باقي القصيدة، فقال:

3

وَتُنْصَبَ بِالْأَجْوَازِ مِنْكَ خِيَامُهُ

***

فَمَا شِئْتَ مِنْ طَلٍّ غِذَاءً لِمَيَّادِ

4

وَمَا شِئْتَ مِنْ وَبَلٍ، وَمَا شِئْتَ مِنْ نَدىً،

***

سَحَابٌ عَلَى بَانَاتِهَا رَائِحٌ غَادِ

5

وَمَا شِئْتَ مِنْ ظِلٍّ ظَلِيلٍ، وَمِنْ جَنىً

***

شَهِيٍّ لَدَى الْجَانِي يَمِيسُ بِمَيَّادِ

6

وَمِنْ نَاشِدٍ فِيهَا زَرُودَ وَرَمْلَهَا،

***

وَمِنْ مُنْشِدٍ حَادٍ وَمِنْ مُنْشِدٍ هَادِ

يقول: إذا ثبتتفي مقام الطمأنينة ضربت لها خيام أعمالها بالمقامات العظمى، التي عبَّرَ عنه بالأجواز. وقوله: "فما شئت من طل"، يريد الشذا والندى، والشذا هو ما نزل من الطل بالنهار، والندى ما نزل من الطل بالليل، وهو ما يتنزل عليه من أوائل المعارف بطريق اللطف في غيابات الغيب والشهادة، لأنه لا يدرك نزوله بالحس متى يظهر في المحل منه القدر الذي يدركه الحس. و"المياد": الغصن الناعم، يقول: وفيه غذاء للنشأة الإنسانية التي خُلقت في أحسن تقويم (إشارة للآية 4 من سورة التين) و(التي) اختصت بالحركة المستقيمة على سائر المولدات (من الحيوانات).

وقوله: "وما شئت من وبل"، تنزُّل أعظم فيه شفاء لأن فيه رائحة اشتقاق من الاستبلال، الذي هو الشفاء، فكأنها معارف تزيل جهالات بوجودها، فإنّ المعارف قد تنزل على قلوب ساذجة ما فيها شيء أصلا، وقد تنزل على قلوب فيها تشكيك وتردُّد، فذلك مرض، وقد تنزل على قلوب فيها جهالات وهي مصمِّمَة عليها على أنها علوم، فيبين له هذا النزول حاله فيرجع، وهذا لا يسمى مرضاً لأن من شرط المرض الإحساس به، فيطلب به الدواء رغبة في الشفاء، وهذا لا يكون في القلوب إلاّ لأهل التشكيك والحيرة، وأم المصمم على اعتقاده وشبهته فلا يقال فيه صاحب مرض، وإنما هو ميت، فهذا التنزيل يحييه، كما قال (تعالى): ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً﴾، يعني بالجهل، ﴿فَأَحْيَيْنَاهُ وجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي اَلنَّاسِ﴾، الآية [الأنعام: 122].

وقوله: "وما شئت من ندى"؛ قوله (تعالى): ﴿يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ﴾ [النور: 36] فهذه تنزلات هذه الأعمال المخصوصة بهذه الأوقات، لأنها أزمان نزول الندى، وهو مقام الجود، يمرُّ به سحاب العناية "على باناتها"؛ اختصَّالبان من غيره لِما فيه من إشارة التنزيه والتفرقة والتمييز بين الحقائق، وأيده بقوله: "رائح": وهو الرجوع بالعشي، و"الغادي": المبكر، يقول: إنه يذهب بكرة ويعود عشية إلى ما منه غدا، فمابين الزمانين هو مقدار عمر السالك، والحال والمقام: ﴿وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الأمُورُ﴾ [البقرة: 210، آل عمران: 109، الأنفال: 44، الحج: 76، فاطر: 4، الحديد: 5]، و﴿تَصِيرُ الأمُورُ﴾ [الشورى: 53]، إشارة إلى هذا المقام، ﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ﴾ [هود: 123]، فسُمِّيَ رجوعاً لكونه منه خرج وإليه يعود، وفيم بين الخروج والعود وُضعت الموازين، ومُدَّ الصراط، ووقعت الدواعي، وظهرت الآفات، وكانت الرسل، وجاءت الأدواء؛ فمنهم المستعمِلُ لها، والآخذ بها، والتارك لها.

وقوله: "وما شئت من ظل ظليل"، إذ ما كلُّ ظلٍّ يكون ظليلا لكل مستظل، بل لآحاد، يقول له: إلا صاحب هذا المقام المحمدي الموسوي فإنه يظله كلُّ ظلّ، فكل ظلٍّ فهو له ظليل، لاستغراقه المقامات كلها، ويظهر هذا في موزونات الأعمال بما لها من الثواب، كما سبق بلالٌ النبي صلى الله عليه وسلم إلى الجنة من مداومته على الوضوء من كلِّ حدثٍ والصلاة عُقيبه [كنز العمال: 36877].

وقوله: "وما شئت من جنى"، وهو الاستثمار، مما يتلقاه الملقى إليه من الملقي، كالمريد من شيخه وأستاذه، وكالنبي من الملك، وهكذا كل تلقٍّما يُلقى يكون. والميادهو الملقي الذي هو المعلم،وما يحمله من المعارف كالثمر فيه.

و"الجاني": هو المحصل لهذه الثمرات من هذه الأغصان، بيد اللطف، لا بيد القهر، على طريق الأُلفة، لأنه قال: "شهي عند الجاني"، لأن فيه نيل الغرض.

وقوله: "من ناشد"، الناشد: الطالب، (و)"زرود ورملها"؛ يشير إلى المعارف الشوارد التي لا تنضبط للعالِم إلا وقت الشهود خاصة: ويقولون: ﴿ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ﴾، و﴿خَمْسَةٌ﴾، و﴿سَبْعَةٌ﴾، ثم قال (تعالى): ﴿مَايَعْلَمُهُمْ إِلاّ قَلِيلٌ﴾ [الكهف: 22]، وهم (أي: هؤلاء القليل هو) الخارجون من البشرية إلى عالم الأرواح واللطائف. وقد تقدم الإشارات بـ"الرمل" ما هي (كما شرح في البيت السادس من القصيدة رقم 18 والبيت الرابع عشر من القصيدة 20: "رملة زرود").

وقوله: "ومن منشد حاد وهاد"، الحادي هو الذي يسوق الركاب من خلف، والهادي هو الذي يقودها من أمام، فالسائق: هو الإشارة للآتي بالزجر والتهديد والرهبوت، فهو عبد القهَّار، والهادي: هو الإشارة للآتي بالرغَبوت والأُنس والملاطفة والوعد الجميل، فهو عبد اللطيف؛ فإن الناس يوم القيامة الكبرى إنما هم عبيد الأسماء الحسنى الإلهية، فمنهم عبد نعمة، ومنهم عبد نقمة، ومنهم عبد تنزيه، وتقديس، وما أشبه ذلك.

(وبالخلاصة) يقول: فكأن هذه المقامات كلِّها حاصلة لمن نودي في هذه الروضة بالوادي المقدس.

فتدبَّر ما أشير إليه تسعد إن شاء الله تعالى.



 

 

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!