موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

الذخائر والأعلاق في شرح ترجمان الأشواق

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

تحقيق الدكتور محمد حاج يوسف

 

 


24- القصيدة الرابعة والعشرين وهي أحد عشر بيتاً من البحر الكامل

وقال رضي الله عنه: وأنشدني بعض الفقراء بيت لا يَعرف له أخا، وهو:

كُلُّ الَّذِي يَرْجُو نَوَالَكَ أُمْطِرُو

***

مَا كَانَ بَرقُكَ خُلَّباً إِلَّا مَعِي

قال: فأعجبني مغناهوقفوت معناه، فعملت أبياتا في هذا الرًّويّ وضمَّنتها هذا البيت بكماله، إجابة لذلك الفقير رحمه الله، فقلت:

1

قِفْ بِالطُّلُولِ الدَّارِسَاتِ بِلَعْلَعِ

***

وَانْدُبْ أَحِبَّتَنَا بِذَاكَ الْبَلْقَعِ

2

قِفْ بِالدِّيَارِ وَنَادِهَا مُتَعَجِّباً

***

مِنْهَا بِحُسْنِ تَلَطُّفٍ بِتَفَجُّعِ

3

عَهْدِي بِمِثْلِي عِنْدَ بانِكَ قَاطِفاً

***

ثَمَرَ الْخُدُودِ وَوَرْدَ رَوْضٍ أَيْنَعِ

4

كُلُّ الَّذِي يَرْجُو نَوَالَكَ أُمْطِرُو

***

مَا كَانَ بَرقُكَ خُلَّباً إِلَّا مَعِي

5

قَالَتْ: نَعَمْ، قَدْ كَانَ ذَاكَ المُلْتَقَى

***

فِي ظِلِّ أَفْنَانِي بِأَخْصَبِ مَوْضِعِ

6

إِذْ كَانَ بَرْقْي مِنْ بُرُوقِ مَبَاسِمٍ

***

وَالْيَوْمَ بَرْقِي لَـمْعُ هٰذَا الْيَرْمُعِ

7

فَاعْتَبْ زَمَاناً مَا لَنَا مِنْ حِيلَة

***

فِي دَفْعِهِ، مَا ذَنْبُ مَنْزِلِ لَعْلَعِ

8

فَعَذَرْتُهَا لمَّا سَمِعْتُ جَوَابَهَ

***

تَشْكُو كَمَا أَشْكُو بِقَلْبٍ مُوجَعِ

9

وَسَأَلْتُهَا لمَّا رَأَيْتُ رُبُوعَهَ

***

مَسـرَى الرِّيَاحِ الذَّارِيَاتِ الْأَرْبَعِ

10

هَلْ أَخْبَرَتْكِ رِيَاحُهُمْ بِمَقِيلِهِمْ؟

***

قَالَتْ: نَعَمْ، قَالُوا: بِذَاتِ الْأَجْرَعِ

11

حَيْثُ الْخِيَامُ الْبِيضُ تُشْـرِقُ لِلَّذِي

***

تَحْوِيهِ مِنْ تِلْكَ الشُّمُوسِ الطُّلَّعِ

شرح البيت الأول:

1

قِفْ بِالطُّلُولِ الدَّارِسَاتِ بِلَعْلَعِ

***

وَانْدُبْ أَحِبَّتَنَا بِذَاكَ الْبَلْقَعِ

"الطلول": أثر منازل الأسماء الإلهية بقلوب العارفين هنا، و"الدارسات": المتغيرة بالأحوال لانتقالها من حال إلى حال بسبب تولعها، و"اندب"، يقول: وابك أحبتنا، يعني الأسماء الإلهية بذلك البلقع، يعني قلبه المنعوت بالتجريد، و(اندب) إفراغها من السكان الذين كانوا عمروها، وهي الخواطر الإلهية والملكية خاصة (وليس الخواطر النفسانية ولا الخواطر الشيطانية، [انظر في شرح البيت الرابع من القصيدة الثالثة]).

شرح البيت الثاني:

2

قِفْ بِالدِّيَارِ وَنَادِهَا مُتَعَجِّباً

***

مِنْهَا بِحُسْنِ تَلَطُّفٍ بِتَفَجُّعِ

يشير بـ"الديار" إلى المقامات، وقوله: "نادها متعجبا" لعدم النازل فيها مع ما يراه من حسنها وبهائها، وقوله: "بحسن تلطف بتفجع"، يقول: يستنزلها فيها مع مقام اللطف بحال المكلَّف بها الحزن لها لِما هي عليه من عدم النازل.

شرح البيت الثالث:

ثم أخذ يذكر ما قال لها:

3

عَهْدِي بِمِثْلِي عِنْدَ بانِكَ قَاطِفاً

***

ثَمَرَ الْخُدُودِ وَوَرْدَ رَوْضٍ أَيْنَعِ

يقول: كم شهدتُ من محبٍّ مشتاق بروضك، يقطف من ثمار معارف القيومية، يعني التخلُّق بها، فإنّ أصحابنا اختلفوا في التخلُّق بالقيومية، ومذهبنا التخلُّق بها، ومذهب ابن جنيد القبرفيقيوأتباعه لا يصح التخلق بها.

وقوله "ووردَ روض أينع": ما تحمله الوجنات من الحمرة يشير إلى مقام الحياء.

وقوله "أينع": يريد أنه نتيجة مراقبة ومشاهدة، طَرَأَ بطُرُوِّها (أي حدث بحدوثها)، كما قال الجناب الإلهي: ﴿مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ﴾ [الأنبياء: 2]، أي (محدثٍ) عندنا (وهو قديم في ذاته) لطُرُوِّه (عندنا) في وقت نزوله، وإن كان قبل ذلك موجوداً، لكن ليس عندنا.

شرح البيت الرابع:

ثم ذكر البيت الذي ضمنه في هذه القصيدة:

4

كُلُّ الَّذِي يَرْجُو نَوَالَكَ أُمْطِرُو

***

مَا كَانَ بَرقُكَ خُلَّباً إِلَّا مَعِي

يقول: كلُّ من طلب منك أمراً ناله، غيري! وذلك لعدم العناية. وفيه أيض إشارة في حق نفسه إلى مقام عالٍ ناله لم ينله أحد غيرُه من أمثاله؛ لأنَّ البرق مشهدٌ ذاتي، فإذا أَمْطَر فهو ما يحصل في قلب المشاهد من المعارف التي تُثمر، فنبَّهَ على أنه مشهد ذاتي في حجاب ممثَّل، كما قال في حق جبريل عليه السلام: ﴿فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا﴾ [مريم: 17]، فأفادها عيسى بهذا التمثُّل، كما أفاد هؤلاء(الذين أُمطروا) بالمطر في المشهد البرقي فُنونَ المعارف، إلاّ أنا، يقول: فإن برقك خُلَّبٌ، أي ليس يتحصَّلُ من هذا المشهد الذاتي علم في نفس المشاهد، لأنه تجلَّى في غير صورة مادِّيَّة، فلم يكن للخيال ما يَضبُطه به، فلم يكن للعقل ما يَعْقِله، إذ لا يدخل تحت كيفٍ، ولا كمٍّ، ولا حالٍ، ولا نعتٍ، ولا وصفٍ، لكنه في المقام الأوَّل ألْيقُ بالعاشق، والمقام الثاني أتمُّ للعارف.

شرح البيتين الخامس والسادس:

ثم أخذ ينبه على شرح المقام الأول أنّ التجلي إنما كان في الحجاب الممثَّل، فقال:

5

قَالَتْ: نَعَمْ، قَدْ كَانَ ذَاكَ المُلْتَقَى

***

فِي ظِلِّ أَفْنَانِي بِأَخْصَبِ مَوْضِعِ

6

إِذْ كَانَ بَرْقْي مِنْ بُرُوقِ مَبَاسِمٍ

***

وَالْيَوْمَ بَرْقِي لَـمْعُ هٰذَا الْيَرْمُعِ

يقول: قد قالت له هذه الصفة التي تجلت له: صدقت قد كان ذاك الملتقى مع المحبِّين من أمثالك وأشباهك في ظلّ أفناني، أي في رحمة عواطفي، بأكثر علم نافع بمقام تشبيه، وإن كان قدسيّا، إذ كان برقي، يقول: إذا كان التجلي مني - في صورة مثالية حسنة جميلة من مقام الابتهاج والسرور بظهور المباسم التي عنها ظهر هذ التجلي، فهو سبحاتها - دائما معك، فالتجلي في صورة جماديَّة، فإنّ "اليرمُع": حجارة برَّاقة، وهي في العادة غير معشوقة، يقول: فتجلَّيتلك (اليوم) في مقامٍ لا يتقيَّد بالمحبة والعشق، لأنه لا صورة له.

شرح البيت السابع:

7

فَاعْتَبْ زَمَاناً مَا لَنَا مِنْ حِيلَة

***

فِي دَفْعِهِ، مَا ذَنْبُ مَنْزِلِ لَعْلَعِ

يقول: لا عتب إلا على الزمان، يعني الحركات الفلكية الجارية بفراق الأحباب، يشير إلى قوله تعالى: ﴿وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ اَلْعُمُرِ﴾، وهو الهرم الكائن عن مرور الأزمان، ﴿لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا﴾ [الحج: 5]، وهو فراق الأحبة، أي أنّ المعارف محبوبة له، وقد حال بينه وبينها كرور الأدوار، فلا ذنب للمحلِّ، وإنما هو الذي أخلقه بعد جِدَّتِه.

شرح البيت الثامن:

8

فَعَذَرْتُهَا لمَّا سَمِعْتُ جَوَابَهَ

***

تَشْكُو كَمَا أَشْكُو بِقَلْبٍ مُوجَعِ

يريد قوله تعالى على لسان نبيه: «مَا تَرَدَّدْتُ فِي شَيْءٍ أَنَ فَاعِلُهُ كَتَرَدُّدِي فِي قَبْضِ رُوحِ عَبْدِيَ الْمُؤْمِنِ وَهُوَ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ لِقَائِي» [كنز العمال: 1156]، يريد أنّ ما سبق بكونه العلم، ولابدَّ من كونه، فتفطن لما أشرنا.

ولنا في هذا المعنى:

يحنُّ الحبيبُ إلى رؤيتي

***

وإني إليه أشدُّ حنين

وتهوى النفوسُ ويأبى القض

***

فأشكو الأنينَ ويشكو الأنين

شرح البيت التاسع:

ثم يقول:

9

وَسَأَلْتُهَا لمَّا رَأَيْتُ رُبُوعَهَ

***

مَسـرَى الرِّيَاحِ الذَّارِيَاتِ الْأَرْبَعِ

يقول: وسألتها لما رأيت ربوعها، يعني المحلَّ، تخترقه الأهواء الأربعة: الجنوب والشمال والصّبا والدّبور، ويشير إلى ما يأتيه من الأهواء: ﴿مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ﴾ [الأعراف: 17]، يريد عالم الأنفاس والأرواح التي تنسَّمَتْ من هذه الجهات من منازل الأسماء الإلهية.

شرح البيتين العاشر والحادي عشر:

10

هَلْ أَخْبَرَتْكِ رِيَاحُهُمْ بِمَقِيلِهِمْ؟

***

قَالَتْ: نَعَمْ، قَالُوا: بِذَاتِ الْأَجْرَعِ

11

حَيْثُ الْخِيَامُ الْبِيضُ تُشْـرِقُ لِلَّذِي

***

تَحْوِيهِ مِنْ تِلْكَ الشُّمُوسِ الطُّلَّعِ

يقول: هل أخبرتك هذه النسمات الإلهية حيث قالوا؛ يشير إلى مشهد قوله عليه الصلاة والسلام: «تَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الشَّمْسَ فِي الظَّهِيرَةِ (لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ)» [مسلم: 183]، وهو وقت القيلولة، ويؤيِّد ذلك قوله: "قالوا بذات الأجرع"، أي لِما فيه من تجريع الغُصَص بقوة سلطانه على المحلِّ، فيَلِجون - خوف الإحتراق من سبحات الأنوار - إلى الخيام البيض، يريد الحجب النورانية التي على السبحات الوجهية [القصيدة الثانية: البيت السادس]، قال: وأنوار هذه الخيام ليست منها، وإنما هو ما تجنُّهمن شموس المعارف بآفاق قلوبهم، فمن ذلك إشراقها وبياضها.



 

 

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!