The Greatest Master Muhyiddin Ibn al-Arabi
The Greatest Master Muhyiddin Ibn al-Arabi

الذخائر والأعلاق في شرح ترجمان الأشواق

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

تحقيق الدكتور محمد حاج يوسف

 

 


31- القصيدة الحادية والثلاثين وهي ستة عشر بيتاً من البحر المتقارب

وقال رضي الله عنه:

1

ضَاءَ بِذَاتِ الْأَضَا بَارِقٌ

***

مِنَ النُّورِ فِي جَوِّهَا خَافِقُ

2

وَصَلْصَلَ رَعْدُ مُنَاجَاتِهِ،

***

فَأَرْسَلَ مِدْرَارَهُ الْوَادِقُ

3

تَنَادَوْا: أَنِيخُوا، فَلَمْ يَسْمَعُو

***

فَصُحْتُ مِنَ الْوَجْدِ: يَا سَائِقُ

4

أَلَا فَانْزِلُوا هَاهُنَا، وَارْتَعُوا،

***

فَإِنِّي بِمَنْ عِنْدَكُمْ وَامِقُ

5

بِهَيْفَاءَ غَيْدَاءَ رَعْبُوبَة،

***

فُؤَادُ الشَّجِيِّ لَهَا تَائِقُ

6

يَفُوحُ النَّدَى لَدَى ذِكْرِهَا،

***

فَكُلُّ لِسَانٍ بِهَا نَاطِقُ

7

فَلَوْ أَنَّ مَجْلِسَهَا هَضْمَة،

***

وَمَعْقِدُهَا جَبَلٌ حَالِقُ

8

لَكَانَ الْقَرَارُ بِهَا حَالِقاً،

***

وَلَنْ يُدْرِكَ الْحَالِقَ الرَّامِقُ

9

فَكُلُّ خَرَابٍ بِهَا عَامِرٌ

***

وَكُلُّ سَرَابٍ بِهَا غَادِقُ

10

وَكُلُّ رِيَاضٍ بِهَا زَاهِرٌ،

***

وَكُلُّ شَرَابٍ بِهَا رَائِقُ

11

فَلَيْلِيَ مِنْ وَجْهِهَا مُشْـِرقٌ،

***

وَيَوْمِيَ مِنْ شَعْرِهَا غَاسِقُ

12

لَقَدْ فَلَقَتْ حَبَّة الْقَلْبِ إِذْ

***

رَمَاهَا بِأَسْهُمِهَا الْفَالِقُ

13

عُيُونٌ تَعَوَّدْنَ رَشْقَ الْحَشَا،

***

فَلَيْسَ يَطِيشُ لَهَا رَاشِقُ

14

فَمَا هَامَة فِي خَرَابِ الْبِقَاعِ،

***

وَلَا سَاقُ حُرٍّ، وَلَا نَاعِقُ

15

بَأَشْأَمَ مِنْ بَاذِلٍ رَحَّلُوا،

***

لِيَحْمِلَ مَنْ حُسْنُهُ فائقُ

16

وَيُتْرَكُ صَبًّا بِذَاتِ الْأَضَ

***

قَتِيلاً، وَفِي حُبِّهِمْ صَادِقُ

شرح البيتين الأول والثاني:

1

ضَاءَ بِذَاتِ الْأَضَا بَارِقٌ

***

مِنَ النُّورِ فِي جَوِّهَا خَافِقُ

2

وَصَلْصَلَ رَعْدُ مُنَاجَاتِهِ،

***

فَأَرْسَلَ مِدْرَارَهُ الْوَادِقُ

يقول: لاح لي مشهد ذاتي بذات الأضاء من تهامة، يريد بما أضاء لي مقام التواضع من الرفعة عنده، فإنه من تواضع للّه رفعه الله، فيظهر نور الرفعة للعارفين في عين التواضع، وهو مقام العبودية، ولهذا قال: "في جوها خافق" لِما كانت تتضمنه.

وقوله: "وصلصل رعد مناجاته"، البيت بكماله؛ يقول: وخاطبها مخاطبة تعليم وتفهيم، فكسبتمن العلوم التي كنّى عنها بـ"المدرار" على حسب ما اقتضاه الشهود.

شرح البيتين الثالث والرابع:

3

تَنَادَوْا: أَنِيخُوا، فَلَمْ يَسْمَعُو

***

فَصُحْتُ مِنَ الْوَجْدِ: يَا سَائِقُ

4

أَلَا فَانْزِلُوا هَاهُنَا، وَارْتَعُوا،

***

فَإِنِّي بِمَنْ عِنْدَكُمْ وَامِقُ

لَمَّا كانت العلوم ليست مطلوبة لأنفسها، وإنما تُطلب من حيث متعلَّقها، كان الشغف من العالم بالمتعلَّق لا بالعلم، وهو الذي أراد بقوله: "بمن عندكم"، يخاطب العلوم فإنّ عندها متعلَّقها، أي بكم أصل إليه.

وقوله "تنادوا أنيخوا": أي اثبتوا هاهنا عند من يطلبكم ويتعشَّق بكم، إذ ليس كلُّ قلب يطلب هذه العلوم، فكأنه مثل الناصح لها، أي انزلوا في محل من يهواكم ويفرح بقدومكم فتحظون وترفعون، يريد تبقون عنده، ألا ترى إلى العلوم التي تعطي الأعمال إذا كان صاحبها تاركا للعمل يمقته علمه، ويتمنى أنه لم يكن عنده، فإنّ حياة ذلك العلم العمليإنما هو العمل، فكأنه حصل عند من ليس له بأهل، كما ورد: «لَا تُعْطُوا الحِكْمَةَ غَيْرَ أَهْلِهَا فَتَظْلِمُوهَا» [انظر شرح البيت الثالث من القصيدة الثانية]، فقد نسب الظلم لمن جعل الشيء في غير أهله، وجعل ذلك الشيء مظلوما.

شرح البيتين الخامس والسادس:

5

بِهَيْفَاءَ غَيْدَاءَ رَعْبُوبَة،

***

فُؤَادُ الشَّجِيِّ لَهَا تَائِقُ

6

يَفُوحُ النَّدَى لَدَى ذِكْرِهَا،

***

فَكُلُّ لِسَانٍ بِهَا نَاطِقُ

يقول: متعلَّق هذا العلم صفة إذا تجلت في عالم التمثُّل كانت معتدلة الخلق، مائلة لمن يهواها، طرية الحسن، تتوق إليها الأفئدة التي نار الاصطلام تطَّلع عليها، ومهم ذُكرت في مجلس عطر المجلس ذكرها، لطيب ريّاها، فصارت معشوقة بـ"كل لسان"، فيرتاح للنطق بها، فكأنها صفة تأخذها العبارة، وسببه كونها ظهرت في عالم التمثُّل، فقيَّدها النعت، لكن يعلم السامع العالِم م أشار إليه المعبِّر في هذا النعت، كما عرف ما أشير به في اللبن من حقيقة العلم، والفطرة التوحيدية.

شرح البيتين السابع والثامن:

7

فَلَوْ أَنَّ مَجْلِسَهَا هَضْمَة،

***

وَمَعْقِدُهَا جَبَلٌ حَالِقُ

8

لَكَانَ الْقَرَارُ بِهَا حَالِقاً،

***

وَلَنْ يُدْرِكَ الْحَالِقَ الرَّامِقُ

يقول: من علوِّ شأنها يعلو بها كلّ من قامت به، يريد أنَّ كلَّ علم يوصلك إلى حيث متعلَّقِه، ولهذا العلم بالذات الإلهية لا يصح أصلاً، لأنه لا يوصلك إليه لعزتها، وإنما تصل إليك على قدرك في علمك بها، فتحقَّق، فلو كان مجلسها موضع منخفض ومقعدها جبل مرتفع لكان المنخفض بها مثل "الحالق" من غيرها، "والحالق لا يدركه الرامق" لعلوِّها، فكيف إذا اتفق أن تحلَّ في قلبٍ له من العلو بمنزلة الجبل الحالق، فأين ينتهى به من الرفعة والشأن قصد علو المكانة، كما قال (تعالى) في علو المكان الإدريسي: ﴿وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيًّا﴾ [مريم: 57].

شرح البيتين التاسع والعاشر:

9

فَكُلُّ خَرَابٍ بِهَا عَامِرٌ

***

وَكُلُّ سَرَابٍ بِهَا غَادِقُ

10

وَكُلُّ رِيَاضٍ بِهَا زَاهِرٌ،

***

وَكُلُّ شَرَابٍ بِهَا رَائِقُ

يقول: فكلُّ قلب خرب بالغفلات وأشباهها من رؤية الأكوان إذا حلت فيه أو تجلت له يعمر وانقادت إليه جميع العلوم كما ورد في خبر الضربة للنبي صلى الله عليه وسلم فعلم منها «علم الأولين والآخرين» [كنز العمال: 43545]، يقول: "وكل سراب به غادق"، يقول: إذا جئت إلى السراب وهو سراب يتخيل أنه ماء وتكون عندك هذه الصفة فإنك تجده ماء كما طلبته وكما رأيته، إذِ الماء لا يُطلب لعينه وإنما يطلب لما يكون منه، فإذا أعطاك السراب ما أعطاك الماء لوجود هذه الصفة، فقد وجدت الماء، أي وجدت المطلوب، كما قال (تعالى): ﴿وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ﴾ [النور: 39]، أي عند السراب حين لم يجده شيئا، يعني السراب. يقول: وهي من الرياض بمنزلة الأزهار التي تعطى لذة العيون والمشام، وهي ألطف من الأذواق الطعمية، أي لها أثر في عالم الأنفاس والشهود.

وقوله: "وكل شراب بها رائق"، أي كل ذوق حصل لك في مبادئ التجلي، فإنه يصفو ويروق ويحلو معناه بوجود هذه الصفة.

شرح البيت الحادي عشر:

11

فَلَيْلِيَ مِنْ وَجْهِهَا مُشْـِرقٌ،

***

وَيَوْمِيَ مِنْ شَعْرِهَا غَاسِقُ

يقول: وقد حصل لي بها علم الغيب من شَعرها، وعلم الشهادة من وجهها، فأشرق ليل هيكلي الطبيعي من نورها، وصار عالم شهادتي بوجودها عينا عند النظر، أي حصل لي من القوة بحيث أن أظهر في الصور المختلفة كعالَم الغيب، كما هو الخضر وبعض الأولياء، كقضيب البان وغيره.

شرح البيتين الثاني عشر والثالث عشر:

12

لَقَدْ فَلَقَتْ حَبَّة الْقَلْبِ إِذْ

***

رَمَاهَا بِأَسْهُمِهَا الْفَالِقُ

13

عُيُونٌ تَعَوَّدْنَ رَشْقَ الْحَشَا،

***

فَلَيْسَ يَطِيشُ لَهَا رَاشِقُ

يقول: هذه النكتة "فلقت حبة القلب" حين رماها بها الفالق سبحانه، من قوله (تعالى): ﴿فَالِقُ اَلْحَبِّ وَاَلنَّوى﴾ [الأنعام: 95]، و﴿فَالِقُ الإِصْبَاحِ﴾ [الأنعام: 96]، بما أظهرفي حبة القلب عندما فلقها من العلوم والتجليات.

وقوله: "عيون"، يعني المناظر العلوية، تعوَّدن إصابة القلوب التي له تعشُّق بها، وتعلُّق، فهي ترميها بما عندها من العلوم والهبات، فتصيبها ولا تخطيها، فإنّ الرقيقة الممتدة بين القلوب وبين هذه المناظر متصلة اتصال الدخان بالسراج من رأس الفتيلة.

شرح الأبيات من الرابع عشر إلى السادس عشر:

14

فَمَا هَامَة فِي خَرَابِ الْبِقَاعِ،

***

وَلَا سَاقُ حُرٍّ، وَلَا نَاعِقُ

15

بَأَشْأَمَ مِنْ بَاذِلٍ رَحَّلُوا،

***

لِيَحْمِلَ مَنْ حُسْنُهُ فائقُ

16

وَيُتْرَكُ صَبًّا بِذَاتِ الْأَضَ

***

قَتِيلاً، وَفِي حُبِّهِمْ صَادِقُ

يقول: لا شيء "أشأم" من حالة تحول بينك وبين هذه الصفة الإلهية التي تحيى القلوب بوجودها، فإنّ الحال إذا قام بالقلب ملكه، ويبقى السرّ الرباني الذي أضاء له هذا المشهد الذاتي طريحا لا معين له، على دوام ما قد لاح له مع صدقه في التوجُّه إليه، وذلك لطريان هذا الشؤم الذي كنّى عنه بـ"الباذل"، وجعله حاملا لهذه الصفة المحبوبة، لكونه حال بينه وبينها بحلوله.



 

 

البحث في نص الكتاب



Please note that some contents are translated Semi-Automatically!