The Greatest Master Muhyiddin Ibn al-Arabi
The Greatest Master Muhyiddin Ibn al-Arabi

الذخائر والأعلاق في شرح ترجمان الأشواق

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

تحقيق الدكتور محمد حاج يوسف

 

 


3- القصيدة الثالثة وهي عشرة أبيات من البحر الطويل

وقال رضي الله عنه:

1

خَلِيلَيَّ عُوجَا بِالْكَثِيبِ وَعَرِّجَ

***

عَلى لَعْلَعٍ، وَاطْلُبْ مِيَاهَ يَلَمْلَمِ

2

فَإِنَّ بِهَا مَنْ قَدْ عَلِمْتَ، وَمَنْ لَهُمْ

***

صِيَامِي وَحَجِّي وَاعْتِمَارِي وَمَوْسِمِي

3

فَلَمْ أَنْسَ يَوْماً بِالمُحَصِّبِ مِنْ مِنىً

***

وَبِالِمنْحَرِ الْأَعْلى أُمُوراً، وَزَمْزَمِ

4

مُحَصِّبُهُمْ قَلْبِي لَرَمْيِ جِمَارِهِمْ

***

وَمَنْحَرُهُمْ نَفْسِـي وَمَشْـرَبُهُمْ دَمِي

5

فَيَا حَادِيَ الْأَجْمَالِ إِنْ جِئْتَ حَاجِراً

***

فَقِفْ بِالْمطَايَا سَاعَةً ثُمَّ سَلِّمِ

6

وَنَادِ الْقِبَابَ الحُمْرَ مِنْ جَانِبِ الْحِمَى

***

تَحِيَّة مُشْتَاقٍ إِلَيْكُمْ مُتَيَّمِ

7

فَإِنْ سَلَّمُوا فَاهْدِ السَّلامَ مَعَ الصَّبَ

***

وَإِنْ سَكَتُوا فَارْحَلْ بِهَا وَتَقَدَّمِ

8

إِلى نَهْرِ عـِيسى حَيْثُ حَلَّتْ رِكَابُهُمْ،

***

وَحَيْثُ الْخِيَامُ الْبِيضِ مِنْ جَانِبِ الْفَمِ

9

وَنَادِ بِدَعْدٍ وَالرَّبَابِ وَزَيْنَبٍ

***

وَهِنْدٍ وَسَلْمى ثُمَّ لُبْنَى وَزَمْزَمِ

10

وَسَلْهُنَّ هَلْ بِالْحَلْبَة الغَادَة الَّتِي

***

تُرِيكَ سَنَا الْبَيْضَاءِ عِنْدَ التَّبَسُّمِ

شرح البيت الأول:

1

خَلِيلَيَّ عُوجَا بِالْكَثِيبِ وَعَرِّجَ

***

عَلى لَعْلَعٍ، وَاطْلُبْ مِيَاهَ يَلَمْلَمِ

يخاطب (بقوله: "خليليَّ") عقله وإيمانه، أن يعوجا "بالكثيب"، الذي هو محلُّ المشاهدة التي نصَّ عليها الشرع [كنز العمال: 21063]، و"عرِّجا" قبل الوصول على "لعلع"؛ موضعُ حالِ دهش وحيرة وتولَّع، لِتقعَ الرؤية عن محبَّة وشوق. "واطلب مياه يلملم"؛ جهةٌ يمانية، أي ردّ عليّ موطن الحياة إذ كان من الماءِ كلُّ شيءٍ حيّ (إشارة إلى الآية 30 من سورة الأنبياء)، ولَمَّا كانت الأنفاس يَمَنِيَّةفلتكن الحياة أيضاً من مُناسبة (موضع يَلملم الذي في) هذه الجهة (اليمانية)، للمشاكلة (بين الماء والحياة).

شرح البيتين الثاني والثالث:

ثم قال:

2

فَإِنَّ بِهَا مَنْ قَدْ عَلِمْتَ، وَمَنْ لَهُمْ

***

صِيَامِي وَحَجِّي وَاعْتِمَارِي وَمَوْسِمِي

3

فَلَمْ أَنْسَ يَوْماً بِالمُحَصِّبِ مِنْ مِنىً

***

وَبِالِمنْحَرِ الْأَعْلى أُمُوراً، وَزَمْزَمِ

أفرد الخطاب (بقوله: علمتَ، بعد أن قال: خليليَّ)، يريد الإيمان، دون العقل، فإن العلم بالذات، وما تستحقه من النعوت، إنما هو من طريق الإيمان، لا من طريق العقل، فلهذا قال: "من قد علمتَ"، ولم يقل: "علمتُما"، والضمير في "بها" يعود على "المياه"، فإنها التي تُعلم، لا على الذات، إذِ الذات تُرى ولا تُعلم، لأنها لو عُلمت أُحيط بها، وهو سبحانه لا يحيط به علم، تقدَّس وتعالى عن أن يحيط به علمُ الممكن، أو تكون ذاته تعطي الإحاطة، فهو المحيط (من قوله تعالى: ﴿وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطًا﴾ [النساء: 126] وأمثالها)، ولا يحيط به شيء (من قوله تعالى: ﴿وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء﴾ [البقرة: 255])، إذ لو أحاط به شيء لحصره ذلك الشيء.

ثم قال: "وَمَن لهم"؛ خطابا للنعوتِ الإلهية، وقوله: "صيامي"، يريد صفة الصمدانية، كما قال تعالى: «الصَّوْمُ لِي» [كنز العمال: 23576]، أي: الصمدانية للعبد لا تصح، ولا يستحقُّها، والصوم له مُدخلٌ فيها، لأنه إمساكٌ عن الطعام والغذاء. وقوله: "وحجّي"، يريد تكرار القصد بالتوجُّه إلى هذه الذات المنزَّهة، من أجل دعاء الأسماء الإلهية في كلِّ نَفَسٍ وحين. وقوله: "واعتماري"، يريد: فزياراتي إليها في وقت شوقي وطلبي؛ والعلة دائمة والزيارة دائمة، لا يَزال العبد مع الأنفاس حاجّا ومعتمراً، لأنَّهُ في كلِّ نَفَس في انتقال من اسمٍ إلهي إلى اسم إلهي. وقوله: "وموسمي"، كم قال الآخرحين جعله عيده، ولَمَّا كان الموسم عبارة عن محلٍّ مكاني وزماني، تجتمع فيه قبائل مختلفة، لمقصد واحد، بلغات مختلفة، تدلُّ على معنى واحد؛ جعله عيده. كذلك مقامات هذا العبد وأحواله، والحقائق الإلهية؛ إذا حصل القلب في محلِّ الجمع لِما ذكرناه كان ذلك موسمه وعيده. وإنما سمي "موسما" من حيث السِّمَة، أي إنه علامة على تحصيل هذا المقام الجمعي، وسمي "عيد" لعوده على بدئه، لأنَّ الأمر فيه دوري، وإن كانت الواردات الإلهية لا تتناهى، فالمقامات - بلا شكٍّ - تتناهى.

وقوله: "فلا أنس يوماً"، يقول: تخلُّقًا إلهيًّا، من مقام «كُنْتُ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ» [البخاري: 6502]، فنبَّه على أنه أيضا قد حصل في مقام ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾ [مريم: 64]، تخلُّقا إلهيًّا واعتناءً به. (وكنَّى عن التخلُّق الإلهيّ بـ"اليوم" من قوله تعالى: ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾ [الرحمن: 29]، فأيَّامُ الله هي الشؤون التي تُنتج الأحوال للخلق وترفعهم من مقام إلى مقام، فإذا تخلَّق العارف بخُلُقٍ إلهي وهبه الله إيَّاه اعتناءً به، فكيف ينسى ذلك اليوم! وكلمة "يوم" تعني الوقت، وتعني الحدث، وتعني الواقعة).

وقوله: "بالمحصّب من منى"، الذي هو موضع رمي الجمار. يقول: "فلا أنس يومًا" بمقام قوله (تعالى): ﴿فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً﴾ [البقرة: 200]، أي ارمواذِكر آبائكم - في هذا الموطن - مِن قلوبكم وألسنتكم، فإنَّ قوله تعالى: ﴿أَنِ اُشْكُرْ لِي ولِوالِدَيْكَ﴾ [لقمان: 14]؛ إنَّما ذلك في مقام إيجاد عينِ العبد، حيث كان إيجاده عند سبب اجتماع والديه بالنكاح، وتعمُّلهمافي إيجاده، (فقد أمره الله تعالى بشكرهما في هذا المقام الأول) وهذا (المقام الثاني: في "مِنى") ما هو ذلك المقام (الأول)، فلا يلزم هنا هذا الدَّخْل (أي الاختلاط والتشويش) على من قيل له اطرح ذكر آبائك هنا، فإنَّ كلَّ مقامٍ يعطي حقيقته.

وذَكر "مِنى" لأنه من باب الأماني، وقد قيل: ولا تغرَّنَّكم الأماني (إشارة إلى قوله تعالى في الآية 14 من سورة الحديد). وقوله: "وبالمنحر الأعلى"، يشير إلى القربان، كما قال (الحلاج): "تُهْدَى الأضاحي وأُهْدِي مُهْجَتِي وَدَمِي"، يعني نفسه. وقوله: "أمورا"، يشير إلى ما يذْكُره في البيت الثاني (أي التالي)، وقوله: "وزمزم"، يريد الحياة الأبدية.

شرح البيت الرابع:

4

مُحَصِّبُهُمْ قَلْبِي لَرَمْيِ جِمَارِهِمْ

***

وَمَنْحَرُهُمْ نَفْسِـي وَمَشْـرَبُهُمْ دَمِي

الضمير بـ"محصبهم" وغيره في هذا البيت يعود على الحقائق الإلهية، فإنه الواردة على القلب بهذه الصفات كلِّها؛ فرمي جمارهم هو ما يحصبونبه الخواطر النفسانية والشيطانية، وإن كانت (حقائق) إلهية،ولكن من حيث المحلِّ الذي وردت على هذا القلب منه، لذلك كان المُحَصِّب، ولذلك توجَّهَ الذمَّ؛ كما قال (تعالى): ﴿وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَة فَمِنْ نَفْسِكَ﴾ [النساء: 79]، وقال (تعالى): ﴿كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَمَا لِهؤُلاءِ اَلْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً﴾ [النساء: 78]، إشارة لما جرى قديما، يقول: فم لهؤلاء المعترضين لا يفقهون ما حدَّثناهم به من أنَّ الكُلَّ من عندنا، ذمًّ وحمدًا؛ فلماذا لايذمُّون ما سميناه مذمومًا، ويحمدون ما سميناه محمودا، وينظرون الأشياء من حيث م علَّمناهم، و(من حيث ما) وضعناها، لا من حيث إسنادِها إلينا بحكم الإيجاد.

وقوله: "ومنحرهم نفسي"، يريد قربانها، كما قلنا (في قصيدة أخرى):

وأهدى عن القربان نفسا معيبة

***

وهل ريء خلق بالعيوب تقرُّب

والحكاية مشهورة في الفتى الذي قرَّب نفسه بمنى، بهمَّتِه، حين رأى الناس قرَّبو قرابينهم، فجعل نفسه قربانه، فمات من حينه.

وقوله: "ومشربهم دمي"، وأن الدم لما كان سريانه في العروق سبب الحياة الحيوانية كنّى عنه بالشرب؛ فإن الماء جعله الله سببا لكل شيء حي، فقال (تعالى): ﴿وجَعَلْنَا مِنَ اَلْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ [الأنبياء: 30].

شرح البيت الخامس:

ثم قال:

5

فَيَا حَادِيَ الْأَجْمَالِ إِنْ جِئْتَ حَاجِراً

***

فَقِفْ بِالْمطَايَا سَاعَةً ثُمَّ سَلِّمِ

"الحادي": هو الذي يسوق الإبل من خلفها، و"الهادي": هو الذي بيده زمامُها (أي يقودها من أمامها)، فهو يخاطب الشوق الذي يحدو بالهِمم (من خلفها فيسوقَها) إلى منازل الأحبة.

وقوله: "إن جئت حاجرا"؛ "الحاجر": العقل، والطريق إنما هو بالإيمان والمشاهدة لا بالعقل من حيث قوة فكره، بل هو من جهة عِرفانه وإيمانِه، و"الحاجر" هو الحاجز بين الشيئين ليتميَّزا، والأحبة قد حجرو على نفوسهم وأعيانهم (جمع "عين"، أي: "ذات") ليمتازوا عن سائر المقصودين، فإنه قد يُقصدالشيء من كونه محبوباً، أو سبَبَاً لاتِّصالٍ بمحبوب.

ثم إنه أمر لهذا الحادي، الذي هو الشوق، بالسلام على منازل الأحبة، ولكن بعد "وقوف ساعةً"، وذلك أنّ المحب إذا ورد على منزل الأحبة أخذه دهش وحيرة في أوَّل وروده، وربما غَشِي عليه، فيدركه كذلك تبلبل، فلا يوفِّي الأدب في السلام مع هذ الدهش، فقال له: قف ساعة، حتى يزول عنك الدهش والبهت فتعرف ما تستحقُّهُ الأحبَّة من الأدب في السلام، وحينئذ (سلِّم)، كما قالت العامة: "لكل داخل دهشة"، وهذ (القول صحيح عن) ذوق محقق.

شرح البيت السادس:

6

وَنَادِ الْقِبَابَ الحُمْرَ مِنْ جَانِبِ الْحِمَى

***

تَحِيَّة مُشْتَاقٍ إِلَيْكُمْ مُتَيَّمِ

(ثم) يقول لشوقه: إذا سلَّمتَ ونظرتَ إلى اختلاف ألوان القباب، فلا تنادِ منها إلاّ "القبابَ الحمر"، فإنها محلَّ الجمال، والمخصوصة بالعرائس المخدَّرات. ولهذا يقول: حين ذُكرت الألوان، فقالت (العلماء) في الخضرة: إنها أنْبَل، وقالت في السواد: إنه أهْوَل، وقالت في البياض: إنه أفْضَل، وقالت في الحمرة: إنها أجْمَل. ولذا قال رحماناليمامة مسيلمة الكذاب حين قصدته سجاح بعساكرها، فقال: "انصبوا لها القبة الحمراء، فإنها إذا رأتها تشتهي النكاح!"،وخلا بها فيها. ولهذا «نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رُكُوبِ الْمَيَاثِرِ الْحُمْرِ» [البخاري: 5838، والمياثر هي مراكب من ديباج أو حرير]، فلِما كان فيها هذا السؤال الشهواني. لهذا جعلناها قبابَ الأحبة؛ لأنّ الحبَّ أعظم شهوة وأكملها.

وقوله: "من جانب الحمى"؛ يقول: إنها عزيزة المنازل لحجاب العِزَّة الأحمى، إلا عنمن هو أهلٌ لها، وهي أهل له؛ كما قال (الشاعر) الآخر:

فلم تَكُ تَصْلُحُ إِلاَّ له

***

ولم يَكُ يَصُلُحُ إِلاَّ له

ولَوْ رامها أَحَدٌ غَيْرُهُ

***

لَزُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلَزَالَه

وجعلها "قبة" لكون الشكل الكُرِّيأفضل الأشكال، وأوَّل الأشكال، فيقول: إنّ الأحبة في المنازل الأُوَل، التي هي عند الحق، لا عند شيء، فهي من عالم الأمر، والشكل الكرِّي ليس له أوَّل ولا آخر إل بحكم الفرض فيه، كذلك هؤلاء الأحبَّة الذين هم الحقائق الإلهية، الأمر فيها دوري أكْرّي.

شرح البيت السابع:

قال:

7

فَإِنْ سَلَّمُوا فَاهْدِ السَّلامَ مَعَ الصَّبَ

***

وَإِنْ سَكَتُوا فَارْحَلْ بِهَا وَتَقَدَّمِ

يقول: إن ردوا عليك السلام، فتعرف أنك من أهلهم، وممن أهِّل لهم؛ فابعث سلامهم مع عالم الأنفاس من مقام الميل، فإنّ "الصَّبا" الميل، فلهذا قصد الصَّب (من بين أنواع الرياح) دون الجنوب والشمال وغيرها، أي: اهد السلام مع من ترى من عالم الأنفاس مائلا إلى جهتنا.

وقوله: "وإن سكتوا"، يقول: إن لم يردوا عليك السلام فتعلم أنك لست ممن أُهِّلَ لأهل تلك المنازل ولا أُهِّلَتْ لك، فارحل واطلب منازلَ غيرها ممن أًهِّلْتَ لها وأُهِّلَتْ لك، ولكن قُدُماً! لا ترجع وراءك، تحرُّزاً ممن قيل لهم: ﴿ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا﴾ [الحديد: 13].

شرح البيت الثامن:

8

إِلى نَهْرِ عـِيسى حَيْثُ حَلَّتْ رِكَابُهُمْ،

***

وَحَيْثُ الْخِيَامُ الْبِيضِ مِنْ جَانِبِ الْفَمِ

يعني فَمَ النهر.

يقول: "تقدم إلى نهر عيسى"، أي العلم المتسع العيسوي المشهد، فافعل معه م فعلت مع القباب الحمر، وجعل خيام هؤلاء الأحبة بيضاً، لأنه مقام عيسوي نزيه عن الشهوة النكاحية، فإنه كان عن غير نكاح بشري، فلهذا كان أبيض ولم يكن أحمر. يقول: ويكون مجيئك لهذا العلم العيسوي "من جانب الفم"، أي من جانب الفهوانية واللسن، ولذلك أعطي (عيسى عليه السلام التكوين بالأمر) "كن" (فكان يخلق من الطين بإذن الله، ويحيي الموتى بإذن الله، ويبرئ المرضى بإذن الله، كما قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِىءُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي﴾ [المائدة: 110]).

شرح البيت التاسع:

9

وَنَادِ بِدَعْدٍ وَالرَّبَابِ وَزَيْنَبٍ

***

وَهِنْدٍ وَسَلْمى ثُمَّ لُبْنَى وَزَمْزَمِ

يقول: إذا وصلت إلى المنازل فناد بأسماء هذه الحقائق الإلهية، على اختلافها، حتى يجيئَك منها ما هو لك، فتعرف عند ذلك مقامك منها ما هو. فكنّى عنه بهذه الكنايات من أسماء محبوبات الأعراب.

وقوله: "وزمزم" يريد: قُم في مقام السماع لهم، فإن السماع منشأ الوجود، فإن كلَّ موجود يهتز، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَا أَذِنَ اللهُ لِشَيْءٍ كَإِذْنِهِ لِمَنْ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ (يَجْهَرُ بِهِ)» [كنز العمال: 2763]، فانظر منظر هذه الحقيقة الإلهية في الإصغاء الإلهي لصاحب هذا المقام، وهذ الحديث يقوي أحد محتملات قوله عليه الصلاة والسلام: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ (يَجْهَرُ بِهِ)» [كنز العمال: 2769]، فهو من الغِناء، ل من الاستغناء، (و"أَذِنَ" هنا بمعنى: اسْتَمَعَ).

شرح البيت العاشر:

ثم قال:

10

وَسَلْهُنَّ هَلْ بِالْحَلْبَة الغَادَة الَّتِي

***

تُرِيكَ سَنَا الْبَيْضَاءِ عِنْدَ التَّبَسُّمِ

"الحلبة": محلَّة ببغداد، و"الغادة": المائلة، و"البيضاء": اسم من أسماء الشمس.

يقول: وسل من ناديت من الحقائق الإلهية والنعوت الأزلية (ممن ذكر في البيت السابق): هل بالحلبة، والحلبة (كذلك) مجاري الخيل في السباق، فإنّ الحقائق الإلهية تتسابق إلى الكيان لتظهر آثارها فيظهر سلطانها فيهم، ولهذا أسماها: "غادة"، أي مائلة إلى الكون، ثم وصفها بأن لها نور الشمس إذا ابتسمت. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «(إنَّكُمْ) سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ فِي الْجَنَّةِ كَمَا تَرَوْنَ الشَّمْسَ فِي الظَّهِيرَةِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ (وَكَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ صَحْوًا لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ)» [مسلم: 183]، فأوقع التشبيه في الرؤية لا في الشمس (أي: ترونه كما ترون الشمس، وليس: ترونه كالشمس). وكنتَ في مقام عيسوي (الذي كنّى عنه في البيت الثامن بالقباب البيض)، وأنت الآن تسأل عن مقام إدريسي علوي قطبي، فإن له السماء الرابعة (وهي سماء الشمس، التي سمَّاها "البيضاء" هنا)، ثم ذكر التبسُّم في هذا المقام؛ يشير إلى مقام البسط، فإن المقامات العليَّة لَمَّا كانت الهيبة تستصحبها لم يتمكن القادم عليها أن ينبسط لسموِّها وعلوِّها، فإذا وقع منها حالة التبسُّم بَسَطَت العبد، وانشرح القلب، وعرف أنها معه في مقام الأنس والجمال.



 

 

البحث في نص الكتاب



Bazı içeriklerin Yarı Otomatik olarak çevrildiğini lütfen unutmayın!