المكتبة الأكبرية: القرآن الكريم: سورة البقرة: [الآية 138]
سورة البقرة | ||
تفسير الجلالين:
تفسير الشيخ محي الدين:
لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286)
أصل التكاليف مشتق من الكلف وهي المشقات «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها» وهو ما آتاها من التمكن الذي هو وسعها ، فقد خلق سبحانه لنا التمكن من فعل بعض الأعمال ، نجد ذلك من نفوسنا ولا ننكره ، وهي الحركة الاختيارية ، كما جعل سبحانه فينا المانع من بعض الأفعال الظاهرة فينا ، ونجد ذلك من نفوسنا ، كحركة المرتعش الذي لا اختيار للمرتعش فيها ، وبذلك القدر من التمكن الذي يجده الإنسان في نفسه صح أن يكون مكلفا ، ولا يحقق الإنسان بعقله لما ذا يرجع ذلك التمكن ، هل لكونه قادرا أو لكونه مختارا ؟ وإن كان مجبورا في اختياره ، ولا يمكن رفع الخلاف في هذه المسألة ، فإنها من المسائل المعقولة ولا يعرف الحق فيها إلا بالكشف ، وإذا بذلت النفس الوسع في طاعة اللّه لم يقم عليها حجة ،
فإن اللّه أجلّ أن يكلف نفسا إلا وسعها ، ولذلك كان الاجتهاد في الفروع والأصول «لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ» لما كانت النفوس ولاة الحق على الجوارح ، والجوارح مأمورة مجبورة غير مختارة فيما تصرف فيه ، مطيعة بكل وجه ، والنفوس ليست كذلك ، فإذا عملت لغير عبادة لا يقبل العمل من حيث القاصد لوقوعه الذي هو النفس المكلفة ، لكن من حيث أن العمل صدر من الجوارح أو من جارحة مخصوصة ، فإنها تجزى به تلك الجارحة ، فيقبل العمل لمن ظهر منه ولا يعود منه على النفس الآمرة به للجوارح شيء إذا كان العمل خيرا بالصورة كصلاة المرائي والمنافق وجميع ما يظهر على جوارحه من أفعال الخير الذي لم تقصد به النفس عبادة ، وأما أعمال الشر المنهي عنها فإن النفس تجزى بها للقصد ، والجوارح لا تجزى بها لأنها ليس في قوتها الامتناع عما تريد النفوس بها من الحركات ، فإنها مجبورة على السمع والطاعة لها ، فإن جارت النفوس فعليها ، وللجوارح رفع الحرج ، بل لهم الخير الأتم ، وإن عدلت النفوس فلها وللجوارح ، لذلك قال تعالى : «لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ» فميز اللّه بين الكسب والاكتساب باللام وعلى ، وهذه الآية بشرى من اللّه حيث جعل المخالفة اكتسابا والطاعة كسبا ، فقال : «لَها ما كَسَبَتْ» فأوجبه لها .
وقال في المعصية والمخالفة : «وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ» فما أوجب لها الأخذ بما اكتسبته ، فالاكتساب ما هو حق لها فتستحقه ، فتستحق الكسب ولا تستحق الاكتساب ، والحق لا يعامل إلا بالاستحقاق ، والعفو من اللّه يحكم على الأخذ بالجريمة «رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا» اعلم أن الرحمة أبطنها اللّه في النسيان الموجود في العالم ، وأنه لو لم يكن لعظم الأمر وشق ، وفيما يقع فيه التذكر كفاية ، وأصل هذا وضع الحجاب بين العالم وبين اللّه في موطن التكليف ، إذ كانت المعاصي والمخالفات مقدرة في علم اللّه فلا بد من وقوعها من العبد ضرورة ، فلو وقعت مع التجلي والكشف لكان مبالغة في قلة الحياء من اللّه حيث يشهده ويراه ، والقدر حاكم بالوقوع فاحتجب رحمة بالخلق لعظيم المصاب ، قال صلّى اللّه عليه وسلم:
إن اللّه إذا أراد نفاذ قضائه وقدره سلب ذوي العقول عقولهم ، حتى إذا أمضى فيهم قضاءه وقدره ردها عليهم ليعتبروا ، وقال صلّى اللّه عليه وسلم : رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ، فلا يؤاخذهم اللّه به في الدنيا ولا في الآخرة ، فأما في الآخرة فمجمع عليه من الكل ، وأما في الدنيا فأجمعوا على رفع الذنب ، واختلفوا في الحكم ، وكذلك في الخطأ على قدر ما شرع الشارع في
أشخاص المسائل ، مثل الإفطار ناسيا في رمضان وغير ذلك من المسائل ، فإن اللّه تعالى الذي شرع المعصية والطاعة وبيّن حكمهما ، رفع حكم الأخذ بالمعصية في حق الناسي والمخطئ «رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا ، رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ» وهذا تعليم من الحق لنا أن نسأله في أن لا يقع منه في المستقبل ما لم يقع في الحال ، «وَاعْفُ عَنَّا» أي كثر خيرك لنا وقلل بلاءك عنا ، أي قلل ما ينبغي أن يقلل وكثر ما ينبغي أن يكثر ، فإن العفو من الأضداد يطلق بإزاء الكثرة والقلة ، وليس إلا عفوك عن خطايانا التي طلبنا منك أن تسترنا عنها حتى لا تصيبنا ، وهو قولنا : «وَاغْفِرْ لَنا» أي استرنا من المخالفات حتى لا تعرف مكاننا فتقصدنا «وَارْحَمْنا» برحمة الامتنان ورحمة الوجوب ، أي برحمة الاختصاص.
------------
(286) التنزلات الموصلية - الفتوحات ج 1 / 341 - ج 2 / 381 - ج 3 / 348 ، 123 ، 511 - ج 2 / 535 ، 684 - ج 3 / 381 - ج 1 / 435 ، 434تفسير ابن كثير:
وقوله : ( صبغة الله ) قال الضحاك ، عن ابن عباس : دين الله . وكذا روي عن مجاهد ، وأبي العالية ، وعكرمة ، وإبراهيم ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك ، وعبد الله بن كثير ، وعطية العوفي ، والربيع بن أنس ، والسدي ، نحو ذلك .
وانتصاب ( صبغة الله ) إما على الإغراء كقوله ( فطرة الله ) [ الروم : 30 ] أي : الزموا ذلك عليكموه . وقال بعضهم : بدل من قوله : ( ملة إبراهيم ) وقال سيبويه : هو مصدر مؤكد انتصب عن قوله : ( آمنا بالله ) كقوله ) واعبدوا الله ) [ النساء : 36 ] .
وقد ورد في حديث رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه ، من رواية أشعث بن إسحاق عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس أن نبي الله قال : " إن بني إسرائيل قالوا : يا موسى ، هل يصبغ ربك ؟ فقال : اتقوا الله . فناداه ربه : يا موسى ، سألوك هل يصبغ ربك ؟ فقل : نعم ، أنا أصبغ الألوان : الأحمر والأبيض والأسود ، والألوان كلها من صبغي " . وأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم : ( صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ) .
كذا وقع في رواية ابن مردويه مرفوعا ، وهو في رواية ابن أبي حاتم موقوف ، وهو أشبه ، إن صح إسناده ، والله أعلم .
تفسير الطبري :
التفسير الميسّر:
تفسير السعدي
: الزموا صبغة الله, وهو دينه, وقوموا به قياما تاما, بجميع أعماله الظاهرة والباطنة, وجميع عقائده في جميع الأوقات, حتى يكون لكم صبغة, وصفة من صفاتكم، فإذا كان صفة من صفاتكم, أوجب ذلك لكم الانقياد لأوامره, طوعا واختيارا ومحبة, وصار الدين طبيعة لكم بمنزلة الصبغ التام للثوب الذي صار له صفة, فحصلت لكم السعادة الدنيوية والأخروية, لحث الدين على مكارم الأخلاق, ومحاسن الأعمال, ومعالي الأمور، فلهذا قال - على سبيل التعجب المتقرر للعقول الزكية-: { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً } أي: لا أحسن صبغة من صبغته وإذا أردت أن تعرف نموذجا يبين لك الفرق بين صبغة الله وبين غيرها من الصبغ, فقس الشيء بضده، فكيف ترى في عبد آمن بربه إيمانا صحيحا, أثر معه خضوع القلب وانقياد الجوارح، فلم يزل يتحلى بكل وصف حسن, وفعل جميل, وخلق كامل, ونعت جليل، ويتخلى من كل وصف قبيح, ورذيلة وعيب، فوصفه: الصدق في قوله وفعله, والصبر والحلم, والعفة, والشجاعة, والإحسان القولي والفعلي, ومحبة الله وخشيته, وخوفه, ورجاؤه، فحاله الإخلاص للمعبود, والإحسان لعبيده، فقسه بعبد كفر بربه, وشرد عنه, وأقبل على غيره من المخلوقين فاتصف بالصفات القبيحة, من الكفر, والشرك والكذب, والخيانة, والمكر, والخداع, وعدم العفة, والإساءة إلى الخلق, في أقواله, وأفعاله، فلا إخلاص للمعبود, ولا إحسان إلى عبيده. فإنه يظهر لك الفرق العظيم بينهما, ويتبين لك أنه لا أحسن صبغة من صبغة الله, وفي ضمنه أنه لا أقبح صبغة ممن انصبغ بغير دينه. وفي قوله: { وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ } بيان لهذه الصبغة, وهي القيام بهذين الأصلين: الإخلاص والمتابعة, لأن " العبادة " اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال, والأقوال الظاهرة والباطنة، ولا تكون كذلك, حتى يشرعها الله على لسان رسوله، والإخلاص: أن يقصد العبد وجه الله وحده, في تلك الأعمال، فتقديم المعمول, يؤذن بالحصر. وقال: { وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ } فوصفهم باسم الفاعل الدال على الثبوت والاستقرار, ليدل على اتصافهم بذلك وكونه صار صبغة لهم ملازما.
تفسير البغوي
قوله تعالى: {صبغة الله} قال ابن عباس في رواية الكلبي وقتادة والحسن: "دين الله"، وإنما سماه صبغة لأنه يظهر أثر الدين على المتدين كما يظهر أثر الصبغ على الثوب، وقيل: لأن المتدين يلزمه ولا يفارقه، كالصبغ يلزم الثوب، وقال مجاهد: "فطرة الله"، وهو قريب من الأول، وقيل: سنة الله، وقيل: أراد به الختان لأنه يصبغ صاحبه بالدم، قال ابن عباس: "هي أن النصارى إذا ولد لأحدهم ولد فأتى عليه سبعة أيام غمسوه في ماء لهم أصفر يقال له المعمودي وصبغوه به ليطهروه بذلك الماء مكان الختان، فإذا فعلوا به ذلك قالوا: الآن صار نصرانياً حقاً فأخبر الله أن دينه الإسلام لا ما يفعله النصارى".
وهو نُصب على الإغراء يعني الزموا دين الله ، قال الأخفش: "هي بدل من قوله ملة إبراهيم".
{ومن أحسن من الله صبغة} ديناً وقيل: تطهيراً.
{ونحن له عابدون} مطيعون .
الإعراب:
(صِبْغَةَ) مفعول مطلق لفعل محذوف والتقدير صبغنا اللّه صبغة.
(اللَّهِ) لفظ الجلالة مضاف إليه.
(وَمَنْ) الواو للاعتراض من اسم استفهام في محل رفع مبتدأ.
(أَحْسَنُ) خبره.
(مِنَ اللَّهِ) متعلقان باسم التفضيل أحسن.
(صِبْغَةَ) تمييز.
(وَنَحْنُ) الواو عاطفة نحن مبتدأ.
(لَهُ) جار ومجرور متعلقان بعابدون.
(عابِدُونَ) خبر والجملة معطوفة على قوله: (آمنا باللّه) وجملة (ومن أحسن من اللّه) اعتراضية لا محل لها.