المكتبة الأكبرية: القرآن الكريم: سورة البقرة: [الآية 9]
سورة البقرة | ||
تفسير الجلالين:
تفسير الشيخ محي الدين:
لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286)
أصل التكاليف مشتق من الكلف وهي المشقات «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها» وهو ما آتاها من التمكن الذي هو وسعها ، فقد خلق سبحانه لنا التمكن من فعل بعض الأعمال ، نجد ذلك من نفوسنا ولا ننكره ، وهي الحركة الاختيارية ، كما جعل سبحانه فينا المانع من بعض الأفعال الظاهرة فينا ، ونجد ذلك من نفوسنا ، كحركة المرتعش الذي لا اختيار للمرتعش فيها ، وبذلك القدر من التمكن الذي يجده الإنسان في نفسه صح أن يكون مكلفا ، ولا يحقق الإنسان بعقله لما ذا يرجع ذلك التمكن ، هل لكونه قادرا أو لكونه مختارا ؟ وإن كان مجبورا في اختياره ، ولا يمكن رفع الخلاف في هذه المسألة ، فإنها من المسائل المعقولة ولا يعرف الحق فيها إلا بالكشف ، وإذا بذلت النفس الوسع في طاعة اللّه لم يقم عليها حجة ،
فإن اللّه أجلّ أن يكلف نفسا إلا وسعها ، ولذلك كان الاجتهاد في الفروع والأصول «لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ» لما كانت النفوس ولاة الحق على الجوارح ، والجوارح مأمورة مجبورة غير مختارة فيما تصرف فيه ، مطيعة بكل وجه ، والنفوس ليست كذلك ، فإذا عملت لغير عبادة لا يقبل العمل من حيث القاصد لوقوعه الذي هو النفس المكلفة ، لكن من حيث أن العمل صدر من الجوارح أو من جارحة مخصوصة ، فإنها تجزى به تلك الجارحة ، فيقبل العمل لمن ظهر منه ولا يعود منه على النفس الآمرة به للجوارح شيء إذا كان العمل خيرا بالصورة كصلاة المرائي والمنافق وجميع ما يظهر على جوارحه من أفعال الخير الذي لم تقصد به النفس عبادة ، وأما أعمال الشر المنهي عنها فإن النفس تجزى بها للقصد ، والجوارح لا تجزى بها لأنها ليس في قوتها الامتناع عما تريد النفوس بها من الحركات ، فإنها مجبورة على السمع والطاعة لها ، فإن جارت النفوس فعليها ، وللجوارح رفع الحرج ، بل لهم الخير الأتم ، وإن عدلت النفوس فلها وللجوارح ، لذلك قال تعالى : «لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ» فميز اللّه بين الكسب والاكتساب باللام وعلى ، وهذه الآية بشرى من اللّه حيث جعل المخالفة اكتسابا والطاعة كسبا ، فقال : «لَها ما كَسَبَتْ» فأوجبه لها .
وقال في المعصية والمخالفة : «وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ» فما أوجب لها الأخذ بما اكتسبته ، فالاكتساب ما هو حق لها فتستحقه ، فتستحق الكسب ولا تستحق الاكتساب ، والحق لا يعامل إلا بالاستحقاق ، والعفو من اللّه يحكم على الأخذ بالجريمة «رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا» اعلم أن الرحمة أبطنها اللّه في النسيان الموجود في العالم ، وأنه لو لم يكن لعظم الأمر وشق ، وفيما يقع فيه التذكر كفاية ، وأصل هذا وضع الحجاب بين العالم وبين اللّه في موطن التكليف ، إذ كانت المعاصي والمخالفات مقدرة في علم اللّه فلا بد من وقوعها من العبد ضرورة ، فلو وقعت مع التجلي والكشف لكان مبالغة في قلة الحياء من اللّه حيث يشهده ويراه ، والقدر حاكم بالوقوع فاحتجب رحمة بالخلق لعظيم المصاب ، قال صلّى اللّه عليه وسلم:
إن اللّه إذا أراد نفاذ قضائه وقدره سلب ذوي العقول عقولهم ، حتى إذا أمضى فيهم قضاءه وقدره ردها عليهم ليعتبروا ، وقال صلّى اللّه عليه وسلم : رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ، فلا يؤاخذهم اللّه به في الدنيا ولا في الآخرة ، فأما في الآخرة فمجمع عليه من الكل ، وأما في الدنيا فأجمعوا على رفع الذنب ، واختلفوا في الحكم ، وكذلك في الخطأ على قدر ما شرع الشارع في
أشخاص المسائل ، مثل الإفطار ناسيا في رمضان وغير ذلك من المسائل ، فإن اللّه تعالى الذي شرع المعصية والطاعة وبيّن حكمهما ، رفع حكم الأخذ بالمعصية في حق الناسي والمخطئ «رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا ، رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ» وهذا تعليم من الحق لنا أن نسأله في أن لا يقع منه في المستقبل ما لم يقع في الحال ، «وَاعْفُ عَنَّا» أي كثر خيرك لنا وقلل بلاءك عنا ، أي قلل ما ينبغي أن يقلل وكثر ما ينبغي أن يكثر ، فإن العفو من الأضداد يطلق بإزاء الكثرة والقلة ، وليس إلا عفوك عن خطايانا التي طلبنا منك أن تسترنا عنها حتى لا تصيبنا ، وهو قولنا : «وَاغْفِرْ لَنا» أي استرنا من المخالفات حتى لا تعرف مكاننا فتقصدنا «وَارْحَمْنا» برحمة الامتنان ورحمة الوجوب ، أي برحمة الاختصاص.
------------
(286) التنزلات الموصلية - الفتوحات ج 1 / 341 - ج 2 / 381 - ج 3 / 348 ، 123 ، 511 - ج 2 / 535 ، 684 - ج 3 / 381 - ج 1 / 435 ، 434تفسير ابن كثير:
وقوله تعالى : ( يخادعون الله والذين آمنوا ) أي : بإظهارهم ما أظهروه من الإيمان مع إسرارهم الكفر ، يعتقدون بجهلهم أنهم يخدعون الله بذلك ، وأن ذلك نافعهم عنده ، وأنه يروج عليه كما يروج على بعض المؤمنين ، كما قال تعالى : ( يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون ) [ المجادلة : 18 ] ؛ ولهذا قابلهم على اعتقادهم ذلك بقوله : ( وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون ) يقول : وما يغرون بصنيعهم هذا ولا يخدعون إلا أنفسهم ، وما يشعرون بذلك من أنفسهم ، كما قال تعالى : ( إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم ) [ النساء : 142 ] .
ومن القراء من قرأ : " وما يخادعون إلا أنفسهم " ، وكلا القراءتين ترجع إلى معنى واحد .
قال ابن جرير : فإن قال قائل : كيف يكون المنافق لله وللمؤمنين مخادعا ، وهو لا يظهر بلسانه خلاف ما هو له معتقد إلا تقية ؟
قيل : لا تمتنع العرب أن تسمي من أعطى بلسانه غير الذي في ضميره تقية ، لينجو مما هو له خائف ، مخادعا ، فكذلك المنافق ، سمي مخادعا لله وللمؤمنين ، بإظهاره ما أظهر بلسانه تقية ، مما تخلص به من القتل والسباء والعذاب العاجل ، وهو لغير ما أظهر ، مستبطن ، وذلك من فعله - وإن كان خداعا للمؤمنين في عاجل الدنيا - فهو لنفسه بذلك من فعله خادع ، لأنه يظهر لها بفعله ذلك بها أنه يعطيها أمنيتها ، ويسقيها كأس سرورها ، وهو موردها حياض عطبها ، ومجرعها بها كأس عذابها ، ومزيرها من غضب الله وأليم عقابه ما لا قبل لها به ، فذلك خديعته نفسه ، ظنا منه - مع إساءته إليها في أمر معادها - أنه إليها محسن ، كما قال تعالى : ( وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون ) إعلاما منه عباده المؤمنين أن المنافقين بإساءتهم إلى أنفسهم في إسخاطهم عليها ربهم بكفرهم ، وشكهم وتكذيبهم ، غير شاعرين ولا دارين ، ولكنهم على عمياء من أمرهم مقيمون .
وقال ابن أبي حاتم : أنبأنا علي بن المبارك ، فيما كتب إلي ، حدثنا زيد بن المبارك ، حدثنا محمد بن ثور ، عن ابن جريج ، في قوله تعالى : ( يخادعون الله ) قال : يظهرون لا إله إلا الله يريدون أن يحرزوا بذلك دماءهم وأموالهم ، وفي أنفسهم غير ذلك .
وقال سعيد ، عن قتادة : ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون ) نعت المنافق عند كثير : خنع الأخلاق ، يصدق بلسانه وينكر بقلبه ويخالف بعمله ، يصبح على حال ويمسي على غيره ، ويمسي على حال ويصبح على غيره ، ويتكفأ تكفؤ السفينة ، كلما هبت ريح هب معها .
تفسير الطبري :
التفسير الميسّر:
تفسير السعدي
وإنما هذا مخادعة لله ولعباده المؤمنين. والمخادعة: أن يظهر المخادع لمن يخادعه شيئا, ويبطن خلافه لكي يتمكن من مقصوده ممن يخادع، فهؤلاء المنافقون, سلكوا مع الله وعباده هذا المسلك, فعاد خداعهم على أنفسهم، فإن هذا من العجائب؛ لأن المخادع, إما أن ينتج خداعه ويحصل له ما يريد أو يسلم, لا له ولا عليه، وهؤلاء عاد خداعهم عليهم, وكأنهم يعملون ما يعملون من المكر لإهلاك أنفسهم وإضرارها وكيدها؛ لأن الله تعالى لا يتضرر بخداعهم [شيئا] وعباده المؤمنون, لا يضرهم كيدهم شيئا، فلا يضر المؤمنين أن أظهر المنافقون الإيمان, فسلمت بذلك أموالهم وحقنت دماؤهم, وصار كيدهم في نحورهم, وحصل لهم بذلك الخزي والفضيحة في الدنيا, والحزن المستمر بسبب ما يحصل للمؤمنين من القوة والنصرة. ثم في الآخرة لهم العذاب الأليم الموجع المفجع, بسبب كذبهم وكفرهم وفجورهم, والحال أنهم من جهلهم وحماقتهم لا يشعرون بذلك.
تفسير البغوي
{يخادعون الله}: أي يخالفون الله، وأصل الخدع في اللغة الإخفاء، ومنه المخدع للبيت الذي يخفى فيه المتاع فالمخادع يظهر خلاف ما يضمر.
والخدع من الله في قوله: {وهو خادعهم} [182-النساء] أي يظهر لهم ويعجل لهم من النعيم في الدنيا خلاف ما يغيب عنهم من عذاب الآخرة.
وقيل: أصل الخدع: الفساد؛ معناه يفسدون ما أظهروا من الإيمان بما أضمروا من الكفر.
وقوله: {وهو خادعهم}: أي يفسد عليهم نعيمهم في الدنيا بما يصيرهم إليه من عذاب الآخرة.
-فإن قيل ما معنى قوله: {يخادعون الله} والمفاعلة للمشاركة وقد جل الله تعالى عن المشاركة في المخادعة؟ قيل: قد ترد المفاعلة لا على معنى المشاركة كقولك عافاك الله وعاقبت فلاناً، وطارقت النعل.
وقال الحسن: "معناه يخادعون رسول الله صلى الله عليه وسلم"، كما قال الله تعالى: {إن الذين يؤذون الله} [57- الأحزاب] أي أولياء الله.
وقيل: ذكر الله ها هنا تحسين والقصد بالمخادعة الذين آمنوا كقوله تعالى: {فأن لله خمسه وللرسول} [41- الأنفال].
وقيل: معناه يفعلون في دين الله ما هو خداع في دينهم.
{والذين آمنوا}: أي و يخادعون المؤمنين بقولهم إذا رأوهم (آمنا) وهم غير مؤمنين.
{وما يخدعون} قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وما يخادعون كالحرف الأول وجعلوه من المفاعلة التي تختص بالواحد، وقرأ الباقون: وما يخدعون على الأصل.
{إلا أنفسهم}: لأن وبال خداعهم راجع إليهم؛ لأن الله تعالى يُطْلِع نبيه صلى الله عليه وسلم على نفاقهم فيفتضحون في الدنيا ويستوجبون العقاب في العقبى.
{وما يشعرون}: أي لا يعلمون أنهم يخدعون أنفسهم وأن وبال خداعهم يعود عليهم.
الإعراب:
(يُخادِعُونَ) فعل مضارع مرفوع بثبوت النون، والواو فاعل.
(اللَّهَ) لفظ الجلالة مفعول به منصوب، والجملة مستأنفة وقيل حالية.
(وَالَّذِينَ) الواو عاطفة، الذين اسم موصول معطوف على اللّه.
(آمَنُوا) فعل ماض مبني على الضم والواو فاعل، والجملة صلة موصول لا محل لها.
(وَما) الواو حالية، ما نافية، (يَخْدَعُونَ) مثل يخادعون.
(إِلَّا) أداة حصر، (أَنْفُسَهُمْ) مفعول به والهاء في محل جر بالإضافة والميم للجمع.
(وَما يَشْعُرُونَ) الواو استئنافية، ما نافية، وجملة: (يشعرون) استئنافية لا محل لها.