«وفجرنا الأرض عيونا» تنبع «فالتقى الماء» ماء السماء والأرض «على أمر» حال «قد قُدِر» قضي به في الأزل وهو هلاكهم غرقا.
فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)
«فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ» في حضرة منيعة ، وما أقعدهم ذلك المقعد إلا صدقهم «عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ»
[ الاسم الإلهي القادر والمقتدر : ]
فإن الاقتدار يناسب الصدق ، فإن معناه القوي ، يقال : رمح صدق ، أي صلب قوي ، ولما كانت القوة صفة هذا الصادق ، حيث قوي على نفسه فلم يتزين بما ليس له ، والتزم الحق في أقواله وأحواله وأفعاله وصدق فيها ، أقعده الحق عند مليك مقتدر ، أي أطلعه على القوة الإلهية التي أعطته القوة في صدقه الذي كان عليه ، فإن الملك هو الشديد أيضا ، فهو مناسب للمقتدر ،
يقال : ملكت العجين إذا شددت عجنه ، فالمتقي ما نال مقعد الصدق إلا من كونه محقا ، لأنه صادق في تقواه «عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ» عند ملك ماضي الكلمة في ملكه ، لأنهم كل ما همّوا به انفعل لهم ، وحكم الاقتدار ما هو حكم القادر ،
فالاقتدار حكم القادر في ظهور الأشياء بأيدي الأسباب ، والأسباب هي المتصفة بكسب القدرة ، فهو تعالى المقتدر على كل ما يوجده عند سبب أو بسبب ، كيف شئت قل ، فما أوجده على أيدي الأسباب هو قوله : (مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِين (وليست سوى الأسباب
- اعتبار –
اعترضت لي عقبة *** وسط الطريق في السفر
فأسفرت عن محن *** فيمن طغى أو من كفر
من دونها جهنم *** ذات زفير وسعر
ترمي من الغيظ وجوه *** المجرمين بشر
ربحورها قد سجرت *** وسقفها قد انفطر
وشمسها قد كورت *** ونجمها قد انكدر
أتيتكم أخبركم *** لتعرفوا معنى الخبر
ولا تقولوا مثل من *** قال فما تغني النذر؟
فكان من أمرهم *** ما قد سمعتم وذكر
قالوا : وقد دعاكم *** الداعي إلى شيء نكر
فيخرجون خشّعا *** مثل الجراد المنتشر
شعثا حفاة حسرا *** في يوم نحس مستمر
إلى عذاب وثوى *** إلى خلود في سقر
فلو ترى نبيهم ***حين دعاهم فازدجر
وقد دعا مرسله *** أني ضعيف فانتصر
فقال: ياعين انسكب *** وأنت يا أرض انفجر
حتى التقى الماء على *** أمر حكيم قد قدر
فاصطفقت أمواجه ***وذاكم البحر الزخر
فالحكم حكم فاصل *** والأمر أمر مستقر
وأمره واحدة *** كمثل لمح بالبصر
سفينة قامت من أل *** واح نجاة ودسر
تجري بعين حفظه *** وعدا لمن كان كفر
تسوقها الأرواح عن *** أمر مليك مقتدر
أنزلها الجود على ال *** جودي فقالوا:لا وزر
ناداهم الحق اخرجوا *** منها أنا عين الوزر
حطوا وقالوا : ربنا *** لديك نعم المستقر
فيا سماء أقلعي *** من سح ماء منهمر
وأنت يا أرض ابلعي *** ماءك واخزن واحتكر
قد قضي الأمر فمن *** كان عدوا قد غبر
تركتها تذكرة *** لكم فهل من مدّكر ؟
وكل ما كان وما *** يكون منكم مستطر
وإن ما يفعله *** في الكون من خير وشر
مقدّر مؤقت *** كذا أتانا في الزّبر
الموت سم ناقع *** والحشر أدهى وأمر
سفينكم أجسامكم *** في بحر دنيا قد زخر
وأنتم ركابها *** وأنتم على خطر
ما لكم من ساحل *** غير القضاء والقدر
فابتهلوا واجتهدوا *** فما من اللّه مفر
هذا الذي أشهدته *** في ليلتي حتى السحر
فازدجروا واعتبروا *** واتعظوا بمن غبر
فالكل واللّه بلا *** شك على ظهر سفر
(55) سورة الرحمن مدنيّة
------------
(55) الفتوحات ج 4 /
380 - ج 1 /
158 - ج 2 /
98 - ج 4 /
409 ، 296 - ج 3 /
114
قوله تعالى {كذبت قبلهم قوم نوح} ذكر جملا من وقائع الأمم الماضية تأنيسا للنبي صلى الله عليه وسلم وتعزية له. {قبلهم} أي قبل قومك. {فكذبوا عبدنا} يعني نوحا. الزمخشري : فإن قلت ما معنى قوله {فكذبوا} بعد قوله {كذبت}؟ قلت : معناه كذبوا فكذبوا عبدنا؛ أي كذبوه تكذيبا على عقب تكذيب كلما مضى منهم قرن مكذب تبعه قرن مكذب، أو كذبت قوم نوح الرسل فكذبوا عبدنا؛ أي لما كانوا مكذبين بالرسل جاحدين للنبوة رأسا كذبوا نوحا لأنه من جملة الرسل. {وقالوا مجنون} أي هو مجنون {وازدجر} أي زجر عن دعوى النبوة بالسب والوعيد بالقتل. وقيل إنما قال {وازدجر} بلفظ ما لم يسم فاعله لأنه رأس آية. {فدعا ربه} أي دعا عليهم حينئذ نوح فقال رب {أني مغلوب} أي غلبوني بتمردهم {فانتصر} أي فانتصر لي. وقيل : إن الأنبياء كانوا لا يدعون على قومهم بالهلاك إلا بإذن الله عز وجل لهم فيه. {ففتحنا أبواب السماء} أي فأجبنا دعاءه وأمرناه باتخاذ السفينة وفتحنا أبواب السماء {بماء منهمر} أي كثير. ؛ قاله السدي. قال الشاعر : أعيني جودا بالدموع الهوامر ** على خير باد من معد وحاضر وقيل : إنه المنصب المتدفق؛ ومنه قول امرئ القيس يصف غيثا : راح تمريه الصبا ثم انتحى ** فيه شؤبوب جنوب منهمر الهمر الصب؛ وقد همر الماء والدمع يهمر همرا. وهمر أيضا إذا أكثر. الكلام وأسرع. وهمر له من ماله أي أعطاه. قال ابن عباس : ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر من غير سحاب لم يقلع أربعين يوما. وقرأ ابن عامر ويعقوب {ففتحنا} مشددة على التكثير. الباقون {ففتحنا} مخففا. ثم قيل، : إنه فتح رتاجها وسعة مسالكها. وقيل : إنه المجرة وهي شرج السماء ومنها فتحت بماء منهمر؛ قاله علي رضي الله عنه. {وفجرنا الأرض عيونا} قال عبيد بن عمير : أوحى الله إلى الأرض أن تخرج ماءها فتفجرت بالعيون، وإن عينا تأخرت فغضب عليها فجعل ماءها مرا أجاجا إلى يوم القيامة. {فالتقى الماء} أي ماء السماء وماء الأرض {على أمر قد قدر} أي على مقدار لم يزد أحدهما على الآخر؛ حكاه ابن قتيبة. أي كان ماء السماء والأرض سواء. وقيل {قدر} بمعنى قضي عليهم. قال قتادة : قدر لهم إذا كفروا أن يغرقوا. وقال محمد بن كعب : كانت الأقوات قبل الأجساد، وكان القدر قبل البلاء؛ وتلا هذه الآية. وقال{التقى الماء} والالتقاء إنما يكون في اثنين فصاعدا؛ لأن الماء يكون جمعا وواحدا. وقيل : لأنهما لما اجتمعا صارا ماء واحدا. وقرأ الجحدري {فالتقى الماءان}. وقرأ الحسن {فالتقى الماوان} وهما خلاف المرسوم. القشيري : وفي بعض المصاحف {فالتقى الماوان} وهي لغة طيء. وقيل : كان ماء السماء باردا مثل الثلج وماء الأرض حارا مثل الحميم. {وحملناه على ذات ألواح} أي على سفينة ذات ألواح. {ودسر} قال قتادة : يعني المسامير التي دسرت بها السفينة أي شدت؛ وقال القرظي وابن زيد وابن جبير ورواه الوالبي عن ابن عباس. وقال الحسن وشهر بن حوشب وعكرمة : هي صدر السفينة التي تضرب بها الموج سميت بذلك لأنها تدسر الماء أي تدفعه، والدسر الدفع والمخر؛ ورواه العوفي عن ابن عباس قال : الدسر كلكل السفينة. وقال الليث : الدسار خيط من ليف تشد به ألواح السفينة. وفي الصحاح : الدسار واحد الدسر وهي خيوط تشد بها ألواح السفينة، ويقال : هي المسامير، وقال تعالى {على ذات ألواح ودسر}. ودسر أيضا مثل عُسُر وعُسْر. والدسر الدفع؛ قال ابن عباس في العنبر : إنما هو شيء يدسره البحر دسرا أي يدفعه. ودسره بالرمح. ورجل مدسر. {تجري بأعيننا} أي بمرأى منا. وقيل : بأمرنا. وقيل : بحفظ منا وكلاءة : وقد مضى في هود . ومنه قول الناس للمودع : عين الله عليك؛ أي حفظه وكلاءته. وقيل : بوحينا. وقيل : أي بالأعين النابعة من الأرض. وقيل : بأعين أوليائنا من الملائكة الموكلين بحفظها، وكل ما خلق الله تعالى يمكن أن يضاف إليه. وقيل : أي تجري بأوليائنا، كما في الخبر : مرض عين من عيوننا فلم تعده. {جزاء لمن كان كفر} أي جعلنا ذلك ثوابا وجزاء لنوح على صبره على أذى قومه وهو المكفور به؛ فاللام في {لمن} لام المفعول له؛ وقيل {كفر} أي جحد؛ فـ {من} كناية عن نوح. وقيل : كناية عن الله والجزاء بمعنى العقاب؛ أي عقابا لكفرهم بالله تعالى. وقرأ يزيد بن رومان وقتادة ومجاهد وحميد {جزاء لمن كان كفر} بفتح الكاف والفاء بمعنى : كان الغرق جزاء وعقابا لمن كفر بالله، وما نجا من الغرق غير عوج بن عنق؛ كان الماء إلى حجزته. وسبب نجاته أن نوحا احتاج إلى خشبة الساج لبناء السفينة فلم يمكنه حملها، فحمل عوج تلك الخشبة إليه من الشام فشكر الله له ذلك، ونجاه من الغرق. {ولقد تركناها آية} يريد هذه الفعلة عبرة. وقيل : أراد السفينة تركها آية لمن بعد قوم نوح يعتبرون بها فلا يكذبون الرسل. قال قتادة : أبقاها الله بباقردى من أرض الجزيرة عبرة وآية، حتى نظرت إليها أوائل هذه الأمة، وكم من سفينة كانت بعدها فصارت رمادا. {فهل من مدكر} متعظ خائف، وأصله مذتكر مفتعل من الذكر، فثقلت على الألسنة فقلبت التاء دالا لتوافق الذال في الجهر وأدغمت الذال فيها. {فكيف كان عذابي ونذر} أي إنذاري؛ قال الفراء : إنذاري؛ قال مصدران. وقيل {نذر} جمع نذير ونذير بمعنى الإنذار كنكير بمعنى الإنكار. {ولقد يسرنا القرآن للذكر} أي سهلناه للحفظ وأعنا عليه من أراد حفظه؛ فهل من طالب لحفظه فيعان عليه؟ ويجوز أن يكون المعنى : ولقد هيأناه للذكر مأخوذ من يسر ناقته للسفر : إذا رحلها ويسر فرسه للغزو إذا أسرجه وألجمه؛ قال : وقمت إليه باللجام ميسرا ** هنالك يجزيني الذي كنت أصنع وقال سعيد بن جبير : ليس من كتب الله كتاب يقرأ كله ظاهرا إلا القران؛ وقال غيره : ولم يكن هذا لبني إسرائيل، ولم يكونوا يقرءون التوراة إلا نظرا، غير موسى وهارون ويوشع بن نون وعزير صلوات الله عليهم، ومن أجل ذلك افتتنوا بعزير لما كتب لهم التوراة عن ظهر قلبه حين أحرقت؛ على ما تقدم بيانه في سورة التوبة فيسر الله تعالى على هذه الأمة حفظ كتابه ليذكروا ما فيه؛ أي يفتعلوا الذكر، والافتعال هو أن ينجع فيهم ذلك حتى يصير كالذات وكالتركيب. فيهم. {فهل من مدكر} قارئ يقرؤه. وقال أبو بكر الوراق وابن شوذب : فهل من طالب خير وعلم فيعان عليه، وكرر في هذه السورة للتنبيه والإفهام. وقيل : إن الله تعالى اقتص في هذه السورة على هذه الأمة أنباء الأمم وقصص المرسلين، وما عاملتهم به الأمم، وما كان من عقبى أمورهم وأمور المرسلين؛ فكان في كل قصة ونبأ ذكر للمستمع أن لو ادكر، وإنما كرر هذه الآية عند ذكر كل قصة بقوله {فهل من مدكر} لأن {هل} كلمة استفهام تستدعي أفهامهم التي ركبت في أجوافهم وجعلها حجة عليهم؛ فاللام من {هل} للاستعراض والهاء للاستخراج.
فأجبنا دعاءه، ففتحنا أبواب السماء بماء كثير متدفق، وشققنا الأرض عيونًا متفجرة بالماء، فالتقى ماء السماء وماء الأرض على إهلاكهم الذي قدَّره الله لهم؛ جزاء شركهم.