«وإن خفتم» علمتم «شقاق» خلاف «بينهما» بين الزوجين والإضافة للاتساع أي شقاقا بينهما «فابعثوا» إليهما برضاهما «حكما» رجلا عدلا «من أهله» أقاربه «وحكما من أهلها» ويوكل الزوج حكمه في طلاق وقبول عوض عليه وتوكل هي حكمها في الاختلاع فيجتهدان ويأمران الظالم بالرجوع أو يُفَرِّقَان إن رأياه، قال تعالى: «إن يريدا» أي الحكمان «إصلاحا يوفِّق الله بينهما» بين الزوجين أي يقدرهما على ما هو الطاعة من إصلاح أو فراق «إن الله كان عليما» بكل شيء «خبيرا» بالبواطن كالظواهر.
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (173) يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (174)
البرهان قوي السلطان ، ولما أزال الحق بالقرآن شبه الضلالات وظلمة الشكوك وأوضح به المشكلات سماه نورا ، وكل ما جاء في معرض الدلالة فهو من كونه نورا ، لأن النور هو المنفر الظلم ، والقرآن ضياء لأن الضياء يكشف ، فكل ما أظهره القرآن فهو من أثر ضيائه ، فبالقرآن يكشف جميع ما في الكتب المنزلة من العلوم ، وفيه ما ليس فيها . فمن أوتي القرآن فقد أوتي الضياء الكامل الذي يتضمن كل علم ؛ فعلوم الأنبياء والملائكة وكل لسان علم فإن القرآن يتضمنه ويوضحه لأهل القرآن بما هو ضياء ، فهو نور من حيث ذاته لأنه لا يدرك لعزته ، وهو ضياء لما يدرك به ولما يدرك منه . فمن أعطي القرآن فقد أعطي العلم الكامل .
------------
(174) الفتوحات ج 4 /
352 - إيجاز البيان - الفتوحات ج 3 /
94 - ج 2 /
107
ذكر [ تعالى ] الحال الأول ، وهو إذا كان النفور والنشوز من الزوجة ، ثم ذكر الحال الثاني وهو : إذا كان النفور من الزوجين فقال تعالى : ( وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها )
قال الفقهاء : إذا وقع الشقاق بين الزوجين ، أسكنهما الحاكم إلى جنب ثقة ، ينظر في أمرهما ، ويمنع الظالم منهما من الظلم ، فإن تفاقم أمرهما وطالت خصومتهما ، بعث الحاكم ثقة من أهل المرأة ، وثقة من قوم الرجل ، ليجتمعا وينظرا في أمرهما ، ويفعلا ما فيه المصلحة مما يريانه من التفريق أو التوفيق ، وتشوف الشارع إلى التوفيق; ولهذا قال : ( إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما )
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : أمر الله عز وجل ، أن يبعثوا رجلا صالحا من أهل الرجل ، ورجلا مثله من أهل المرأة ، فينظران أيهما المسيء ، فإن كان الرجل هو المسيء ، حجبوا عنه امرأته وقصروه على النفقة ، وإن كانت المرأة هي المسيئة ، قصروها على زوجها ومنعوها النفقة . فإن اجتمع رأيهما على أن يفرقا أو يجمعا ، فأمرهما جائز . فإن رأيا أن يجمعا ، فرضي أحد الزوجين وكره ذلك الآخر ، ثم مات أحدهما ، فإن الذي رضي يرث الذي كره ولا يرث الكاره الراضي . رواه ابن أبي حاتم وابن جرير .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن عكرمة بن خالد ، عن ابن عباس قال : بعثت أنا ومعاوية حكمين ، قال معمر : بلغني أن عثمان بعثهما ، وقال لهما : إن رأيتما أن تجمعا جمعتما ، وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما .
وقال : أنبأنا ابن جريج ، حدثني ابن أبي مليكة ، أن عقيل بن أبي طالب تزوج فاطمة بنت عتبة بن ربيعة فقالت : تصير إلي وأنفق عليك . فكان إذا دخل عليها قالت : أين عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة ؟ قال : على يسارك في النار إذا دخلت . فشدت عليها ثيابها فجاءت عثمان ، فذكرت له ذلك فضحك وأرسل ابن عباس ومعاوية ، فقال ابن عباس : لأفرقن بينهما . فقال معاوية : ما كنت لأفرق بين شيخين من بني عبد مناف . فأتياهما فوجداهما قد أغلقا عليهما أبوابهما فرجعا .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن محمد بن سيرين ، عن عبيدة قال : شهدت عليا وجاءته امرأة وزوجها ، مع كل واحد منهما فئام من الناس ، فأخرج هؤلاء حكما وهؤلاء حكما ، فقال علي للحكمين : أتدريان ما عليكما ؟ إن عليكما إن رأيتما أن تجمعا ، جمعتما . فقالت المرأة : رضيت بكتاب الله لي وعلي . وقال الزوج : أما الفرقة فلا . فقال علي : كذبت ، والله لا تبرح حتى ترضى بكتاب الله ، عز وجل ، لك وعليك .
رواه ابن أبي حاتم ، ورواه ابن جرير ، عن يعقوب ، عن ابن علية ، عن أيوب ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة ، عن علي ، مثله . ورواه من وجه آخر ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة ، عن علي ، به .
وهذا مذهب جمهور العلماء : أن الحكمين إليهما الجمع والتفرقة ، حتى قال إبراهيم النخعي : إن شاء الحكمان أن يفرقا بينهما بطلقة أو بطلقتين أو ثلاث فعلا . وهو رواية عن مالك .
وقال الحسن البصري : الحكمان يحكمان في الجمع ولا يحكمان في التفريق ، وكذا قال قتادة ، وزيد بن أسلم . وبه قال أحمد بن حنبل ، وأبو ثور ، وداود ، ومأخذهم قوله تعالى : ( إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما ) ولم يذكر التفريق .
وأما إذا كانا وكيلين من جهة الزوجين ، فإنه ينفذ حكمهما في الجمع والتفرقة بلا خلاف .
وقد اختلف الأئمة في الحكمين : هل هما منصوبان من عند الحاكم ، فيحكمان وإن لم يرض الزوجان ، أو هما وكيلان من جهة الزوجين ؟ على قولين : فالجمهور على الأول; لقوله تعالى : ( فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها ) فسماهما حكمين ، ومن شأن الحكم أن يحكم بغير رضا المحكوم عليه ، وهذا ظاهر الآية ، والجديد من مذهب الشافعي ، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه .
الثاني منهما ، بقول علي ، رضي الله عنه ، للزوج - حين قال : أما الفرقة فلا - قال : كذبت ، حتى تقر بما أقرت به ، قالوا : فلو كانا حاكمين لما افتقر إلى إقرار الزوج ، والله أعلم .
قال الشيخ أبو عمر بن عبد البر : وأجمع العلماء على أن الحكمين - إذا اختلف قولهما - فلا عبرة بقول الآخر ، وأجمعوا على أن قولهما نافذ في الجمع وإن لم يوكلهما الزوجان ، واختلفوا : هل ينفذ قولهما في التفرقة ؟ ثم حكي عن الجمهور أنه ينفذ قولهما فيها أيضا .
فيه خمس مسائل: الأولى: قوله تعالى: {وإن خفتم شقاق بينهما} قد تقدم معنى الشقاق في "البقرة". فكأن كل واحد من الزوجين يأخذ شقا غير شق صاحبه، أي ناحية غير ناحية صاحبه. والمراد إن خفتم شقاقا بينهما؛ فأضيف المصدر إلى الظرف كقولك : يعجبني سير الليلة المقمرة، وصوم يوم عرفة. وفي التنزيل: {بل مكر الليل والنهار} [سبأ : 33]. وقيل : إن "بين" أجري مجرى الأسماء وأزيل عنه الظرفية؛ إذ هو بمعنى حالهما وعشرتهما، أي وإن خفتم تباعد عشرتهما وصحبهما "فابعثوا". و"خفتم" على الخلاف المتقدم. قال سعيد بن جبير : الحكم أن يعظها أولا، فإن قبلت وإلا هجرها، فإن هي قبلت وإلا ضربها، فإن هي قبلت وإلا بعث الحاكم حكما من أهله وحكما من أهلها، فينظران ممن الضرر، وعند ذلك يكون الخلع. وقد قيل : له أن يضرب قبل الوعظ. والأول أصح لترتيب ذلك في الآية. الثانية: والجمهور من العلماء على أن المخاطب بقوله: {وإن خفتم} الحكام والأمراء. وأن قوله: {إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما} يعني الحكمين؛ في قول ابن عباس ومجاهد وغيرهما. أي إن يرد الحكمان إصلاحا يوفق الله بين الزوجين. وقيل : المراد الزوجان؛ أي إن يرد الزوجان إصلاحا وصدقا فيما أخبرا به الحكمين {يوفق الله بينهما}. وقيل : الخطاب للأولياء. يقول: {إن خفتم} أي علمتم خلافا بين الزوجين {فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها} والحكمان لا يكونان إلا من أهل الرجل والمرأة؛ إذ هما أقعد بأحوال الزوجين، ويكونان من أهل العدالة وحسن النظر والبصر بالفقه. فإن لم يوجد من أهلهما من يصلح لذلك فيرسل من غيرهما عدلين عالمين؛ وذلك إذا أشكل أمرهما ولم يدر ممن الإساءة منهما. فأما إن عرف الظالم فإنه يؤخذ له الحق من صاحبه ويجبر على إزالة الضرر. ويقال : أن الحكم من أهل الزوج يخلو به ويقول له : أخبرني بما في نفسك أتهواها أم لا حتى أعلم مرادك ؟ فإن قال : لا حاجة لي فيها خذ لي منها ما استطعت وفرق بيني وبينها، فيعرف أن من قبله النشوز. وإن قال : إني أهواها فأرضها من مالي بما شئت ولا تفرق بيني وبينها، فيعلم أنه ليس بناشز. ويخلو الحكم من جهتها بالمرأة ويقول لها : أتهوين زوجك أم لا؛ فإن قالت : فرق بيني وبينه وأعطه من مالي ما أراد؛ فيعلم أن النشوز من قبلها. وإن قالت : لا تفرق بيننا ولكن حثه على أن يزيد في نفقتي ويحسن إلي، علم أن النشوز ليس من قبلها. فإذا ظهر لهما الذي كان النشوز من قبله يقبلان عليه بالعظة والزجر والنهى؛ فذلك قوله تعالى: {فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها}. الثالثة: قال العلماء : قسمت هذه الآية النساء تقسيما عقليا؛ لأنهن إما طائعة وإما ناشز؛ والنشوز إما أن يرجع إلى الطواعية أو لا. فإن كان الأول تُرِكَا؛ لما رواه النسائي أن عقيل بن أبي طالب تزوج فاطمة بنت عتبة بن ربيعة فكان إذا دخل عليها تقول : يا بني هاشم، والله لا يحبكم قلبي أبدا ! أين الذين أعناقهم كأباريق الفضة ! ترد أنوفهم قبل شفاههم، أين عتبة بن ربيعة، أين شيبة بن ربيعة؛ فيسكت عنها، حتى دخل عليها يوما وهو برم فقالت له : أين عتبة بن ربيعة ؟ فقال : على يسارك في النار إذا دخلت؛ فنشرت عليها ثيابها، فجاءت عثمان فذكرت له ذلك؛ فأرسل ابن عباس ومعاوية، فقال ابن عباس : لأفرقن بينهما؛ وقال معاوية : ما كنت لأفرق بين شيخين من بني عبد مناف. فأتياهما فوجداهما قد سدا عليهما أبوابهما وأصلحا أمرهما. فإن وجداهما قد اختلفا ولم يصطلحا وتفاقم أمرهما سعيا في الألفة جهدهما، وذكرا بالله وبالصحبة. فإن أنابا ورجعا تركاهما، وإن كانا غير ذلك ورأيا الفرقة فرقا بينهما. وتفريقهما جائز على الزوجين؛ وسواء وافق حكم قاضي البلد أو خالفه، وكلهما الزوجان بذلك أو لم يوكلاهما. والفراق في ذلك طلاق بائن. وقال قوم : ليس لهما الطلاق ما لم يوكلهما الزوج في ذلك، وليعرفا الإمام؛ وهذا بناء على أنهما رسولان شاهدان. ثم الإمام يفرق إن أراد ويأمر الحكم بالتفريق. وهذا أحد قولي الشافعي؛ وبه قال الكوفيون، وهو قول عطاء وابن زيد والحسن، وبه قال أبو ثور. والصحيح الأول، لأن للحكمين التطليق دون توكيل؛ وهو قول مالك والأوزاعي وإسحاق وروي عن عثمان وعلي وابن عباس، وعن الشعبي والنخعي، وهو قول الشافعي؛ لأن الله تعالى قال: {فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها} وهذا نص من الله سبحانه بأنهما قاضيان لا وكيلان ولا شاهدان. وللوكيل اسم في الشريعة ومعنى، وللحكم اسم في الشريعة ومعنى؛ فإذا بين الله كل واحد منهما فلا ينبغي لشاذ - فكيف لعالم - أن يركب معنى أحدهما على الآخر !. وقد روى الدارقطني من حديث محمد بن سيرين عن عبيدة في هذه الآية {وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها} قال : جاء رجل وامرأة إلى علي مع كل واحد منهما فئام من الناس فأمرهم فبعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها، وقال للحكمين : هل تدريان ما عليكما ؟ عليكما إن رأيتما أن تفرقا فرقتما. فقالت، المرأة : رضيت بكتاب الله بما علي فيه ولي. وقال الزوج : أما الفرقة فلا. فقال علي : كذبت، والله لا تبرح حتى تقر بمثل الذي أقرت به. وهذا إسناد صحيح ثابت روي عن علي من وجوه ثابتة عن ابن سيرين عن عبيدة؛ قال أبو عمر. فلو كانا وكيلين أو شاهدين لم يقل لهما : أتدريان ما عليكما ؟ إنما كان يقول : أتدريان بما وكلتما ؟ وهذا بين. احتج أبو حنيفة بقول علي رضي الله عنه للزوج : لا تبرح حتى ترضى بما رضيت به. فدل على أن مذهبه أنهما لا يفرقان إلا برضا الزوج، وبأن الأصل المجتمع عليه أن الطلاق بيد الزوج أو بيد من جعل ذلك إليه. وجعله مالك ومن تابعه من باب طلاق السلطان على المولى والعنين. الرابعة: فإن اختلف الحكمان لم ينفذ قولهما ولم يلزم من ذلك شيء إلا ما اجتمعا عليه. وكذلك كل حكمين حكما في أمر؛ فإن حكم أحدهما بالفرقة ولم يحكم بها الآخر، أو حكم أحدهما بمال وأبى الآخر فليسا بشيء حتى يتفقا. وقال مالك في الحكمين يطلقان ثلاثا قال : تلزم واحدة وليس لهما الفراق بأكثر من واحدة بائنة؛ وهو قول ابن القاسم. وقال ابن القاسم أيضا : تلزمه الثلاث إن اجتمعا عليها؛ وقال المغيرة وأشهب وابن الماجشون وأصبغ. وقال ابن المواز : إن حكم أحدهما بواحدة والآخر بثلاث فهي واحدة. وحكى ابن حبيب عن أصبغ أن ذلك ليس بشيء. الخامسة: ويجزئ إرسال الواحد؛ لأن الله سبحانه حكم في الزنى بأربعة شهود، ثم قد أرسل. النبي صلى الله عليه وسلم إلى المرأة الزانية أنيسا وحده وقال له : (إن اعترفت فأرجمها) وكذلك قال عبد الملك في المدونة. قلت : وإذا جاز إرسال الواحد فلو حكم الزوجان واحدا لأجزأ، وهو بالجواز أولى إذا رضيا بذلك، وإنما خاطب الله بالإرسال الحكام دون الزوجين. فإن أرسل الزوجان حكمين وحكما نفذ حكمهما؛ لأن التحكيم عندنا جائز، وينفذ فعل الحكم في كل مسألة. هذا إذا كان كل واحد منهما عدلا، ولو كان غير عدل قال عبد الملك : حكمه منقوض؛ لأنهما تخاطرا بما لا ينبغي من الغرر. قال ابن العربي : والصحيح نفوذه؛ لأنه إن كان توكيلا ففعل الوكيل نافذ، وإن كان تحكيما فقد قدماه على أنفسهما وليس الغرر بمؤثر فيه كما لم يؤثر في باب التوكيل، وباب القضاء مبني على الغرر كله، وليس يلزم فيه معرفة المحكوم عليه بما يؤول إليه الحكم. قال ابن العربي : مسألة الحكمين نص الله عليها وحكم بها عند ظهور الشقاق بين الزوجين، واختلاف ما بينهما. وهي مسألة عظيمة اجتمعت الأمة على أصلها في البعث، وإن اختلفوا في تفاصيل ما ترتب عليه. وعجبا لأهل بلدنا حيث غفلوا عن موجب الكتاب والسنة في ذلك وقالوا : يجعلان على يدي أمين؛ وفي هذا من معاندة النص ما لا يخفى عليكم، فلا بكتاب الله ائتمروا ولا بالأقيسة اجتزؤوا. وقد ندبت إلى ذلك فما أجابني إلى بعث الحكمين عند الشقاق إلا قاض واحد، ولا بالقضاء باليمين مع الشاهد إلا آخر، فلما ملكني الله الأمر أجريت السنة كما ينبغي. ولا تعجب لأهل بلدنا لما غمرهم من الجهالة، ولكن أعجب لأبي حنيفة ليس للحكمين عنده خبر، بل اعجب مرتين للشافعي فإنه قال : الذي يشبه ظاهر الآية أنه فيما عم الزوجين معا حتى يشتبه فيه حالاهما. قال : وذلك أني وجدت الله عز رجل أذن في نشوز الزوج بأن يصطلحا وأذن في خوفهما ألا يقيما حدود الله بالخلع وذلك يشبه أن يكون برضا المرأة. وحظر أن يأخذ الزوج مما أعطى شيئا إذا أراد استبدال زوج مكان زوج؛ فلما أمر فيمن خفنا الشقاق بينهما بالحكمين دل على أن حكمهما غير حكم الأزواج، فإذا كان كذلك بعث حكما من أهله وحكما من أهلها، ولا يبعث الحكمين إلا مأمونين برضا الزوجين وتوكيلهما بأن يجمعا أو يفرقا إذا رأيا ذلك. وذلك يدل على أن الحكمين وكيلان للزوجين. قال ابن العربي : هذا منتهى كلام الشافعي، وأصحابه يفرحون به وليس فيه ما يلتفت إليه ولا يشبه نصابه في العلم، وقد تولى الرد عليه القاضي أبو إسحاق ولم ينصفه في الأكثر. أما قوله: "الذي يشبه ظاهر الآية أنه فيما عم الزوجين" فليس بصحيح بل هو نصه، وهي من أبين آيات القرآن وأوضحها جلاء؛ فإن الله تعالى قال: {الرجال قوامون على النساء} [
النساء : 34] - ومن خاف من امرأته نشوزا وعظها، فإن أنابت وإلا هجرها في المضجع، فإن ارعوت وإلا ضربها، فإن استمرت في غلوائها مشى الحكمان إليهما. وهذا إن لم يكن نصا فليس في القرآن بيان. ودعه لا يكون نصا، يكون ظاهرا؛ فأما أن يقول الشافعي : يشبه الظاهر فلا ندري ما الذي أشبه الظاهر ؟. ثم قال: "وأذن في خوفهما ألا يقيما حدود الله بالخلع وذلك يشبه أن يكون برضا المرأة، بل يجب أن يكون كذلك وهو نصه". ثم قال: "فلما أمر بالحكمين علمنا أن حكمهما غير حكم الأزواج، ويجب أن يكون غيره بأن ينفذ عليهما من غير اختيارهما فتتحقق الغيرية. فأما إذا أنفذا عليهما ما وكلاهما به فلم يحكما بخلاف أمرهما فلم تتحقق الغيرية". وأما قوله: "برضى الزوجين وتوكيلهما" فخطأ صراح؛ فإن الله سبحانه خاطب غير الزوجين إذا خاف الشقاق بين الزوجين بإرسال الحكمين، وإذا كان المخاطب غيرهما كيف يكون ذلك بتوكيلهما، ولا يصح لهما حكم إلا بما اجتمعا عليه. هذا وجه الإنصاف والتحقيق في الرد عليه. وفي هذه الآية دليل على إثبات التحكيم، وليس كما تقول الخوارج إنه ليس التحكيم لأحد سوى الله تعالى. وهذه كلمة حق ولكن يريدون بها الباطل.
وإن علمتم -يا أولياء الزوجين- شقاقًا بينهما يؤدي إلى الفراق، فأرسلوا إليهما حكمًا عدلا من أهل الزوج، وحكمًا عدلا من أهل الزوجة؛ لينظرا ويحكما بما فيه المصلحة لهما، وبسبب رغبة الحكمين في الإصلاح، واستعمالهما الأسلوب الطيب يوفق الله بين الزوجين. إن الله تعالى عليم، لا يخفى عليه شيء من أمر عباده، خبير بما تنطوي عليه نفوسهم.
أي: وإن خفتم الشقاق بين الزوجين والمباعدة والمجانبة حتى يكون كل منهما في شق { فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا } أي: رجلين مكلفين مسلمين عدلين عاقلين يعرفان ما بين الزوجين، ويعرفان الجمع والتفريق. وهذا مستفاد من لفظ "الحكم" لأنه لا يصلح حكما إلا من اتصف بتلك الصفات. فينظران ما ينقم كل منهما على صاحبه، ثم يلزمان كلا منهما ما يجب، فإن لم يستطع أحدهما ذلك، قنَّعا الزوج الآخر بالرضا بما تيسر من الرزق والخلق، ومهما أمكنهما الجمع والإصلاح فلا يعدلا عنه. فإن وصلت الحال إلى أنه لا يمكن اجتماعهما وإصلاحهما إلا على وجه المعاداة والمقاطعة ومعصية الله، ورأيا أن التفريق بينهما أصلح، فرقا بينهما. ولا يشترط رضا الزوج، كما يدل عليه أن الله سماهما حكمين، والحكم يحكم ولو لم يرض المحكوم عليه، ولهذا قال: { إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا } أي: بسبب الرأي الميمون والكلام الذي يجذب القلوب ويؤلف بين القرينين. { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا } أي: عالمًا بجميع الظواهر والبواطن، مطلعا على خفايا الأمور وأسرارها. فمن علمه وخبره أن شرع لكم هذه الأحكام الجليلة والشرائع الجميلة.
قوله تعالى : ( وإن خفتم شقاق بينهما ) يعني : شقاقا بين الزوجين ، [ والخوف بمعنى اليقين ، وقيل : هو بمعنى الظن يعني : إن ظننتم شقاق بينهما .
وجملته : أنه إذا ظهر بين الزوجين ] شقاق واشتبه حالهما فلم يفعل الزوج الصفح ولا الفرقة ولا المرأة تأدية الحق ولا الفدية وخرجا إلى ما لا يحل قولا وفعلا بعث الإمام حكما من أهله إليه وحكما من أهلها إليها ، رجلين حرين عدلين ، ليستطلع كل واحد من الحكمين رأي من بعث إليه إن كانت رغبته في الوصلة أو في الفرقة ، ثم يجتمع الحكمان فينفذان ما يجتمع عليه رأيهما من الصلاح ، فذلك قوله عز وجل : ( فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا ) يعني : الحكمين ، ( يوفق الله بينهما ) يعني : بين الزوجين ، وقيل : بين الحكمين ، ( إن الله كان عليما خبيرا ) [ أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الكسائي ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنا الشافعي ، أنا الثقفي ، عن أيوب عن ابن سيرين عن ] عبيدة أنه قال في هذه الآية ( وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها ) قال : جاء رجل وامرأة إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومع كل واحد منهما فئام من الناس ، فأمرهم علي رضي الله عنه فبعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها ثم قال للحكمين : أتدريان ما عليكما؟ إن رأيتما أن تجمعا جمعتما وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما ، قالت المرأة رضيت بكتاب الله بما علي فيه ولي ، فقال الرجل : أما الفرقة فلا فقال علي رضي الله عنه : كذبت والله حتى تقر بمثل الذي أقرت به .
واختلف القول في جواز بعث الحكمين من غير رضا الزوجين : وأصح القولين أنه لا يجوز إلا برضاهما ، وليس لحكم الزوج أن يطلق دون رضاه ، ولا لحكم المرأة أن يخالع على مالها إلا بإذنها ، وهو قول أصحاب الرأي لأن عليا رضي الله عنه ، حين قال الرجل : أما الفرقة فلا قال : كذبت حتى تقر بمثل الذي أقرت به . فثبت أن تنفيذ الأمر موقوف على إقراره ورضاه .
والقول الثاني : يجوز بعث الحكمين دون رضاهما ، ويجوز لحكم الزوج أن يطلق دون رضاه ولحكم المرأة أن يخلع دون رضاها ، إذا رأيا الصلاح ، كالحاكم يحكم بين الخصمين وإن لم يكن على وفق مرادهما ، وبه قال مالك ، ومن قال بهذا قال : ليس المراد من قول علي رضي الله عنه للرجل حتى تقر : أن رضاه شرط ، بل معناه : أن المرأة رضيت بما في كتاب الله [ فقال الرجل : أما الفرقة فلا يعني : الفرقة ليست في كتاب الله ] ، فقال علي : كذبت ، حيث أنكرت أن الفرقة في كتاب الله ، بل هي في كتاب الله ، [ فإن قوله تعالى : ( يوفق الله بينهما ) يشتمل على الفراق وغيره ] لأن التوفيق أن يخرج كل واحد منهما من الوزر وذلك تارة يكون بالفرقة وتارة بصلاح حالهما في الوصلة .
(وَإِنْ خِفْتُمْ) إن شرطية جازمة وفعل ماض والتاء فاعله وهو في محل جزم فعل الشرط (شِقاقَ) مفعوله (بَيْنِهِما) مضاف إليه (فَابْعَثُوا حَكَماً) فعل أمر وفاعله ومفعوله والجملة في محل جزم جواب الشرط (مِنْ أَهْلِهِ) متعلقان بمحذوف صفة لحكما (وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها) عطف (إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً) فعل مضارع مجزوم بحذف النون وألف الاثنين فاعله وإصلاحا مفعوله (يُوَفِّقِ اللَّهُ) جواب الشرط المجزوم وفاعله و(بَيْنِهِما) ظرف مكان متعلق بيوفق والجملة جواب شرط لا محل لها لم تقترن بالفاء.
Traslation and Transliteration:
Wain khiftum shiqaqa baynihima faibAAathoo hakaman min ahlihi wahakaman min ahliha in yureeda islahan yuwaffiqi Allahu baynahuma inna Allaha kana AAaleeman khabeeran
And if ye fear a breach between them twain (the man and wife), appoint an arbiter from his folk and an arbiter from her folk. If they desire amendment Allah will make them of one mind. Lo! Allah is ever Knower, Aware.
Karıyla kocanın arasında bir ayrılık olacağından korkarsanız koca tarafından bir hakem, kadın tarafından da bir hakem gönderin. Aralarının düzelmesini dilerlerse Allah da bu hususta başarı verir onlara. Şüphe yok ki Allah her şeyi bilir ve her şeyden haberdardır.
Si vous craignez le désaccord entre les deux [époux], envoyez alors un arbitre de sa famille à lui, et un arbitre de sa famille à elle. Si les deux veulent la réconciliation, Allah rétablira l'entente entre eux. Allah est certes, Omniscient et Parfaitement Connaisseur.
Und wenn ihr Streitigkeit zwischen ihnen (den Eheleuten) fürchtet, dann schaltet einen Schiedsmann von seinen Angehörigen und einen Schiedsmann von ihren Angehörigen ein. Und wenn beide Versöhnung wollen, wird ALLAH beide erfolgreich sein lassen. Gewiß, ALLAH bleibt immer allwissend, allkundig.