الجوهرُ الفرد والهندسة الكُسوريَّة: "كلُّ شيءٍ فيه كلُّ شيء"
نشر هذا المقال في العدد الثالث من مجلة الإمارات الثقافية التي يصدرها مركز سلطان بن زايد.
الجوهر الفرد ووحدة الوجود:
إنَّ إدراك العلاقة الوجودية بين الكثرة الظاهرة للخلق وحقيقة وحدانيّة وأحديّة الخالق هو المفتاح الأساسي لفهم الرؤية الصوفية للوجود، وخاصة مدرسة ابن العربي التي تتمحور حول ما يُسمَّى بوحدة الوجود التي تؤكِّد أنّ الوجود في ذاته وحقيقته جوهرٌ فردٌ واحدٌ لا يتجزّأ ولا يتكثَّر، بل هو الذي يتجلَّى أو يَظهرُ تباعاً في صور العالَم المختلفة المنتشرة في أركان المكان والمتتالية عبر لحظات الزّمان.
يستخدم ابن العربي نفس مصطلحات أنصار النظريّة الذرّية من الفلاسفة المسلمين، وخاصة علماء الكلام الأشاعرة؛ فيقول إنّ الوجود مبنيٌّ على الجواهر والأعراض، ولكنّه يختلف معهم في التعريف الدقيق لهذه الكلمات. فالعَرَض عند علماء الكلام صفةٌ ليست لازمة للأجسام، مثل الألوان وما شابهها مما يمكن أن يتغيّر مع الوقت، في حين إنّ الجوهر لا يتغيّر. أمّا ابن العربي فيعدُّ كلَّ الصور التي نراها في العالَم أعراضاً تتغيّر وتزول، وهي تحدث في الجوهر الذي يمكن القول إنّه شيء وراء الطبيعة وليس له شكلٌ أو صفةٌ محدّدة في حدّ ذاته، ولكنّه يأخذ صفاتٍ مختلفةً بحسب الأعراض التي يظهر بها. فالجوهر شيء قائم بنفسه في حين إنّ العَرَض لا يقوم إلاّ في الجوهر، والذي بدوره لا يظهر في الوجود إلا من خلال الأعراض التي يلبسها. لذلك نحن لا يمكن أن نرى الجوهر أو نتصوَّره وإنّما نرى الأعراض فقط. فيقول ابن العربي إنّ من شرط وجود العَرَض وجود المحل، والجوهر محتاجٌ فيما أعطاه الحقّ من خلق العَرَض فيه، إذ لا يكون له وجودٌ إلا بوجود عَرَضٍ ما.[1] ثم يضيف في مكان آخر فيقول إنّ العرض لا يستمرّ في الوجود زمانين، بل ينعدم تلقائياً في الزّمن الثاني بعد زمان وجوده،[2] وهذا يعني أنَّ الوجود كلَّه ما هو إلا تكرار ظهور هذا الجوهر الفرد في المكان والزمان.
ففي الفتوحات المكية يقرِّر ابن العربي بكلِّ وضوحٍ أنَّ العالَم واحدٌ بالجوهر كثيرٌ بالصورة، وإذا كان واحداً بالجوهر فإنّه لا يستحيل (أي لا يتحوَّل) وكذلك الصورة أيضاً لا تستحيل؛ فالحرارةُ لا تكون برودةً، والبياضُ لا يستحيل سواداً، والتثليث لا يصير تربيعاً؛ لكنَّ الحارّ قد يوجد بارداً لا في زمان كونه حارّاً، وكذلك الأبيض قد يكون أسوداً في زمان آخر، ولكن ليس هناك استحالة، وإنَّما هو ظهور جديد في صور مختلفة. فالعالَم في كلِّ زمانٍ فردٍ يتكوّن ويفسد، ولا بقاء لعين جوهر العالَم لولا قبول التكوين فيه.[3]
الأسماء المختلفة للجوهر الفرد:
بشكل عام تُستعمل كلمة جوهر (Monad) للدلالة على كلِّ شيءٍ واقعي أو حقيقي، وهي في الأصل تُستخدم للأحجار والمعادن النفيسة، وكذلك هي المقولة الأولى من المقولات العشر لأرسطو، كما استخدمها بلوتينوس أيضاً للدلالة على الحقّ الواحد الأزلي الذي يدعوه أيضاً جوهر الجواهر. وكذلك ابن العربي يستخدم كلمة الجوهر للدلالة على الحقّ الواحد ولكن ليس كاسم من أسماء الله سبحانه وتعالى وإنّما للحقِّ المخلوق به، وذلك من قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَ إِلاَّ بِالْحَقِّ) [الحجر 85]، وهو بالنسبة لابن العربي الجوهر الفرد الوحيد الذي يمكن أن يتّصف بالوجود الحقيقي.
بالإضافة إلى ذلك، يستخدم ابن العربي في كتبه العديدة أسماءً مختلفةً للجوهر الفرد، أكثرها مستوحىً من القرآن الكريم أو الحديث الشريف، مثل: العقل الأوّل، والقلم الأعلى، والإنسان الكامل، والخليفة، والإمام المبين، والدرّة البيضاء، والحقِّ المخلوق به، والعنصر الأعظم، وعين العالَم، والروح الكلّي، ... إلخ. ومع أنَّ جميع هذه الأسماء تشير في النهاية إلى الجوهر الفرد غير أنَّ هناك فروقات دقيقة بينها تشرح الوظائف أو الصفات أو التجليات المختلفة للجوهر. غير أنَّ أحد أكثر هذه الأسماء أهميَّةً هو "كلُّ شيء"، حيث يقول ابن العربي في كتاب المسائل: "كلُّ شيءٍ فيه كلُّ شيءٍ" حتى وإن لم ندرك ذلك.[4] فهذه العبارة هي من جهةٍ أولى تعبيرٌ صريح عن نظريّة الجوهر الفرد لأنّها تؤول إلى: إنَّ كلَّ شيءٍ، وهو الجوهرُ الفردُ، (يظهر) في كلّ شيءٍ (في العالم).
ولكن من جهةٍ أخرى، فإنَّ الأمر المثير والبالغ الأهمية هو التفكير في هذه العبارة بشكلٍ مقلوب، فهي تعني أيضاً أنّ التركيبَ الداخليَّ للجوهر الفرد -مع أنّه لا يتجزّأ ولا يتكثّر- يشبه تركيب العالَم بأكمله، لأنّها يمكن أن تؤول إلى: في كلِّ شيء (حتى الجوهر الفرد) هناك كلُّ شيء (حتى العالَم)! وهذا البيان الأخير رغم غرابته إلاّ إنّه معقولٌ جدّاً خاصّة أنّ كلاًّ من الجوهر الفرد (وهو الإنسان الكامل) والعالَم هما على الصورة الإلهية، وذلك من قول النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم في الحديث الصحيح: "خَلَقَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ آدَمَ على صُورَتِهِ"، وفي رواية أخرى: "خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَةِ الرَّحمٰنِ"، أي أعطاه من الصفات ما يوجد مسمّاها عند الله عزّ وجلّ، بمعنى أنّ الأسماء الإلهيّة لله تعالى تظهر بمجموعها في الإنسان بشكلٍ مجمل، وكذلك في مجموع العالَم، بما فيه الإنسان الذي هو روح العالَم، بشكل مفصَّل. فيقول ابن العربي كما أنَّ الله تعالى خلق الإنسان على صورته فكذلك خلق العالَم وكُلَّ شيء فيه على صورة الإنسان (الكامل)، وهو الجوهر الفرد.[5] وقد أوضح ابن العربي هذه الرؤية البديعة، في كتاب التدبيرات الإلهية وكذلك كتاب إنشاء الدوائر بالإضافة إلى ما ذكره في ثنايا كتاب الفتوحات المكية، وكثيراً ما يُعبَّر عن ذلك بالقول إنَّ العالم هو إنسان كبير، والإنسان عالمٌ صغير، والمقصود بالإنسان هنا هو الإنسان الكامل وهو الجوهر الفرد.
إنَّ أصل هذه النظرية، عند ابن العربي، يعود لكون كلِّ شيءٍ في الوجود يستند إلى حقائق وأسماء إلهية، والأسماء الإلهيَّة عند ابن العربي غير متناهية،[6] فكلُّ شيءٍ في الكون يستند إلى اسم إلهيِّ خاص، وبالرغم من أنَّ كلّ اسم مختلف عن الآخرين، لكنّ ابن العربي يؤكّد أنّ كلّ الأسماء متضمَّنة في كلِّ واحدٍ منها، بمعنى أنّ كلّ اسم يمكن أن يوصف بجميع الأسماء الأخرى،[7] لأنَّ جميع هذه الأسماء، على كثرتها، لا تشير سوى إلى الذات الأحدية: (قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى) [الإسراء: 110].
إنَّ فكرة تشابه أو تماثل العالم الصغير، وهو الجوهر الفرد، والعالم الكبير الذي هو الكون بأسره، هي فكرة على غاية كبيرة من الأهميَّة، وقد بدأت في العقود الأخيرة تتبلور نظرية رياضية مشابهة صارت تلقى رواجاً متزايداً لقدرتها العظيمة على وصف الكثير من الأشكال المتناظرة في الطبيعة، وهي ما يسمى بالهندسة الكسورية.
الهندسة الكسورية:
كان علماء الرياضيات في السابق يهتمون بالمجموعات والتوابع النظامية ذات الأبعاد الصحيحة والتي يمكن حسابها بالطرق التقليدية، ثم بدأ الاهتمام في العقود الأخيرة بالتوابع المعقدة غير النظامية، ذات الأبعاد الكسرية، لأنّها أقرب تمثيلاً للعديد من الظواهر والأشكال الطبيعية، وهذا الحقل من الرياضات يُدعى "نظرية التعقيد"، وأحد أهم فروع هذه النظرية هي الهندسة الكُسُوريَّة أو الكُسَيْريَّة (fractal geometry)، وهي مشتقة من كلمة "الكَسْر" أو "الكُسَير" وهو تصغير الكسر.
بدأت الهندسة الكُسُوريَّة سنة 1975 حين طرح بينويت ماندلبرت سؤالاً يبدو بسيطاً وساذجاً، وهو: كم يبلغ طول شاطئ بريطانيا؟ فيمكن أن نجد جواب هذا السؤال في أيِّ كتاب من كتب الجغرافيا، ولكنَّ السؤال هو ما دقّة هذا الجواب! لقد وجد ماندلبرت أنّ الهندسة الكلاسيكية لا تستطيع أن تجيب على هذا السؤال، فمع قليلٍ من البحث يتبيَّن أنَّ طول الشاطئ لا نهائيٍّ، وذلك إذا أخذنا بعين الاعتبار جميع التعرُّجات الجبلية والصخرية وحتى المسافات المتعرِّجة بين الحصى والرمال على الشاطئ. لكنَّ ماندلبرت أوضح أنَّه يمكن وصف الشاطئ من خلال رقم كسري يقع بين 1 و2، يُسمّى بـ"البعد الكسوري" وهو يعبِّر عن درجة التعرُّج.[8]
وهكذا بدأت الهندسة الكسورية حينما نشر ماندلبروت أبحاثه في كتابه الشهير "الكائنات الكسورية" سنة 1975، ثم في كتاب "الهندسة الكسورية للطبيعة" سنة 1992، وقد تبيَّن أنّ أكثر الصور المعقّدة هي في الحقيقة تكرار لنماذج بسيطة أساسية ل تختلف فيما بينها سوى بالمقياس، كما هو الحال في الأمثلة التالية:
هذا الشكل يُظهر كيف تتشكّل أغصان الشجرة من تفرُّع الجزع إلى فرعين، يتفرَّع كلٌّ منهما إلى فرعين جديدين، وهكذا إلى أن نصل في النهاية إلى الأوراق بل وحتى إلى العروق الصغيرة التي في داخلها. |
هذا شكل مخروطي معقد، ولكن نلاحظ بوضوح أنَّ كلَّ جزء من محيطه هو مخرورط يماثل الشكل الأصلي، وكذلك فإنَّ كلَّ جزء من محيط المخروطات الصغيرة يماثل الشكل الأصلي، وهكذا إلى ما لا نهاية له. |
هذه صورة لتابع ماندلبرت الشهير، ومن ميِّزاته أنّه لو كبَّرن أيَّ بقعة صغيرة منه بشكل كافٍ فلا بدَّ أن يظهر منها شكل جديد يشبه الشكل الأصلي. |
وبهذا الشكل تستطيع الهندسة الكسورية تمثيل العديد من الظواهر أو الأشكال الطبيعية المعقدة، مثل: الشعاب المرجانية ذات السطوح الخشنة، وأشكال ندف الثلج، وأنماط توزيع المجرات في الفضاء، وسطوح بعض الأنسجة الحيوية، وأشكال بعض الأشجار والنباتات. حتى إنَّ بعض النباتات لها أشكال كسورية واضحة، حيث إنَّ كلَّ جزءٍ منه له نفس الشكل الأوَّلي ولكن بمقياسٍ أصغر، وهذه بعض الأمثلة:
شكل أي غصن من أغصان هذه الشجرة مماثل لشكل الشجرة بأكملها. |
في هذا الشكل تنقسم الأوراق لفروع تشبه شكل الورقة الكاملة، وكذلك تنقسم الفروع إلى فروع أخرى تشبهها |
في ثمرة الزهرة (البروكلي) هذه، كلّ جزء منها مماثل للكل، وكل جزء من أجزائها مماثل أيضاً للكل، وهكذا حتى أصغر المستويات |
صورة أخرى مكبرة لثمرة الزهرة (البروكلي) حيث كلّ جزء منه مماثلٌ للكل، وكل جزء من أجزائها مماثل أيضاً للكل، وهكذا حتى أصغر المستويات، وانظر كيف أنَّ شكل هذه الثمرة مطابق تماماً لشكل المخروط في الصور السابقة أعلاه. |
بنية الجوهر الفرد:
في بداية الفصل الأوّل من كتاب التدبيرات الإلهية يقول ابن العربي إنّ أوّل الموجودات عن الله سبحانه وتعالى هو جوهرٌ فردٌ روحاني بسيط، متحيّزٌ عند قوم وغير متحيّزٍ عند آخرين.[9] فبعض الفلاسفة يقول إنَّ الجوهر كيان طبيعي (فيزيقي) متحيّز وبعضهم يقول إنّه كيان غيبي (ميتافيزيقي)، أي غير متحيّز.[10] ومع أنّه في الحقيقة يدعم الرأي الثاني،[11] لكنّ ابن العربي كثيراً ما يتماشى مع كون الجوهر متحيّزاً، ربما لأن الكلام عن الأحياز ليس له معنى إذا تذكّرنا أنّه ليس هناك في الحقيقة سوى جوهر واحد فقط، يتّصف بالوجود الحقيقي، وبالتالي ليس هناك أيُّ معنىً للمقارنة، لأنَّ الحديث عن الحيِّز والأبعاد يتضمَّن تصوُّر الكثرة والتعدُّد. من أجل ذلك نلاحظ أنَّ ابن العربي يصف الجوهر بأنّه متحيِّز عندما يتكلّم عن العالَم الظاهري،[12] في حين إنّ جواهر الأرواح لا يمكن أن تكون متحيّزة،[13] مع إنّ كلا الظاهرتين الجسمية والروحانية ليستا سوى انعكاسات للجوهر الفرد الذي ل يمكن أن يتّصف في حدّ ذاته بالتحيّز أو غيره، لأنه بالضرورة كلُّ شيء.
وفي كلِّ الأحول يقول ابن العربي إنّ الجوهر وإن كان متحيّزاً إلا أنّه غير قابل للقسمة، لأنَّ المتحيّز إمّا أن يكون مركّباً ذا أجزاء وإمّا أن لا يكون ذا أجزاء. فإن لم يكن ذا أجزاء فهو الجوهر الفرد وإن كان ذا أجزاء فهو الجسم.[14]
إذاً فالجوهر الفرد رغم إنّه واحد غير قابل للقسمة، لكنّه لا يزال مركّباً من عناصر أبسط منه، ولكنّه لا يمكن أن يتحلّل إلى هذه العناصر وإنّما فقط يوجد مركّباً بهذا الشكل. فما هي هذه العناصر التي يتركّب منها هذا الجوهر الفرد؟
العنصر الأعظم:
في كتاب عقلة المستوفز يتكلّم ابن العربي باقتضاب حول العنصر الأعظم الذي خلقه الله في الغيبِ المطلق الذي لا يمكن كشفه لمخلوق، وهو يشير هناك بأنّ خلق أو إبداع هذا العنصر الأعظم كان دُفعةً واحدًة وبدون أيّ أسباب متوسّطة أو سابقة بينه وبين الله تعالى.[15] لذلك فإنّ هذا العنصر الأعظم كان الركيزة الأساسية لكلّ الخلق اللاحق سواء الطبيعي أو الروحاني، فكلّ شيء في النهاية يرتبط به عن طريق الجوهر الفرد الذي لا يقبل القسمة. ثم يقول ابن العربي في كتاب عقلة المستوفز إنّ هناك 46,656,000 رقيقة نورانية بين العقل الأوّل، الذي هو الجوهر الفرد، والعنصر الأعظم الذي هو أصله. وهذا العدد في الحقيقة ناتج عن تكعيب العدد 360 (3360=46,656,000) الذي يشكّل عدد درجات الدائرة وفقاً للنظام الستيني الذي اعتمده البابليون.
إنّ النسبة بين العالَم والجوهر الفرد والعنصر الأعظم يمكن أن تُمثّل بالعلاقة بين البناء واللبنة والذرّات التي تشكّل هذه اللبنة؛ فالبناء مؤلّف من لبنات كثيرة كما أنّ العالَم مؤلّف من الجواهر التي هي صور أو حالات مختلفة للجوهر الفرد، والجوهر الفرد مركّب بشكل ما من العنصر الأعظم كما أنّ اللبنة مركّبة من ذرّات الإسمنت مثلاً. كذلك يقول ابن العربي إنّ العنصر الأعظم بالنسبة إلى دائرة العالَم مثل النقطة التي في مركزها، والقلم (أي العقل الأوّل أو الجوهر الفرد) مثل المحيط، بينما النفس الكلّيّة هي ما بين النقطة والمحيط؛ فكما أنّ النقطة تقابل المحيط بكامله كذلك هذا العنصر الأعظم يقابل العقل الأوّل بكامله عن طريق الرقائق التي ذكرناها (الـ46,665,000 رقيقة) وهي واحدة في العنصر الأعظم لكنّها في العقل الأوّل تصبح مضاعفةً ومتفرّعة.
فكما أنَّ الجوهر الفرد يُظهر الوجود من خلال تكرار تجليه في الصور المختلفة، كذلك فإنَّ العنصر الأعظم يُظهر الجوهر الفرد من خلال هذه الرقائق النورانية التي يصفها ابن العربي، وذلك بشكل يشبه الصور الهندسية الكسورية التي عرضناها أعلاه والتي تتجلَّى كذلك في العديد من الأجسام الطبيعية، وخاصة الأشجار وثمر بعض النباتات.
مستويات أخرى من التناظر:
إنَّ هذا التناظر والتماثل بين الجوهر الفرد والعالم، والذي وجدنا فيه كيف أنّ الجوهر الفرد هو عالم صغير مختصر عن العالم الكبير وكيف أنَّ العنصر الأعظم هو الذي يُظهر الجوهر الفرد كما يُظهر الجوهر الفرد جميع صور الوجود، أقول إنَّ هذا التناظر يظهر على مستويات كثيرة في الوجود كلٌّ منها بحاجة إلى بحث خاص.
وكمثال على ذلك نأخذ اللغة وعالم الحروف حيث يعدّ ابن العربي عالَم الحروف عالَماً قائماً بذاته وهي تترتب بشكل هرميٍّ يكون حرف الألف على رأسه، سواء من حيث لفظه أو من حيث رقمه في اللغة العربية، وذلك لأنَّ جميع الحروف تنحلّ إليه وتتركّب منه ولا ينحلّ هو إليها، ولكنَّه يمكن أن ينحلّ تقديرياً إلى النقطة. فنسبة الجوهر الفرد والعنصر الأعظم مثل نسبة الألف والنقطة؛ فالألف يتكوّن من مجموعة نقاط أو بالأحرى من تكرار ظهور النقطة لتشكّل الخط النازل الذي هو الألف. فذلك مثل الجوهر الفرد الذي هو مركّب من العنصر الأعظم ولكنّه لا يتحلّل إليه؛ فكما أنّه ليس هناك نصف حرف ألف فليس هناك نصف جوهر فرد. ومن جهة أخرى فإنّ جميع الحروف تتحلّل بشكل أو بآخر إلى حرف الألف لأنّ حرف الألف في اللفظ هو أوّل خروج النفَس، أمّا إن خرج النفَس مع ضمّ الشفاه أو تحريك اللسان فتكون الحروف الأخرى. فالحروف جميعها مركبّة من حرف الألف، ثم يستمرّ التركيب في الكلمات والجمل والكتب لتشكّل عالَماً ل تتناهى صوره؛ كما تتركّب جميع صور العالَم من الجوهر الفرد بنفس الطريقة لا جَرَم أنّ العالَم على الحقيقة هو كلمات الله تعالى التي لا تنفد.
وكذلك فإنّ العلاقة بين العنصر الأعظم والجوهر الفرد والعالم، تظهر على مستوى الأسماء الإلهية، فهي مثل العلاقة بين اسم الذات، الله سبحانه وتعالى وله الأحديَّة، والاسم الرَّحمن، الذي استوى به على العرش، وله الواحديَّة، وبقية الأسماء التي تجلَّت في مستويات الوجود، وهي تتدرَّج في شكلٍّ هرميٍّ درسناه في بحث آخر غير منشور.
كما تنعكس نفس هذه العلاقة مثلاً في مناسك الحج في الحجر الأسود والكعبة المشرّفة، التي يقول فيها الشيخ محي الدين إنّها بالنسبة إلى العرش المحيط مثل القلب بالنسبة إلى الجسم؛ فهي مثل الجوهر الفرد في الكون، لأنّ الجوهر الفرد مثل القلب في الجسم، فهو قلب العالَم. والحجر الأسود مثل العنصر الأعظم، كما أنَّ السرَّ في القلب مثله. وكذلك فقد درسنا هذا الموضوع بالتفصيل في منشورات أخرى. وهناك مستويات أخرى كثيرة جديرة بالاهتمام ولكن يقصر المجال عن ذكر الآن.
[1] الفتوحات المكية [الفتوحات المكية في معرفة الأسرار الملكية والمالكية]، قامت بطباعتها دار الكتب العربية الكبرى بمصر (بمطبعة مصطفى الحلبى وأخويه، وهي مطبعة الميمنية) سنة 1329 هـ، وقد تم إعادة طباعتها في دور نشر عديدة منها دار صادر ودار الكتب العلمية ببيروت: ج2ص179س26.
[2] الفتوحات المكية: ج2ص677س30، ج3ص452س24.
[3] الفتوحات المكية: ج2ص454س1.
[4] كتاب المسائل لإيضاح المسائل، تأليف ابن العربي، تحقيق قاسم محمد عباس (دار أزمنة-عمّان، 1999): ص58.
[5] الفتوحات المكية: ج2ص652س25.
[6] الفتوحات المكية: ج4ص288س2.
[7] الفتوحات المكية: ج1ص101س5.
[8] راجع مثلاً: Benoit Mandelbrot, Michael Frame, Fractals, Graphics, and Mathematics Education (The Mathematical Association of America, 2002), p. 37.
وأيضاً: Ian Stewart, C. Arthur, Sir Clarke, Benoit Mandelbrot, Michael Barnsley, Louisa Barnsley, Will Rood, Gary Flake, David Pennock, R. Robert, Jr. Prechter, Nigel Lesmoir-Gordon, The Colours of Infinity: The Beauty, and Power of Fractals (Bath, UK: Clear Books, 2004), p. 60.
[9] التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية (دار الكتب العلمية-بيروت، 2000): ص87.
[10] الفتوحات المكية: ج1ص47س22.
[11] الدرّة البيضاء (ضمن مجموعة رسائل ابن عربي، مؤسسة الانتشار-بيروت، 2002-2004.): ص134.
[12] الفتوحات المكية: ج2ص438س2.
[13] الفتوحات المكية: ج2ص309س25.
[14] الفتوحات المكية: ج2ص454س1.
[15] عقلة المستوفز لابن العربي (مكتبة الثقافة الدينية-القاهرة، 1998): ص38.