موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المنقذ من الضلال والموصل إلى ذي العزة والجلال

تأليف الشيخ الإمام حجة الإسلام أبي حامد الغزالي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


ووراء العقل طور آخر تنفتح فيه عين أخرى:

 يبصر بـها الغيب وما سيكون في المستقبل ، وأموراً أُخر ، العقل معزول عنها كعزل قوة التمييز عن إدراك المعقولات وكعزل قوة الحس عن مدركات التمييز. وكما أن المميز لو عرضت عليه مدركات العقل لأباها واستبعدها ، فكذلك بعض العقلاء أبوا مدركات النبوة واستبعدوه ، وذلك عين الجهل : إذ لا مستند لهم إلا أنه طور لم يبلغه ولم يوجد في حقه ، فيظن أنه غير موجود في نفسه. والأكمه ، لو لم يعلم بالتواتر والتسامع الألوان والأشكال وحكي له ذلك ابتداءً ، لم يفهمها ولم يقرّ بـها. وقد قرب الله تعالى على خلقه بأن أعطاهم نموذجاً من خاصية النبوة ، وهو النوم : إذ النائم يدرك ما سيكون من الغيب ، إما صريحاً وإما في كسوة مثال يكشف عنـه التعبير. وهذا لو لم يجربه الإنسان من نفسه - وقيل له: (( إن من الناس من يسقط مغشياً عليه كالميت ، ويزول ( عنه ) إحساسه وسمعه وبصره فيدرك الغيب. )) – لأنكره ، وأقام البرهان على استحالته ، وقال: (( القوى الحساسة أسباب الإدراك ، فمن لا يدرك الأشياء مع وجودها وحضورها ، فبأن لا يدرك مع ركودها أولى وأحق. )) وهذ نوع قياس يكذبه الوجود والمشاهدة. فكما أن العقل طور من أطوار الآدمي ، يحصل فيه عين يبصر بـها أنواعاً من المعقولات ، والحواس معزولة عنها ، فالنبوة أيضاً عبارة عن طور يحصل فيه عين له نور يظهر في نورها الغيب ، وأمور لا يدركها العقل.

والشك في النبوة ، إما أن يقع: في إمكأنـها ، أو في وجودها ووقوعها ، أو في حصولها لشخص معين.

ودليل إمكأنـها وجودها. ودليل وجودها وجود معارف في العالم لا يتصور أن تنال بالعقل ، كعلم الطب والنجوم ؛ فإن من بحث عنها علم بالضرورة أنها لا تدرك إل بإلهام إلهي وتوفيق من جهة الله ( تعالى ) ، ولا سبيل إليها بالتجربة. فمن الأحكام النجومية ما لا يقع إلا في كل ألف سنة مرة ، فكيف ينال ذلك بالتجربة ؟ وكذلك خواص الأدوية. فتبين بـهذا البرهان أن في الإمكان وجود طريق لإدراك هذه الأمور التي ل يدركها العقل - وهو المراد بالنبوة - لا أن النبوة عبارة عنها فقط ، بل إدراك هذ الجنس الخارج عن مدركات العقل إحدى خواص النبوة ، ولها خواص كثيرة سواها. وما ذكرن ، فقطرة من بحرها ؛ إنما ذكرناها لأن معك أُنموذجاً منها ، وهو مدركاتك في النوم ؛ ومعك علوم من جنسها في الطب والنجوم ، وهي معجزات الأنبياء ( عليهم الصلاة والسلام ) ، ولا سبيل إليها للعقلاء ببضاعة العقل أصلاً.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!