موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المنقذ من الضلال والموصل إلى ذي العزة والجلال

تأليف الشيخ الإمام حجة الإسلام أبي حامد الغزالي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


سَبَب نشر العِلْم بعَدْ الإعرَاضِ عَنـه

ثم إني ، لما واظبت على العزلة والخلوة قريباً من عشر سنين ، بان لي في أثناء ذلك على الضرورة من أسباب لا أحصيها ، مرة بالذوق ، ومرة بالعلم البرهاني ، ومرة بالقبول الإيماني : أن الإنسان خلق من بدن وقلب - وأعني بالقلب حقيقة روحه التي هي محل معرفة الله ، دون اللحم والدم الذي يشارك فيه الميت والبهيمة - ، وأن البدن له صحة بـها سعادته ومرض فيه هلاكه ؛ وأن القلب كذلك له صحة وسلامة ، ول ينجو (( إلا من أتى الله بقلب سليم )) (الشعراء:89) ؛ وله مرض فيه هلاكه الأبدي الأخروي ، كما قال تعالى : (( في قلوبـهم مرضٌ )) (البقرة:10) وأن الجهل بالله سم مهلك ؛ وأن معصية الله ، بمتابعة الهوى ، داؤه الممرض ، وأن معرفة الله تعالى ترياقه المحيي ، وطاعته بمخالفة الهوى ، دواؤه الشافي ؛ وأنه ل سبيل إلى معالجتة بازالة مرضه وكسب صحته ، الا بأدوية ؛ كما لا سبيل إلى معالجة البدن إلا بذلك. وكما أن أدوية البدن تؤثر في كسب الصحة بخاصية فيها ، لا يدركها العقلاء ببضاعة العقل ، بل يجب فيها تقليد الأطباء الذين أخذوها من الأنبياء ، الذين اطلعوا بخاصية النبوة على خواص الأشياء ، فكذلك بان لي ، على الضرورة ، بأن أدوية العبادات بحدودها ومقاديره المحدودة المقدرة من جهة الأنبياء ، لا يدرك وجه تأثيرها ببضاعة عقل العقلاء ، بل يجب فيها تقليد الأنبياء الذين أدركوا تلك الخواص بنور النبوة ، لا ببضاعة العقل. وكما أن الأدوية تركب من ( أخلاط مختلفة ) النوع والمقدار وبعضها ضعف البعض في الوزن والمقدار ، فلا يخلو اختلاف مقاديرها عن سر هو من قبيل الخواص ، فكذلك العبادات التي هي أدوية داء القلوب ، مركبة من أفعال مختلفة النوع والمقدار ، حتى أن السجود ضعف الركوع ، وصلاة الصبح نصف صلاة العصر في المقدار ؛ ولا يخلو عن سر من الاسرار ، هو من قبيل الخواص التي لا يطلع عليها الا بنور النبوة. ولقد تحامق وتجاهل جداً من أراد أن يستنبط ، بطريق العقل ، لها حكمة ، أو ظن أنـها ذكرت على الاتفاق ، لا عن سر إلهي فيها ، يقتضيها بطريق الخاصية. وكما أن في الأدوية أصولاً هي أركأنـها ، وزوائد هي متمماتها ، لكل واحد منها خصوص تأثير في أعمال أصولها ، كذلك النوافل والسنن متممات لتكميل آثار أركان العبادات.

وعلى الجملة : فالأنبياء عليهم السلام أطباء أمراض القلوب ، وإنما فائدة العقل وتصرفه أن عرّفنا ذلك وشهد للنبوة بالتصديق ولنفسه بالعجز عن درك ما يدرك بعين النبوة ، وأخذ بأيدينا وسلمنا ( إليها ) تسليم العميان إلى القائدين ، وتسليم المرضى المتحيرين إلى الأطباء المشفقين. فإلى ههنا مجرى العقل ومخطاه وهو معزول عما بعد ذلك ، إلا عن تفهم ما يلقيه الطبيب إليه.

فهذه أمور عرفناها بالضرورة الجارية مجرى المشاهدة ، في مدة الخلوة والعزلة.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!