المكتبة الأكبرية: موسوعة الحديث الشريف: (صحيح مسلم) - [الحديث رقم: (220)]
(صحيح مسلم) - [الحديث رقم: (220)]
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا لَيْثٌ ح و حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ ابْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَكَمًا مُقْسِطًا فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ وَيَفِيضُ الْمَالُ حَتَّى لَا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ و حَدَّثَنَاه عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ قَالُوا حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ ح و حَدَّثَنِيهِ حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ حَدَّثَنِي يُونُسُ ح و حَدَّثَنَا حَسَنٌ الْحُلْوَانِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ صَالِحٍ كُلُّهُمْ عَنْ الزُّهْرِيِّ بِهَذَا الْإِسْنَادِ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ إِمَامًا مُقْسِطًا وَحَكَمًا عَدْلًا وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ حَكَمًا عَادِلًا وَلَمْ يَذْكُرْ إِمَامًا مُقْسِطًا وَفِي حَدِيثِ صَالِحٍ حَكَمًا مُقْسِطًا كَمَا قَالَ اللَّيْثُ وَفِي حَدِيثِهِ مِنْ الزِّيَادَةِ وَحَتَّى تَكُونَ السَّجْدَةُ الْوَاحِدَةُ خَيْرًا مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا ثُمَّ يَقُولُا أَبُو هُرَيْرَةَ اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ { وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } الْآيَةَ
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِل فِيكُمْ عِيسَى بْن مَرْيَم صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَكَمًا مُقْسِطًا فَيَكْسِر الصَّلِيب , وَيَقْتُل الْخِنْزِير , وَيَضَع الْجِزْيَة , وَيَفِيض الْمَال حَتَّى لَا يَقْبَلهُ أَحَد ) أَمَّا ( لَيُوشِكَنَّ ) فَهُوَ بِضَمِّ الْيَاء وَكَسْر الشِّين وَمَعْنَاهُ لَيَقْرَبَنَّ. وَقَوْله : ( فِيكُمْ ) أَيْ فِي هَذِهِ الْأُمَّة وَإِنْ كَانَ خِطَابًا لِبَعْضِهَا مِمَّنْ لَا يُدْرِك نُزُوله. وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( حَكَمًا ) أَيْ يَنْزِل حَاكِمًا بِهَذِهِ الشَّرِيعَة لَا يَنْزِل بِرِسَالَةٍ مُسْتَقِلَّة , وَشَرِيعَة نَاسِخَة , بَلْ هُوَ حَاكِم مِنْ حُكَّام هَذِهِ الْأُمَّة. وَالْمُقْسِط الْعَادِل , يُقَال : أَقْسَطَ يُقْسِط إِقْسَاطًا فَهُوَ مُقْسِط إِذَا عَدَلَ , وَالْقِسْط بِكَسْرِ الْقَاف الْعَدْل , وَقَسَطَ يَقْسِط قَسْطًا بِفَتْحِ الْقَاف فَهُوَ قَاسِط إِذَا جَارَ. وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( فَيَكْسِر الصَّلِيب ) مَعْنَاهُ يَكْسِرهُ حَقِيقَة وَيُبْطِل مَا يَزْعُمهُ النَّصَارَى مِنْ تَعْظِيمه. وَفِيهِ دَلِيل عَلَى تَغْيِير الْمُنْكَرَات وَآلَات الْبَاطِل , وَقَتْل الْخِنْزِير مِنْ هَذَا الْقَبِيل. وَفِيهِ دَلِيل لِلْمُخْتَارِ مِنْ مَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْجُمْهُور أَنَّا إِذَا وَجَدْنَا الْخِنْزِير فِي دَار الْكُفْر أَوْ غَيْرهَا وَتَمَكَّنَّا مِنْ قَتْله قَتَلْنَاهُ , وَإِبْطَال لِقَوْلِ مَنْ شَذَّ مِنْ أَصْحَابنَا وَغَيْرهمْ فَقَالَ : يُتْرَك إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ ضَرَاوَة. وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( وَيَضَع الْجِزْيَة ) فَالصَّوَاب فِي مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَقْبَلهَا وَلَا يَقْبَل مِنْ الْكُفَّار إِلَّا الْإِسْلَام وَمَنْ بَذَلَ مِنْهُمْ الْجِزْيَة لَمْ يَكُفّ عَنْهُ بِهَا بَلْ لَا يَقْبَل إِلَّا الْإِسْلَام أَوْ الْقَتْل. هَكَذَا قَالَهُ الْإِمَام أَبُو سُلَيْمَان الْخَطَّابِيُّ وَغَيْره مِنْ الْعُلَمَاء رَحِمَهُمْ اللَّه تَعَالَى. وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه عَنْ بَعْض الْعُلَمَاء مَعْنَى هَذَا ثُمَّ قَالَ : وَقَدْ يَكُون فَيْض الْمَال هُنَا مِنْ وَضْع الْجِزْيَة وَهُوَ ضَرْبهَا عَلَى جَمِيع الْكَفَرَة فَإِنَّهُ لَا يُقَاتِلهُ أَحَد فَتَضَع الْحَرْب أَوْزَارَهَا. وَانْقِيَاد جَمِيع النَّاس لَهُ إِمَّا بِالْإِسْلَامِ وَإِمَّا بِإِلْقَاءِ يَد فَيَضَع عَلَيْهِ الْجِزْيَة وَيَضْرِبهَا. وَهَذَا كَلَام الْقَاضِي وَلَيْسَ بِمَقْبُولٍ وَالصَّوَاب مَا قَدَّمْنَاهُ وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَقْبَل مِنْهُ إِلَّا الْإِسْلَام فَعَلَى هَذَا قَدْ يُقَال هَذَا خِلَاف حُكْم الشَّرْع الْيَوْم فَإِنَّ الْكِتَابِيّ إِذَا بَذَلَ الْجِزْيَة وَجَبَ قَبُولهَا وَلَمْ يَجُزْ قَتْله وَلَا إِكْرَاهه عَلَى الْإِسْلَام , وَجَوَابه أَنَّ هَذَا الْحُكْم لَيْسَ بِمُسْتَمِرٍّ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة بَلْ هُوَ مُقَيَّد بِمَا قَبْل عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَقَدْ أَخْبَرَنَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة بِنَسْخِهِ وَلَيْسَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام هُوَ النَّاسِخ بَلْ نَبِيّنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْمُبَيِّن لِلنَّسْخِ. فَإِنَّ عِيسَى يَحْكُم بِشَرْعِنَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الِامْتِنَاع مِنْ قَبُول الْجِزْيَة فِي ذَلِكَ الْوَقْت هُوَ شَرْع نَبِيّنَا مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَيَفِيض الْمَال ) فَهُوَ بِفَتْحِ الْيَاء وَمَعْنَاهُ يَكْثُر وَتَنْزِل الْبَرَكَات وَتَكْثُر الْخَيْرَات بِسَبَبِ الْعَدْل وَعَدَم التَّظَالُم وَتَقِيء الْأَرْض أَفْلَاذ كَبِدهَا كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيث الْآخَر وَتَقِلّ أَيْضًا الرَّغَبَات لِقِصَرِ الْآمَال وَعِلْمهمْ بِقُرْبِ السَّاعَة فَإِنَّ عِيسَى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَعْلَام السَّاعَة وَاَللَّه أَعْلَم. وَأَمَّا قَوْله فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى : ( حَتَّى تَكُون السَّجْدَة الْوَاحِدَة خَيْرًا مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا ) فَمَعْنَاهُ وَاَللَّه أَعْلَم أَنَّ النَّاس تَكْثُر رَغْبَتهمْ فِي الصَّلَاة وَسَائِر الطَّاعَات لِقِصَرِ آمَالهمْ بِقُرْبِ الْقِيَامَة , وَقِلَّة رَغْبَتهمْ فِي الدُّنْيَا لِعَدَمِ الْحَاجَة إِلَيْهَا. وَهَذَا هُوَ الظَّاهِر مِنْ مَعْنَى الْحَدِيث. وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه : مَعْنَاهُ أَنَّ أَجْرهَا خَيْر لِمُصَلِّيهَا مِنْ صَدَقَته بِالدُّنْيَا وَمَا فِيهَا لِفَيْضِ الْمَال حِينَئِذٍ وَقِلَّة الشُّحّ , وَقِلَّة الْحَاجَة إِلَيْهِ لِلنَّفَقَةِ قِي الْجِهَاد. قَالَ : وَالسَّجْدَة هِيَ السَّجْدَة بِعَيْنِهَا أَوْ تَكُون عِبَارَة عَنْ الصَّلَاة. وَاَللَّه أَعْلَم. وَأَمَّا قَوْله : ( ثُمَّ يَقُول أَبُو هُرَيْرَة اِقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ { وَإِن مِّنْ أَهْل الْكِتَاب إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْل مَوْته } فَفِيهِ دَلَالَة ظَاهِرَة عَلَى أَنَّ مَذْهَب أَبِي هُرَيْرَة فِي الْآيَة أَنَّ الضَّمِير فِي مَوْته يَعُود عَلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام. وَمَعْنَاهَا وَمَا مِنْ أَهْل الْكِتَاب يَكُون فِي زَمَن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام إِلَّا مَنْ آمَنَ بِهِ وَعَلِمَ أَنَّهُ عَبْد اللَّه وَابْن أَمَته وَهَذَا مَذْهَب جَمَاعَة مِنْ الْمُفَسِّرِينَ. وَذَهَبَ كَثِيرُونَ أَوْ الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنَّ الضَّمِير يَعُود عَلَى الْكِتَابِيّ وَمَعْنَاهَا وَمَا مِنْ أَهْل الْكِتَاب أَحَد يَحْضُرهُ الْمَوْت إِلَّا آمَنَ عِنْد الْمَوْت قَبْل خُرُوج رُوحه بِعِيسَى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَأَنَّهُ عَبْد اللَّه وَابْن أَمَته , وَلَكِنْ لَا يَنْفَعهُ هَذَا الْإِيمَان لِأَنَّهُ فِي حَضْرَة الْمَوْت وَحَالَة النَّزْع , وَتِلْكَ الْحَالَة لَا حُكْم لِمَا يُفْعَل أَوْ يُقَال فِيهَا فَلَا يَصِحّ فِيهَا إِسْلَام وَلَا كُفْر وَلَا وَصِيَّة وَلَا بَيْع وَلَا عِتْق وَلَا غَيْر ذَلِكَ مِنْ الْأَقْوَال لِقَوْلِ اللَّه تَعَالَى : { وَلَيْسَتْ التَّوْبَة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَات حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدهمْ الْمَوْت قَالَ إِنِّي تُبْت الْآن } وَهَذَا الْمَذْهَب أَظْهَر فَإِنَّ الْأَوَّل يَخُصّ الْكِتَابِيّ وَظَاهِر الْقُرْآن عُمُومه لِكُلِّ كِتَابِيّ فِي زَمَن عِيسَى وَقَبْل نُزُوله. وَتُؤَيِّد هَذَا قِرَاءَة مَنْ قَرَأَ : ( قَبْل مَوْتهمْ ) وَقِيلَ : إِنَّ الْهَاء فِي ( بِهِ ) يَعُود عَلَى نَبِيّنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْهَاء فِي ( مَوْته ) تَعُود عَلَى الْكِتَابِيّ. وَاَللَّه أَعْلَم.



