المرتبة الثانية والعشرون: المركبات وأقسامه
من مراتب الوجود هي للمركبات ، والمركبات تنقسم إلى ستة أقسام : مركبات علمية
ومركبات عينية ومركبات سمعية ومركبات جسمانية ومركبات روحانية ومركبات نورانية .-
فأما المركبات العلمية فهي عبارة عن صور المعلومات في العلم فإن كل صورة من صور
المركبات مركبة في العلم من صور وأجزاء ، وجواهرها حسبما هو موجود في الخارج ،
وجميع ما يوجد في عالم الخيال هو من هذا القبيل على ما فيه من الاتساع ، ولهذا كان
الخيال برزخاً بين الروح والجسد ؛ لأن صورة الخيال أجزاء كلها مأخوذة من عالم الحس
وتركيبه وتصويره عالم الروح فصار ممزوج الحكم ، مثال ذلك إذا صورت شجرة من زمردة
خضراء لها ثمار من الياقوت الأحمر أحلى من العسل وألذ من النكاح وتكون هذه بقدر
العالم مرات كثيرة طولاً وعرضاً وعمقاً ، فأجزاء هذه الشجرة هي الزمردية والخضرة
والحمرة والياقوتية والحلاوة العسلية واللذة النكاحية ، والعالم الذي قست به هذه
الشجرة والطول والعرض ، فكل هذه الأجزاء حقائق أمور موجودة في عالم الأجسام
وتعقلتها وركبت بعضها مع بعض في عالم خيالك ، وهذا التركيب ليس في قوة عالم الأجسام
بل هو لعالم الأرواح ، فظهرت لك تلك الشجرة في عالم خيالك بواسطة عالم الأجسام
وعالم الأرواح فليس هو ملحق بأحدهما ، فلو كان من عالم الأجسام وحده لرأتها الخلق
ولما كان يمكن أن تكون ، لأنك قلت بقدر العالم بمرات كثيرة ، ولو كانت من عالم
الأرواح وحده لبقيت ببقاء الأرواح لكنها التحقت بالفناء بحكم الجسم عليها وتصورت لك
ذلك التصوير بحكم الروح فيها فإن الروح واسعة . وهذا الذي ذكرناه لك هو سر ممتزج
الأرواح بالأجسام ؛ لأنها تكتسب بواسطة الجسم كمالات لا يمكنها أن تكتسبها إلا به .
ألا ترى إلى من ولد أعمى لا تعرف روحه كيفية الألوان ولا حسن الخلقة المكتسبة
بالبصر ، فتذهب روحه وقد فاتها من الكمال هذا النوع من العلم بصنع الله تعالى لا
يعرف أخبار الأنبياء وما وردت به الشرائع ، فيموت وقد فاته هذا النوع من صنع الله
تعالى وبقدر ما يجهل من مصنوعاته يجهله من الكمال . وقد اكتسبت الكمالات بمالها من
الجوارح والحواس غير السمع . فإذا فهمت سر الامتزاج بين الروح والجسد ؛ فاعلم أن
الخيال هو مثل عالم البرزخ الذي تكون فيه الأرواح بعد مفارقتها الأجسام إلى يوم
القيامة لأنها لا في دار الدنيا ولا في دار الآخرة ، وقد علمت بما ذكرنا المركبات
العلمية .- وأما المركبات العينية فكالأعراض التي هي تتواتر وتتوارد على الجوهر
وتشهد الأعيان لتلك الأعراض بقاء ووجوداً إذ ذلك البقاء هو مركب من أعراض كثيرة
متواترة على الجوهر بالحقيقة ، فالجوهر أيضاً مخلوق في كل نفس بحكم ذلك العرض خلقاً
جديداً فتتبدل الأجزاء بتبديل الكل ، ولهذا قالت الطائفة المحققون إن العالم مخلوق
مع الأنفاس جديداً ، ويؤدي ذلك قوله تعالى : { بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ
جَدِيدٍ } ألا ترى البخار المجتمع تحت الأرض كيف إذا لم يجد منفذاً يتغير فيصير ماء
رجراجاً ، ثم إذا صار فيه استعداد وقابلية من الأرض صار زيبقاً فتبدلت ذاته فصارت
محدودة بحدود ليست من حدود البخار ولا من حدود الماء ، بل كل من البخار والماء ،
والزيبق محدود بحد آخر ولكل حقيقة متميزة عن حقيقة الآخر ، وهذا التغيير الذي وقع
لو كان في زمان واحد لشوهد عياناً كما يقع في ماء الزاج والعفص ، ولكن هذا التغير
شيئاً فشيئاً بحيث ألا تدركه الحواس ، ولهذا التبس أمره على الخلق فصاروا في لبس من
خلق جديد ، وهذه المركبات العينية تتركب بوجود أجزاء مجتمعة في البصر فيشاهد الناظر
شيئاً واحداً لقوة المثلية في الأجزاء والأعراض المختلفة المتواترة التي باختلافها
تختلف ذات الجوهر عينه ، وقد استقصينا الكلام في هذا المعنى في كتابنا الموسوم (
بحقيقة الحقائق التي هي للحق من وجه ، ومن وجه للخلق ) فلنقتصر من ذكر ذلك على هذا
القدر في هذا الباب ، والله الموفق لا رب غيره .- وأما المركبات السمعية : فالكلمة
تتركب من حروف كثيرة يسمعها الشخص شيئاً واحداً ، والنغم كذلك والألحان المسموعة
بين الأوتار مركبة من صوت الحرير والخشب والحديد والنحاس أو الجلد والشعر إلى غير
ذلك من أنواع آلات الطرب وغيره ، حتى أن ضرب الكف على الكف مركب من صوت وقع كل واحد
منهما على الآخر ، فافهم .- وأما المركبات الجثمانية : فعلى ثلاثة أنواع وأعلاها هو
الخط ، وهو ما له البعد الأول وهو الطول لا غير ، وهو يتركب من جوهرين فصاعداً ،
فإذا انضم جوهر إلى جوهر وتركبا حصل الطول لا غير ، وأوسطها هو الخط وهو ما له
بعدان مجتمعان وهو الطول والعرض وهو يتركب من أربعة جواهر فصاعداً فيحصل من تركيب
اثنين البعد الطولي ، ومن تركيب اثنين البعد العرضي ، فيسمى سطحاً . وأسفل المركبات
هو الجسم ، وهو ثلاثة أبعاد الطول والعرض والسمك بالنظر إلى فوق والعمق بالنظر إلى
تحت وهو متركب من ثمانية جواهر فصاعداً ، وأول موجود في عالم التركيب الجثماني
الفلك الأطلس وآخره الإنسان .- وأما المركبات الروحانية فأجزاؤها مركبة من العالم
الروحي ، وكل جزء منها أمر حكمي باعتبار ونظر ، ولها جزء باعتبار ونظر يعرفها من
شاهد ذلك العالم وعرف صورها ، وهذا أمر ليس أعجب منه وفي ذلك العالم ما هو أعجب من
هذا ، ولو أذن لي لبينت لك كيفية ذلك بألطف عبارة وأحسن إشارة في هذا المكان ،
ولكني مأمور بوصفه في كتاب ( الناموس الأعظم والقاموس الأقدم ) فإذا قدر الله لي
بفعل ما أمرني به رأيته في محله من ذلك الكتاب إن شاء الله تعالى .- وأما المركبات
النورانية : فهي الأجرام الفلكية المعبر عنها بالكواكب متركبة الأجزاء من العناصر
الأربع التي هي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة ، وكل كوكب منها حقيقة واحدة
غير قابلة للتقسيم في نفس الأمر على ما شاهده الحس منها من الكبر والعظمة ، حتى أن
الفلاسفة مجتمعين على أن الشمس بمقدار الدنيا مائة مرة ونيفاً وستين مرة .وقد أيد
الشيخ محيي الدين بن العربي هذا وذكره في كتاب ( الفصوص ) وقال فيه ما شابه هذه
المقالة . وهذا أمر عجيب وهو أن يوجد موجود بهذا العظم لا يقبل التقسيم في نفس
الأمر وإدراك هذا على العقل بعيد ، ويلحق بهذه الأجرام الفلكية الأنوار الأرضية
المركبة من وجود النار والهواء الممازح لها في أفقها بواسطة الدهن أو الشمع أو
الحطب أو ما جرى مجراها ، فافهم .