موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

لواقح الأنوار القدسية في مناقب الأخيار والصوفية

وهو كتاب الطبقات الكبرى

تأليف الشيخ عبد الوهاب الشعراني

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


ومنهم أبو بكر بن جحدر الشبلي (رضي الله عنه)

ومكتوب على قبره جعفر بن يونس خراساني الأصل بغدادي المولد، والمنشأ تاب في مجلس خير النساج كما مر، وصحب أبا القاسم الجنيد، ومن عاصره من المشايخ، وصار أوحد أهل الوقت علماً، وحالا وظرفاً. تفقه على مذهب الإمام مالك رضي الله عنه، وكتب الحديث الكثير. عاش سبعاً وثمانين سنة، ومات سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة، ودفن ببغداد في مقبرة الخيزران، وقبره فيها ظاهر يزار رضي الله عنه، ورحمه، وكانت مجاهداته في بدايته فوق الحد وكان رضي الله عنه يقول: اكتحلت بالملح كذا، وكذا ليلة لأعتاد السهر، ولا يأخذني النوم فلما زاد علي الأمر حميت الميل، واكتحلت به.

وكان يقول عن علم القوم: ما ظنك بعلم علم العلماء فيه تهمة. وقيل له: إن أبا تراب النخشبي جاع يوماً في البداية فرأى البادية كلها طعاماً فقال هذا عبد رفق به ولو بلغ إلى محل التحقيق لكان كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إني أظل عند ربي يطعمني ويسقيني " وقيل له متى يكون الشخص مريداً قال: إذا استوت حالاته في السفر، والحضر والمشهد، والمغيب وقيل له متى يكون الشخص مريداً قال: إذا استوت حالاته في السفر، والحضر والمشهد، والمغيب وقيل له مرة كيف الدنيا فقال: قدر يغلي، وكنيف يملأ، وكان يقول: في مناجاته أحبك الخلق لنعمائك وأنا أحبك لبلائك، وكان رضي الله عنه يقول: رفع الله قدر الوسائط بعلو هممهم فلو أجرى على الأولياء ذرة مما كشف للأنبياء عليهم الصلاة والسلام لبطلوا، وانقطعوا. وأخر مرة العصر حتى دنت الشمس إلى الغروب فقام وصلى، وأنشد مداعباً، وهو يضحك، ويقول أحسن ما قال بعضهم:

نسيت اليوم من عشقي صلاتي ... فلا أدري عشائي من غدائي

وكان يقول: كل صديق لا يكون له معجزة فهو كذاب فلما دخل البيمارستان دخل الوزير فقال: أين قولك كل صديق بلا معجزة كذاب فأين معجزتك أنت فقال معجزتي موافقة الله في أوامره، ونواهيه وكان يقول: ليس للمريد فترة، ولا للعارف علاقة، ولا للمحب شكوى، ولا للصادق دعوى، ولا للخائف قرار، ولا للخلق من الله فرار، وكان يقول لأهل عصره أنتم قبور فقيل له لماذا فقال لأن كل واحد منكم مدفون في ثيابه فقال له رجل، ونحن نعد في الأموات فقال: نعم العارفون نيام، والجاهلون أموات، وقيل له مزقت جميع ملبوسك، والعيد قد أقبل، والناس يتزينون، وأنت هكذا فقال زينة الفقير فقره، وصبره على فقره، وكان يقول: إنما تصفر الشمس عند الغروب لأنها عزلت عن مكان التمام فاصفرت لخوف المقام، وهكذا المؤمن إذا قارب خروجه من الدنيا اصفر لونه فإنه يخاف المقام، وإذا طلعت الشمس طلعت مضيئة منيرة.

كذلك المؤمن إذا خرج من قبره خرج، ووجهه مشرق مضيء وقال له رجل مرة من أنت قال: النقطة التي تحت الباء فقال أنت شاهدي ما لم تجعل لنفسك مقاماً وكان رضي الله عنه يقول: ذلي عطل ذل اليهود قال بعض العارفين في معناه أي لأن ذل الذليل على قدر معرفته بعظمة من ذل له، والشبلي بلا شك أعرف بعظمة الله تعالى من اليهود فذله أعظم من ذل اليهود. وجاءه رجل فقال يا سيدي كثرت عيالي، وقل حيلي فقال له: أدخل دارك فكل من رأيت رزقه عليك فأخرجه، وكل من رأيت رزقه على الله تعالى فاتركه في الدار، وكان إذا أعجبه صوف أو قلنسوة أو عمامة لفها وأدخلها النار فأحرقها، ويقول كل شيء مالت إليه النفس دون الله تعالى وجب إتلافه فقيل له لم لا تتصدق به فقال: صورته باقية فربما تبعته النفس إذا رأته على الغير فكان الإحراق أسرع في إتلافه مبادرة للإقبال على الله عز وجل، وقد بادر إبراهيم عليه السلام حين أمر بالختان إلى الفأس فاختتن بها فقيل له هلا صبرت حتى تجد الموسى فقال عليه السلام تأخير أمر الله عظيم وكان يقول: لا أستريح إلا إذا لم أر لله ذاكراً على وجه الأرض قال بعضهم مراده لا أستريح إلا إن دخلت حضرت الشهود لأنه لا ذكر فيها فإن الذكر إنما يكون مع الحجاب لأنه دليل فإذا شهد المدلول سقط الوقوف عن الدليل بل عن شهود الدليل، ومروره على الخاطر. وقيل له: لم سميت الصوفية بهذا الاسم فقال: لبقية بقيت عليهم، ولولا ذلك لما تعلقت بهم تسمية، وكان يقول: من اطلع على ذرة من التوحيد ضعف عن حمل نبقة لثقل ما حمل، وكان رضي الله عنه يقول: من طلبه به تعالى صح توحيده، ومن طلبه بنفسه لم يصح له توحيد، وكان أبو بكر الدينوري خادم الشبلي يقول: سمعت الشبلي يقول قبل موته: علي درهم واحد مظلمة ظلمته أيام، ولايتي، وقد تصدقت عن صاحبه بألوف، وما على قلبي أعظم منه وسئل مرة عن المعرفة فقال أولها الله، وآخرها ما لا نهاية له، وكان رضي الله عنه يقول: العارف لا يكون لغيره لاحظاً، ولا لكلام غيره لافظاً، ولا يرى لنفسه غير الله حافظاً، وكان يقول: المحب إذا لم يتكلم هلك والعارف إذا تكلم هلك، وكان غيره يقول: العارف إذا تكلم أهلك غيره، وإذا سكت أهلك نفسه فنجاة نفسه أولى، وصلى مرة خلف إمام فقرأ: " ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك " " الإسراء: 86 " الآية فزعق زعقة كادت روحه تخرج، وقال هذا خطابه لأحبابه فكيف خطابه لأمثالنا، ولاموه في قلة النوم فقال: سمعت الحق يقول لي من نام غفل، ومن غفل حجب، وكان هذا سبب اكتحالي بالملح حتى لا أنام، وقال للحصري في بداية أمره إن خطر ببالك من الجمعة إلى الجمعة الثانية غير الله تعالى فحرام عليك أن تحضرني وكان يقول في بيت الله الحرام آثار خليله عليه السلام، وفي القلب آثار الله عز وجل، وللبيت أركان وللقلب أركان فأركان البيت من الصخر، وأركان القلب من معادن أنوار معرفته.

وكان رضي الله عنه يقول: قيل لمجنون بني عامر أتحب ليلى قال لا قيل، ولم؟ قال لأن المحبة ذريعة للوصلة، وقد سقطت الذريعة فليلى أنا، وأنا ليلى. وكان ابن بشار ينهى الناس عن الاجتماع بالشبلي، والاستماع لكلامه فجاءه ابن بشار يوماً يمتحنه فقال له ابن بشار: كم في خمس من الإبل فسكت الشبلي فأكثر عليه ابن بشار فقال له الشبلي في واجب الشرع شاة، وفيما يلزم أمثالنا كلها فقال له ابن بشار هل لك في ذلك إمام قال نعم قال من. قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه حيث أخرج ماله كله فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " ما خلفت لعيالك " قال الله، ورسوله.

فرجع ابن بشار، ولم ينه بعد ذلك أحداً عن الاجتماع بالشبلي، وقال في قوله تعالى: " قل للمؤمنين " يغضوا من أبصارهم قال أبصار الرؤوس عما حرم الله تعالى، وأبصار القلوب عما سوى الله.

وقال في قوله تعالى: " إلا من أتى الله بقلب سليم " " الشعراء: 89 " هو قلب إبراهيم عليه السلام لأنه كان سالماً من خيانة العهد، ومن السخط على مقدور كائناً ما كان، وسئل رضي الله عنه عن حديث إذا رأيتم أهل البلاء فاسألوا ربكم العافية فقال أهل البلاء هم أهل الغفلة عن الله تعالى، ولبس رضي الله عنه يوم عيد ثوبين جديدين فرأى الناس يسلم بعضهم على بعض لأجل ثيابهم فطرح ثوبيه في تنور فقيل له لم فعلت ذلك قال أردت أن أحرق ما يعبد هؤلاء ثم لبس ثياباً زرقاً، وسوداً، وكان إذا دخل عليه فقير يقول له: أعندك خبر أو عندك أثر؟ ثم ينشد:

أسائل عن ليلى فهل من مخبر ... يخبرنا علماً بها أين تنزل

ثم يقول: وعزتك، وجلالك ما غيرك في الدارين مخبر، وكان رضي الله عنه يقول: ما ظنك بشمس الشموس كلها فيها ظلمة.

وحكي أن رجلا صاح في مجلس الشبلي فرمي به في دجلة، وقال إن كان صادقاً نجاه الله تعالى كما نجى موسى عليه السلام، وإن كان كاذباً أغرقه الله كما أغرق فرعون، وكان يقول: من طلب الحق بالمجاهدات فهو بعيد عن وصوله إلى مطلوبه، ومن طلبه به تعالى، وصل إليه ثم أنشد:

أيها المنكح الثريا سهيلا ... عمرك الله كيف يجتمعان

هي شامية إذا ما استهلت ... وسهيل إذا استهل يماني رضي الله عنه.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!