موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

لواقح الأنوار القدسية في مناقب الأخيار والصوفية

وهو كتاب الطبقات الكبرى

تأليف الشيخ عبد الوهاب الشعراني

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


ومنهم الشيخ الإمام العارف بالله تعالى سيدي علي بن شهاب جدي الأدنى (رضي الله عنه)

كان رضي الله عنه من المدققين في الورع، ويقول: الأصل في الطريق إلى الله تعالى طيب المطعم، وكان إذا طحن في طاحون يقلب الحجر، ويخرج ما تحته من دقيق الناس يعجنه للكلاب ثم يطحن، ويخلى للناس بعده الدقيق من قمحه، ولم يأكل فراخ الحمام الذي في أبراج الريف إلى أن مات، وكان والدي رحمه الله تعالى يأتيه بفتاوى العلماء بحله فيقول: يا ولدي كل من الخلق يفتي بقدر ما علمه الله عز وجل ثم يقول: يا ولدي إنها تأكل الحب أيام البذار، ويطيرونها بالمقلاع، ولذلك يعملون لها أشياء تجفلها في الجرون، ولو كان الفلاحون يسمحون بما يأكله الحمام ما فعلوا شيئاً مما ذكرناه ثم بالغ فتورع عن أكل العسل النحل، وقال: إني رأيت أهل الفواكه ببلادنا يطيرون النحل عن زهر الخوخ، والمشمش وغيرهم، ولا يسمحون بأكل أزهارهم، فقال له: والدي رحمه الله تعال أما قال: الله تعالى المالك الحقيقي " كلي من كل الثمرات " فقال: الثمرات المملوكة أم المباحة؟ فسكت والدي ثم قال له: والدي إن كل تفيد العموم فنحن على العموم فقال: الخاص مقدم على العام، وقد حرم الله عليك أن ترعى بقرتك في زرع الناس بغير رضاهم ثم تشرب لبنها فكشف والدي رحمه الله رأسه، واستغفر، وقال: مثلي لا يكون معلماً لك يا سيدي، وكان يقرئ الأطفال، ولا يدخل جوفه قط شيئاً من ناحيتهم، ولا من ناحية آبائهم حتى في أيام الغلاء كان يجوع، ويطعم ذلك لأرامل البلد، وأيتامها، وكان عنده موهبة معلقة في سقف الزاوية كل صغير فضل من خبزه شيء يضعه فيها قال: عمى الشيخ عبد الرحمن فكانت تملأ كل يوم، وكان الأطفال نحو مائة نفس، فيرسل العرفاء بقفف صغار بعد العشاء تفرقه على مساكين البلد، وأوقات هو بنفسه، وإذا كان الزمان زمان رخاء يترصد المراكب التي ترسي من قلة الريح بساحل بلده فيرسله لهم مع الجبن، والفول الحار، ومعهما مهما وجد، وكان لا يأكل قط من طعام فلاح، ولا شيخ بلد، ولا مباشر، ولا أحد من أعوان الظلمة من منذ وعى على نفسه، وقدم إليه مرة رجل قباني في بولاق طعاماً فلم يأكله فقال: يا سيدي هذا حلال هذا من عرقي فقال: لا آكل من طعام من يمسك الميزان لعدم تحريرها في الغالب على وجه الخلاص.

وسمعت شيخنا شيخ الإسلام زكريا الأنصاري رضي الله عنه يقول: كان جدك من إخواني في الجامع الأزهر، وكان يضرب بي وبه المثل في شدة الاجتهاد، وصيام النهار، وقيام الليل بنصف القرآن كل ليلة، وكان يفوقني في الورع فإنه لم يأكل من طعام مصر قط، ويقول: سمعت أخي إبراهيم المتبولي رضي الله عنه يقول: طعام مصر سم في الأبدان وكذلك كان لا يشرب من ماء محمول على يد غيره من البحر أبداً بل كان يأخذ له جرة، ويذهب إلى بحر النيل فيملؤها، ويشرب منها حتى تفرغ، وكنا نتعامل عليه، ونحن شباب فنشربها جميعاً في الليل ونقول: حتى ننظر أيش يعمل إذا عطش، فيجس الجرة بيده فيجد فارغة فيتبسم، ويضحك، ويسكت وكان كتابه المنهاج، والقاطبية، والمنحة، وحل الثلاث كتب، وصار يقرأ بالسبع، وغيره، وعمره نحو العشرين سنة وكنت لا أفارقه، ولا يفارقني فجاءته والدته بالكعيكات التي كان يتقوت منها على عادته فأخذت قميصه تغسله فوجدت فيه أثر احتلام، فقالت إني أخاف عليك من أهل هذا البلد فإن كنت في طاعة فسافر معي أزوجك في بلدي، وتقعد عندي فشاورني، فقلت استخر ربك فقال: لا أستخير في طاعة والدتي، وكان رحمه الله تعالى باراً بوالدته، وكانت امرأة لها قوة تحمل الأردب وحدها وتضعه على ظهر الحمارة قال: وكان جدك رضي الله عنه يقول: علمتني أمي، وأنا صغير انتهى ما سمعته من شيخي شيخ الإسلام رضي الله عنه، وكان رضي الله عنه إذ غرقت مركب فيها شيء يؤكل كالرمان، والقلقاس والقصب لا يمكن أحداً من أهل بلده أن يمسك من ذلك شيئاً يقول: تشغلوا ذمتكم بشيء أنتم في غنية عنه، وغرق على رغم أنف صاحبه، ودعا الله أن لا يصح في دور ذريته برج حمام فبنوه مراراً وكتبوا له الجلب، ولم يفرخ شيئاً مع أن جيرانهم عندهم الأبراج، وهو فيها بكثرة، وكان رضي الله عنه يقول: مات أبي، وأنا صغير فما رباني إلا أمي فكنت أرعى للناس بهائمهم بالكرا، وأتقوت.. وحفظت القرآن، وأنا أرعى البهائم فكنت أكتب لوحي، وآخذه أحفظه في الغيط فمر علي بعض الفقراء السائحين فقال: يا ولدي اسمع مني، وشاور والدتك، وسافر إلى مصر تعلم بها العلم، فشاورت أمي فسمحت لي بذلك وزودتني زوادة آكلها في نحو أربعة شهور ثم صارت تتفقدني إلى أن رجعت إليها، وأخبرني جماعة ممن قرؤوا عليه أنهم لم يضبطوا عليه غيبة واحدة في أحد إلى أن مات، وكذلك لم يضبطوا عليه قط مدة صحبتهم ساعة فراغ فكان إن لم يكن في عمل أخروي كان في عمل ينفع الناس قالوا، وكانت طريقته أنه يقوم رحمه الله بعد رقدة من الليل فيتوضأ، ويصلي ما شاء الله أن يصلي ثم يثني ذيله في وسطه، ويتحزم عليه، وفي وسطه سراويل ثم يأخذ جراراً كباراً ويبتدئ بالقراءة فلا يزال يملأ إلى قريب الفجر، وربما قرأ نصف القرآن إلى الفراغ، فكان يملأ سبيل زاويته التي أنشأها بحري بلده.

ثم يملأ سبيل الجامع ثم يملأ سبيلا على طريق منف خارج جرن البلد، ولما زوي أولاده الثلاثة والدي، ومحمد، وعبد الرحمن أعمامي كان يملأ لهم سقايتهم حتى مسقاة الكلاب ولا يمكن أحداً منهم يملأ، ولا أحداً من عيالهم ثم يرجع إلى ميضأة زاور فيملؤها، ويملأ حيضان أخليتها، وينظفها ثم يصعد إلى سطح الزاوية، فيسبح الله وينزهه ثم يؤذن فينزل فيصلي الفجر، ويقرأ السبع هو، وعرفاء الأطفال ثم يصلي بالناس الصبح ثم يجلس يتلو القرآن إلى طلوع الشمس، فتجتمع الأولاد في المكتب فلا يزال يعلم هذا الخط وهذا رسم الخط، وهذا الإدغام وهذا الإقلاب، وهكذا، ويؤدب هذا، ويرشد هذا، ويسمع لهذا إلى أذان العصر فيملأ الميضأة أو يكملها ثم يفتح دكانه على باب زاويته فيها الزيت الطيب، والزيت الحار والعسل، والرب والأرز، والفلفل والمصطكي، وغير ذلك فلا يزال يبيع للناس إلى أن يقضي حوائجهم للطعام، والأكل قبل المغرب فيؤذن، ويصلي بالناس ويجلس للسبع إلى صلاة العشاء.

فإذا صلى العشاء بالناس لا يفرغ من وتره حتى لا يبقى أحد يمشي في الأزقة، ونيام الناس فيغفو لحظة ثم يقوم يتوضأ، ويصلي، ويأخذ الجرار، ويملأ الأسبلة كما تقدم هذا كان عمله على الدوام شتاء، وصيفاً، وكانت زوجته رحمها الله تعالى تقول له: يا سيدي أما تستريح لك ليلة واحدة فيقول ما دخلنا هذه الدار لذلك، وكان رضي الله عنه إذا قويت الشبهة في ثمن شيء يبيعه لا يأخذ من ذلك المشتري ثمناً بل يعطيه حاجته، ويقول سامحناك فكان يظن أن ذلك لمحبته له، وإنما ذلك لقوة الشبهة في ماله على حسب مقام الجد رضي الله عنه. قلت: وقد تحدثت بذلك للشيخ محمد النامولي أجد أصحاب سيدي إبراهيم المتبولي رضي الله تعالى عنه فقال: صحيح كان هذا دأبه مدة صحبتنا له ثم قال لي سمعت سيدي إبراهيم المتبولي رضي الله عنه يقول: ما في أصحابنا قط أكثر نفعاً من الشيخ علي الشعراوي ثم قال لي: الشيخ محمد رضي الله عنه، فإن شككت في قول: سيدي إبراهيم رضي الله عنه فأعرض هذه الأحوال المتقدمة على مشايخ مصر الآن لا نجد أحداً منهم يستطيع المداومة على هذه الأعمال جمعة واحدة ثم نظر إلي وحولي الفقراء، والمعتقدون، وقال: إن كنت تعمل فقيراً فاتبع جدك، وإلا فأنت سكة، وصورة، وشيء ما في المقصورة فقلت: أستغفر الله العظيم، وأخبرني أنه كان إذا نزل سيدي إبراهيم المتبولي رضي الله عنه من البركة للريف يقول: للفقراء الميعاد عند الشيخ علي الشعراوي هذه الليلة فتكون ليلة عظيمة قال: الشيخ محمد رحمه الله، فنزلنا أيام التين فاعترضنا أهل الصالحية وأهل برشوم، وقالوا: يا سيدي انزل هنا نطعم الفقراء التين فقال: لا نأكل التين إلا عند الشيخ علي الشعراوي في ذلك البر فقال: الفقراء تترك بلد التين، ونطلب التين في غير بلده قال: فأول ما خرج جدك وسلم على الشيخ، والفقراء أخرج لهم قفة كبيرة من أطيب التين فقال: الفقراء لسيدي إبراهيم رضي الله عنه استغفر الله لنا، وتابوا من اعتراضهم الباطل، وأخبرني عمي الشيخ عبد الرحمن رحمه الله تعالى أن سبب عمارة والدي بيوت الخلاء في زاويته مع كونها كانت خارجة عن البلد والفلاحون في الغالب لا يعتنون بدخول الأخلية أنه ورد عليه الشيخ سراج الدين التلواني، فخرج فرأى الأولاد يقولون تعالوا بنا نتفرج على هذا القاضي الذي يخرى، فحصل عند والدي خجل عظيم لأجل ضيفه، فطلب البناء، وبنى بيوت الأخلية ذلك اليوم، وكان رضي الله عنه إذا زرع مارساً من القمح يجعل بينه وبين الناس خطاً من الفول، وإذا زرع مع الناس الفول جعل بينه، وبينهم خطاً من القمح، وهكذا في سائر الحبوب، فإذ حصد ترك للناس خط الفول أو أخذه إذا شاء، فإنه فوله، وكان إذا سرح للحصاد يأخذ الإبريق معه للوضوء، فإذا جاء وقت الصبح ترك الحصاد، وصلى فكان شريكه يتكدر لأجل ذلك فيقول: كل طعام اكتسب بطريق حرام فهو حرام رضي الله عنه يقول: بلغني أن الأرض لا تأكل قط جسماً نبت من حلال، فكان بعض فقهاء بلاده ينكر ذلك عليه، ويقول: هذا خاص بالأنبياء عليهم الصلاة، والسلام، والشهداء فلما مات والدي أدخلوه عليه، فوجدوه طرياً كما وضعوه، وبين دفن والدي ودفنه إحدى وعشرون سنة، فأرسل الملحد للجد وراء الفقهاء الذين كانوا ينكرون على جدي ذلك، وقال: انظروا فاستغفروا الله، وتابوا.

وكان رضي الله عنه يكره من يقول له: يا نور الدين ويقول: نادوني باسمي علي كما سماني بذلك والدي، وبات سيدي الشيخ علي العياشي أحد أصحاب سيدي أبي العباس الغمري رضي الله عنه، وهو من أرباب القلوب ليلة في زاوية جدي فسمع جدي يقرأ القرآن في قبره، فابتدأ من سورة مريم إلى سورة الرحمن فطلع الفجر فسكت الصوت فأخبر أهل البلد بذلك، فقالوا هذا الشيخ علي رحمه الله تعالى، وكان رضي الله عنه يقول: لا تجعل على قبري شاهداً، وادفنوني خلف جدار هذه القبة التي في الزاوية، ففعلوا فليس لقبره علامة إلى وقتنا هذا، وأخبرني عمي الشيخ عبد الرحمن رضي الله عنه قال: لما حضرت والدي الوفاة دعا بكتاب سيدي عبد العزيز الدريني رضي الله عنه المسمى بطهارة القلوب فقال لوالدك اقرأ لي في أحوال القوم عند خروج أرواحهم فقرأ له فتنهد، وقال: سبقونا على خيول دهم، ونحن في أثرهم على حمير دبرة، وطلع النفاطات في لسانه حتى تزلع لسانه فكانت جدتي رحمها الله تعالى تقول: والله ما يستأهل هذا اللسان يا طول ما ختم القرآن في الليل، فيقول سكتوها عني لو علمت ما أعلم من مناقشة الحساب ما قالت ذلك، وأخبرني والدي في التربية سيدي خضر رحمه الله قال: إن جدك كان لا يجيء إلى القاهرة إلا ويأتي معه بالجراب الخبز، وإبريق يملؤه من النيل فيشرب، ويأكل من ذلك إلى أن يرجع ولم يذق لي طعاماً قط، وقال لي: تعرف سبب معرفتي بجدك قلت لا قال: نزلنا سنة من السنين مع سيدي محمد بن عبد الرحمن نائب جده، وبعض بني الجيعان نتفرج في بلدكم أيام الربيع فأقمنا مدة فطاب لسيدي محمد الوقت فشرع في زراعات، وبني حواصل، وصرف مصروفاً واسعاً فطلب شخصاً أميناً يكون وكيلا عنه في ذلك فقال: جميع الفلاحين ليس عندنا أحد أكثر أمانة من الشيخ علي رضي الله عنه فأرسلوا، وراءه فحضر، فقال: إني لا أصلح لذلك فقالوا: لا بد فأخذ مفاتيح الحواصل فلما طلع البطيخ خزنه، وصار كل بطيخة حصل فيها تلف ينادي عليها إلى أن تنتهي الرغبات فيها ثم يكتب ثمنها عليه ويعطيها لمساكين البلد وصار يكتب تفاوت علف البهائم في اليوم الفلاني، والثور الفلاني مرض الليلة الفلانية، فلم يأكل عشاه تلك الليلة، ونقص من غذائه في الوقت الفلاني، وهكذا فلما حضر ابن عبد الرحمن ثاني مرة إلى البلد أرسل خلف جدك يطلب منه قائمة المصروف، فنظر فيها ثم خرج من الخيمة مكشوف الرأس خاراً على أقدام جدك يقبلها، ويبكي، ويقول: يا شيخ علي اجعلني في حل فإني والله ما علمت بمقامك ثم صار يقول: مثل هذا الرجل يكون وكيلا عني، وأخبرني عمي الشيخ عبد الرحمن رحمه الله قال: أهدي لنا سيدي محمد عبد الرحمن ثلاثة أطباق على رءوس ثلاثة من العبيد في واحد أثواب صوف، وشاشان وثياب بعلبكية، وفي الآخر حلاوة، ومكبرات، وفي الآخر أنواع من الطيب فرد القماش وقبل الحلاوة، والطيب.

وفرق الطيب على صبايا البلد، والحلاوة على أيتام البلد، ولم يذق هو ولا أهل بيته شيئاً من ذلك، وأراد عمي عبد الرحمن أن يأخذ له إصبعاً من الحلاوة فمنعه وقال يا ولدي هذا سم في الجسد فإنه كان جده يقبض العشور انتهى قال: سيدي خضر، وقد عاشرت جدك، وأنا مباشر البلد إلى أن مات فما رأيته وضع يده في طعام الفلاحين، ولا أخذ على شهادته لهم في الخراج، والإجارات، وعقود الأنكحة، ولا خطابته لهم، ولا إمامته بهم درهما واحدا قال: وكان يفضل للفلاح على أستاذه الدرهم الواحد فيكتبه للفلاح لثاني سنة، ويقول لو أمكنني تخليصه لك هذه السنة لخلصته لك من أستاذك،. وكان إذا ضاق به الحال من حيث الكسب بالبيع يكتب المصاحف ويصنع الطواقي المضربة دالة في قلب دالة، وكل واحده يعطونه فيها الدينار الذهب.

ويقولون إن كل طعنة فيها مرقية بكلمة من القرآن لأنه كان إذا خاط يقرأ مع ذلك القرآن فكان يحسب رأس ماله فيها وأجرة مؤنته وخياطته، ويتصدق ببقية الدينار على الأرامل، والمساكين، وبلغني عنه أنه كان يقرأ القرآن، وهو ينسخ كتب العلم لا يشغله أحدهما عن الآخر، وتخرج كتابته سالمة من الغلط مع ذلك، وأخبرني جماعة ممن كانوا يقرءون عليه أنه كان يأكل اللبن، والطعام المائع مع المجذومين ويقول: إن هؤلاء خاطرهم مكسور، وكان الذين يقرءون عليه يقولون: ما رأيناه قط نائما في النهار في أيام الصيف، ولا غيره.

وكان رضي الله عنه يقول: إن النهار لم يجعل للنوم، ولما حج وتلقاه الناس وافق طلوعه للبلد أذان العصر فصعد سطح الزاوية، وأذن، ونزل وصلى بالناس ثم نزل فنظف بيوت الخلاء، وملأ الميضأة قبل دخول الدار ثم شرع من تلك الليلة في ملء الأسبلة المتقدم ذكرها على يديه على عاداته، ولم يسترح كما يقع للحجاج، وكان يقول: الوقت سيف، ولما جاء من الحج كثر بكاؤه، وحزنه زيادة على ما كان عليه قبل الحج، ولم ير ضاحكا قط حتى مات، وكان إذا لبس القميص أو العمامة لا ينزعها للغسل قط إلا إن نزعوها، وكانوا ينسونه بعض الأوقات فتصير كالوحل، ومع ذلك على ثيابه الفخر، والنور يخفق منها من نور الأعمال، وكانت عمامته من الصوف الأبيض، وكان أشبه الناس بجدي الشيخ نور الدين الشوني رضي الله عنه شيخ الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجامع الأزهر، وغيره في وجهه، ولحيته وهمته، وجسمه حتى إن الجماعة الذين قرءوا على جدي كلهم مطبقون على ذلك، وكانوا يذهبون إلى الجامع الأزهر لرؤية الشيخ نور الدين لشبهه بجدي لا غير، ولما دفن سيلي نور الدين الشوني رضي الله عنه رأيته ثاني يوم فقال: لي جاءني جدك إلى هنا هذه الليلة، وقال: آنست مكانك، لماذا كان لك حاجة فنادني أحضر إليك في الحال ورأيت بينهما اتحادا عظيما، ولذلك جعلنا اسميهما مسبوكين معا في الدعاء لهما في قراءة الأسباع والكرسي، وغيرهما في الزاوية التي دفن فيها الشيخ نور الدين الشوني رحمه الله تعالى واحد يدعى له بقرينة تخصه فإن كلا منهما والدي رضي الله عنهما، وكان رضي الله عنه يقول: لا يعجبني كثرة العبادات من العبد.

وإنما يعجبني كثرة خوفه من الله عز وبئ، ومناقشته لنفسه، ورافقه مرة في سفره من القاهرة إلى بلده رجل عليه آثار الفقراء، فقال له: جدي ما حرفتك قال له: مؤذن في جزيرة الفيل فقال له: هل أقمت مقامك نائبا فقال الأمر سهل، فقال: هذا فراق بيني، وبينك، وساق وتركه، وكان رضي الله عنه لا يمكن أحدا من الفقراء البرهامية يفعل شيئا في بلده مما يفعلونه في غيرها من أكل النار، ودخولها، وجر السيف غلى اللسان، وعلى الكف، ويقول: إن كنتم برهامية فأتوا لنا بالبرهان على ذلك من الكتاب، والسنة أو من فعل سيدي إبراهيم الدسوقي رضي الله عنه فانتصر جماعة من البلد للفقراء على جدي.

وقالوا لا بد أن يفعلوا هذه الليلة ذلك حتى تنفرج عليهم فأتاهم تلك الليلة سيدي إبراهيم الدسوقي رضي الله عنه، وقال لهم: أطيعوا الشيخ عليا رضي الله عنه، وأنا بريء من كل عمل يخالف هدى الخلفاء الراشدين، والأئمة المجتدين، فأصبحوا، واستغفروا، وتابوا ورجعوا عن ذلك الفعل، فقال لهم: أنا رجل برهامي، ولو كنت أعلم رضا سيدي إبراهيم بذلك لكنت أول فاعل له لأنه قدوتي وشيحي، وكذلك وقع له مع فقراء الأحمدية، وكان شيخهم الشيخ الصالح سيدي عبده الرحمن ابن الشيخ، وهيب السطوحي الأحمدي تلك الليلة فقال له: يا شيخ عبد الرحمن إن كنت تطلع بلدنا فاطلعها على الكتاب، والسنة، وإلا فأنت مهجور فدارت فيه الكلمه، ونالى بأعلى صوته يا فقراء تفرقوا عني، فإني رجعت إلى الله تعالى عن هذه الطريقة ثم عقد التوبة على يد جدي من تلك الليلة.

ثم جعل له خصا في الجزيرة التي هي الآن متعلقة بالفقراء تجاه فم بحر الفيض وصار يتعبد فيها، والبحر محيط به يزوره الناس في المراكب إلى أن مات، وكان يقول: كل هذا ببركة الشيخ علي بن شهاب فانه أنقذني من الضلالة، وظهرت الشيخ بعدالرحمن رضي الله عنه كرامات عظيمة: منها أنهم قطعوا مرة حطبا بغير إذنه من جزيرته، وسافروا به فانقلبت المركب بالقرب من بولاق وغرق من فيها، ولم تزل منحدرة إلى أن أرست على جزيرته، فقال: هذه بضاعتنا ردت إلينا فقال صاحب المركب يا سيدي الشيخ تغرق المركب كلها في حزمتين حطب، فقال: هذا من سيدي أحمد البدوي رضي الله عنه ما هو مني، وكان جدي رضي الله عنه إفا خرج من بيته للصلاة لا يستطيع تارك الصلاة يفارقه حتى يصلي هيبة منه رضي الله عنه، وكان إذا رأى جماعة الفلاحين في مجلس لغوهم يقول: يا أولادي اللعمر يضيق عن مثل ذلك عن قريب تندمون، وكان رضي الله عنه ينتهي نسبه إلى سلطان تلمسان أبي عبد الله في الجد الرابع، وبعده إلى السيد محمد بن الحنفية رضي الله عنه، وكان

لا يظهر ذلك، ويقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن التفاخر بالنسب ولا يقدس الإنسان حقيقة إلا عمله، ولو كان من أولاد أكابر الصحابة، وكان يقول: انظروا إلى الموالي الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم كسلمان، وبلال كيف صار شأنهم بطاعة الله ورسوله، وأخبرني سيدي كمال الدين زوفاً من أولاد عمنا بنواحي البهنسا أن جدنا الخامس سيدي موسى المكنى بأبي عمران رضي الله عنه قال له: سيدي أبو مدين رضي الله عنه لمن تنتسب قال: لي مولاي أبي عبد الله سلطان تلمسان قال له: فقر وشرف لا يجتمعان، فقال: يا سيدي تركت الشرف، فقال: الآن نربيك. قلت: وتبعه على ذلك أعمامي ووالدي فلما خفت موت نسبتنا بالكلية ذكرتها في مؤلفاتي، وأخبرني الشيخ كمال الدين المتقدم أن نسبتنا القديمة، وجدوا عليها خطوط أولياء المغرب، وعلمائها، وقضاتها فوقع بين أولاد عمنا، وبين الخليفة سيدي يعقوب العباسي، فأرشى عليها من أخذها، وغيبها، وقال: ليس لنا أولاد عم أبداً خوف انقراض بيتهم أو ضعفه فيعطي أولاد عمنا الخلافة، ولعمري الشرفاء أحق بذلك، وهم كثير في أرض مصر فالله يكثر منهم، ويعرفنا بمقدارهم، والقيام بخدمتهم آمين.

مات جدي رضي الله عنه سنة إحدى وتسعين وثمانمائة، وله من العمر سبع وخمسون سنة رضي الله عنه، وليكن ذلك آخر من ذكرناه من أهل القرن التاسع وتركنا جماعات كثيرة من أهل القرافتين، وغيرهما استغناء بكتب الزوار الموضوعة لذلك، فإن كتابنا هذا إنما وضعناه بالأصالة لبيان أهل الطريق، وأحوالهم، وأنهم كانوا على الكتاب والسنة فربما تكثر البدع من فقراء أهل هذا العصر زيادة على ما هي عليه الآن، فيعتقد العامة أن السلف الذين يزعم هؤلاء أنهم على قدمهم كانوا على هذه البدع، فلذلك لم نذكر في الغالب في هذا الكتاب من المشايخ إلا من له كلام في الطريق أو أفعال تنشط المريدين، هذه طريق التأسي بالأشياخ، وأما الكرامات ونتائج الأعمال، فليست هذه الدار محلا لها إنما محلها الدار الآخرة، فلذلك لم نذكر منها إلا بقدر تسكين القلب لذلك الولي ليؤخذ كلامه بالقبول، والاعتقاد، والله حسبي ونعم الوكيل.

ولنشرع في ذكر الخاتمة الموعود بذكرها في الخطبة، فنقول، وبالله التوفيق:


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!