موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

لواقح الأنوار القدسية في مناقب الأخيار والصوفية

وهو كتاب الطبقات الكبرى

تأليف الشيخ عبد الوهاب الشعراني

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


فمن مشايخي رضي الله عنهم سيدي محمد المغربي الشاذلي رضي الله عنه، ورحمه

كان رضي الله عنه من الراسخين في العلم. أخذ الطريق عن سيدي الشيخ أبي العباس السرسي تلميذ سيدي محمد الحنفي رضي الله عنه، وكان من أولاد الأتراك، وإنما اشتهر بالمغربي لكون أمه تزوجت مغربياً، وكان الغالب عليه الاستغراق رضي الله عنه، وكان بخيلا بالكلام في الطريق عزيز النطق بما يتعلق بها، وذلك من أعظم دليل على صدقه، وعلو شأنه فإن أهل الطريق رضي الله تعالى عنهم هكذا كان شأنهم، وقد بلغني أنهم سألوه أن يصنف لهم رسالة في الطريق، فقال: أصنف الطريق لمن؟ هاتوا لي راغباً صادقاً إذا قلت له: أخرج عن مالك، وعيالك خرج فسكتوا، وكان رضي الله عنه يقول: الطريق كلها ترجع إلى لفظتين سكتة، ولفتة وقد وصلت. قلت: معناه عدم الالتفات لغير الله تعالى، والإقبال على أوامر الله، وكان إذا جاءه أحد من الفقهاء يقول له: خذ علينا العهد، فيقول: يا أولادي روحوا واستكفوا البلاء فإن هذه طريق كلها بلاء أنتم في طريق تأكلون ما تشتهون، وتلبسون ما تشتهون والناس يخافونكم، ويطلبون منكم السكوت عنهم، وهذه طريق يقام عليكم الميزان فيها، ويطلق الناس ألسنتهم عليكم، ولا يجوز لكم فيها أن تردوا عن أنفسكم، وإن لبس أحدكم ثوباً مصقولا أو ظهراً من محررات الخام خرج الناس عليكم.

وقالوا هذا ما هو لباس الفقراء، فيرجعون عن طلب أخذ العهد عليكم فيقول: أعجبني صدقكم في دعوى الكذب، ولما جاءه سيدي إبراهيم المواهبي يطلب التربية قال له: تربية بيتية، وإلا سوقية قال يا سيدي ما معنى ذلك. قال: أما التربية السوقية، فأعلمك بها كلمات هذيانات ككلام الموسطين في الفناء، والبقاء، وأحوال القوم، وآذن لك بالجلوس على سجادة وتصير تأخذ كلاماً، وتعطي كلاماً.

وأما التربية البيتية، فتشارك جميع أهل البلاء في سائر أقطار الأرض في بلائهم، ويقال فيك ما قيل فيهم من البهتان، والزور، وتصبر كما صبر من سبقك من أولى العزم من الأولياء، ولا كلام، ولا سجدة، ولما أججوا النار على سيدي إبراهيم المواهبي رضي الله عنه في تقريره في قوله تعالى: " وهو معكم أينما كنتم " وعقدوا له مجلساً في الجامع الأزهر جاء سيدي محمد المغربي رضي الله عنه، وهم في أثناء الكلام فسكتوا كبهم فقال: تكلموا حتى أتكلم معكم، فلم يتجرأ أحد أن ينطق فقال: الشيخ نحن أحق بتنزيه الحق منكم أيها الفقهاء، ومن طلب إيضاح ذلك فليبرز إلى أتكلم معه فسكتوا فأخذ بيد إبراهيم رضي الله عنه، وقام معه فلم يتبعهما أحد، وكان الذي تولى جمع الناس وشن الغارة عليه العلائي الحنفي، وقال: هذا يتكلم في الماهية وذلك لا يجوز ثم إن الفقهاء لحقوا سيدي محمداً يترضون خاطره فقال لهم: الطريق ما هي كلام كطريقكم إنما هي طريق ذوق فمن أراد منكم الذوق فليأت أخليه، وأجوعه حتى أقطع قلبه، وأرقيه حتى يذوق، وإلا فليكف عن هذه الطائفة فإن لحومهم سم قاتل.

وكان رضي الله عنه يقول: السالكون ثلاثة: جلالي، وهو إلى الشريعة أميل، وحمالي وهو إلى الحقيقة أميل، وكمالي جامع لهما على حد سواء، وهو منهما كمل، وأفضل، وكان رضي الله عنه يقول: حد الصفات مشتمل على النفي، والإثبات على حد كلمتي الشهادتين سواء، فإن نظرت إليها من حيث عدم الذات بها، وهو طرف النفي قلت: ليست هي هو كلا إله، وإن نظرت إليها من حيث تعلقها بالذات، وهو طرف الإثبات قلت: ولا غيره كإلا الله فلا يجوز الوقف عند قوله ليست هي هو كما لا يجوز الوقف عند قوله لا إله حذراً في الأول من إثبات الغيرية المحضة لصفات الله تعالى، وفي الثاني حذراً من النفي المحض لذات الله تعالي هذا حكم كل كلام متعدد اللفظ متحد المعنى، وذلك أن الكلمات المنطقية على معنى واحد مرتبط بعضها ببعض كقولهم ليست هي هو، ولا غيره فلا يجوز التكلم على بعض منها دون بعض لأن ذلك مما يخل بالمعنى الواحد من حيث إنه يتكلف لجزء الكلام معنى آخر وهذا مما يفسد نظام الكلام، ويحرفه عن سبيل الاستقامة، وكان يقول: إنما أوجد العالم أجساماً، وجواهر وأعراضاً نقيض ما هو موصوف به ليعلمنا بالفرق بيننا، وبينه، وقد استوى على العرش بقدمه، وبذاته وعلى جميع الكون بعلمه، وصفاته قلت: وفي قوله، وبذاته نظر فإن الذات لا يصح في حقها استواء كما أجمع علب المحققون، وإنما يقال استوى تعالى بصفة الرحمانية على العرش، فرحم بذلك الاستواء جميع من تحت العرش إما مطلقاً وإما رحمة مغياة بغاية كرحمة إمهال الكفار بالعقوبة في دار الدنيا والله أعلم، وكان رضي الله عنه يقول في معنى قول حجة الإسلام: ليس في الإمكان أبدع مما كان أي ليس في الإمكان أبدع حكمة من هذا العالم يحكم بها عقلنا بخلاف ما استأثر الله تعالى بعلمه، وبإدراكه وأبدعيته خاصة به، فهو أكمل، وأبدع حسناً من هذا العالم بالنسبة إليه تعالى وحده فلو كان هذا العالم يدخله نقص لنقص كمال الوجود، وهو كامل بإجماع لأنه لا يصدر عن الكامل إلا كامل قال تعالى: " والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون والأرض فرشناها فنعم الماهدون " " الذاريات: 47 و 48 " ومعلوم أن الامتداح لا يكون إلا فيما هو غاية ونهاية، وإلا فكيف يمتدح الحق تعالى بمفضول، وكان رضي الله عنه يقول: من واجب حسنات الأبرار شهود الأغيار لترتيب العبادة، والأحكام في هذه الدار، وإن كان ذلك من سيئات المقربين الذين استغرقهم الأنوار، واستهلك عندهم السوى كما استهلك الليل في النهار، وكان يقول: اطلب طريق ساداتك، وإن قلوا، وإياك، وطريق غيرهم، وإن جلوا.

وكفي شرفاً بعلم القوم قول موسى عليه الصلاة والسلام للخضر عليه السلام " هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشداً " قال: وهذا أعظم دليل على وجوب طلب علم الحقيقة كما يجب طلب علم الشريعة، وكان يقول: ابن الشريعة ناظر بعين الحكم الطاهر، ونسبة فعل الخلق إليهم لنوجه الخطاب، وترتب الأحكام عليهم " والله خلقكم وما تعملون " " الصافات: 96 " وابن الحقيقة ناظر بعين الحكمة الناطقة، ونسبة الفعل إلى الحق لأنه الفاعل المختار حقيقة " وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون " " القصص: 68 " فإذا كان أدب الشريعة مبنياً على شهود الخلق في شهود الحق، وأدب الحقيقة مبنياً على فناء الخلق في شهود الحق وتباين الأمران تعين إظهار الأمر الظاهر، وتحتم إبطان الأمر الباطن خشية المعارضة، والتعطل هذا سبب عدم بناء الحكم في الظاهر على الحكمة الباطنة إذ لو ترتب عليها حكم لتعذر على غالب الناس الجمع بينهما وأفضى لنا الحرج، والتشديد إلى شقاق بعيد، وكان رضي الله عنه يقول: في قول سيدي عمر بن الفارض رضي الله عنه:

وألسنة الأكوان إن كنت واعياً ... شهود بتوحيد بحال فصيحة

يريد بقوله: شهود بتوحيد توحيد كل العالم أي التوحيد القهري الحالي المدخل للطائع والكافر والفاجر في حكم العبادة بالحال، وقوله: بحال فصيحة أخرج التوحيد بالقال فلم يتعرض له، ولا لأهله لأنه مخصوص بالمؤمنين دون الكافرين، وليس هو المقصود الأعظم في الآية المقتبس منها البيت وهي قوله تعالى: " وإن من شيء إلا يسبح بحمده " " الإسراء: 44 " فشيء نكرة، وهي في سياق النفي تعم كل شيء من موحد وجاهد، وحيوان وجماد فكأن الحق تعالى يقول: كل شيء يوحدني، ويعبدني بباطنه، وإن اختلف أمر باطنه قال: وقوله:

وإن عبد النار المجوس، وما انطفت ... كما جاء في الأخبار في كل حجة

فما عبدوا غيري، وما كان قصدهم ... سواي، وإن لم يضمروا عقد نيتي

فهذا هو التوحيد الحالي العام المشار إليه في الآية بقوله: " لا تفقهون تسبيحهم إنه " " الإسراء: 44 " أي هذا التوحيد الباطن فتفطنوا له إن كنتم فقهاء فإنه محتاج إلى الفهم، وهو موضع العلم الباطن الرباني ولولا أن الله تعالى رحم أمة، ودفع عنهم الحرج لوجه عليه العذاب، والنقمة لعدم فهمهم هذا التوحيد : " كان حليماً غفورا " " الإسراء: 44 " ومن شواهد توحيد الحال هذه الظلال في قوله: " وظلالهم بالغدو والآصال " " الرعد: 15 " فكل الوجود وجد دليلا على موجده فلا يكون بعضه غير دليل حتى المخالف بدلالة وجوده، ومخالفته عابد راكع ساجد شاء أم أبى، فالقول: بأن كل جاحد في الظاهر موحد في الباطن جائز بين قوم يفهمون كلام الله، ومواضع إشاراته لا الذين يكذبون بما لم يحيطوا به علماً من أسراره وبيانه، ولكن هذا التوحيد لا ينفع الكفار بشاهد حديث القبضتين، وحديث الفراغ، وجفوف الأقلام فلو كان ينفعهم هذا التوحيد الحالي لما دخل أحد منهم النار فافهم، وكان رضي الله عنه يقول: أيضاً في قول: سيدي عمر بن الفارض رضي الله عنه:

ولو خطرت لي في سواك إرادة ... على خاطري سهواً قضيت بردتي

مراده الردة النسبية لا الدينية لأن الرجوع، والنزول من مقام المقربين إلى حسنات الأبرار التي هي سيئات المقربين ردة عند القوم، وذلك أن من لازم حسنات الأبرار شهود الأغيار المعارض للفناء، ويسمى الشرك الأصغر، وكان رضي الله عنه يقول في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة المراد برأيه كذلك يقظة القلب لا يقظة الحواس الجسمانية لأن من بالغ في كمال الاستعداد، والتقرب صار محبو باللحق، وإذا أحبه كان نومه من كثرة اليقظة القلبية كحال اليقظة التي لغيره، وحينئذ لا يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بروحه المتشكلة بتشكل الأشباح من غير انتقال بانتقال ذاته الشريفة، ومجيئها من البرزخ إلى مكان هذا الرائي لكرامتها وتنزيهها عن كلفة المجيء، والرواح هذا هو الحق الصراح.

وكان رضي الله عنه يقول: إنما جعل قتل الكلب المعلم للصيد ذكاة لائتمارة بأمر سيده، وانتهائه، بزجره، فهو كالمدية بيد مولاه ولو كان مع نفسه، وهواه لحرم أكل صيده، والله أعلم هذا ما رأيته في الرسالة المنسوبة إليه بين أصحابه، وكان رضي الله عنه يقول: إذا أراد أن يسلب إيمان عبد عند الموت يسلطه علي، ولي يؤذيه، وكان رضي الله عنه ينفق نفقة الملوك من كيس صغير في عمامته، ويوفي منه الديون عن أصحابه عن المحتاجين، وكان رحمة بين العباد. مات رضي الله عنه سنة نيف، وعشر وتسعمائة، ودفن بالقرافة رضي الله عنه.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!