موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

لواقح الأنوار القدسية في مناقب الأخيار والصوفية

وهو كتاب الطبقات الكبرى

تأليف الشيخ عبد الوهاب الشعراني

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


ومنهم شيخي وقدوتي إلى الله تعالى العارف بالله تعالى سيدي محمد الشناوي رحمه الله تعالى

كان رضي الله عنه من الأولياء الراسخين في العلم أهل الإنصاف، والأدب في أولاد الفقراء، وفقد ذلك كله بعد الشناوي، وكان رضي الله عنه يقول ما دخلت على فقير إلا، وأنظر لنفسي دونه، وما امتحنت قط فقيراً، وكان رضي الله عنه يحكي عن الشيخ عبد الرحيم القناوي رضي الله عنه أنه رأى مرة في عنق كلب خرقة من صوف فقام له إجلالاً للخرقة الصوف، وكان رضي الله عنه أقامه الله في قضاء حوائج الناس ليلاً، ونهاراً، وربما يمكث نحو الشهر، وهو ينظر بلده، ولا يتمكن من الطلوع لها، وهو في حاجة الشخص، وكان أهل الغربية، وغيرها لا أحد يزوج، ولده، ولا يطاهره إلا بحضوره، وكان رضي الله عنه يلقن الرجال، والنساء، والأطفال، ويرتب لهم المجالس في البلاد، ويقول يا فلانة اذكري بأهل حارتك، ويا فلانة اذكري بإخوانك، فجميع مجالس الذكر التي في الغربية ترتيبه، وكان رضي الله عنه يقول: أشعلنا نار التوحيد في هذه الأقطار، فلا تنطفئ إلى يوم القيامة.

ومن مناقبه رضي الله عنه أنه أبطل الشعير الذي كان في بلاد ابن يوسف لأنه كان يموت فيه خلق كثير لأن ابن يوسف كان رجلاً عنيداً ظالماً، وكان ملتزماً بتلك البلاد وكان يستلزم بطيق السلطنة، وجميع العساكر من هذا الشعير، وكان لا يقدر أحد يتجاهى عليه وكان يأخذ الناس غصباً من جميع البلاد حتى يموتوا من العطش، فتعرض له سيدي الشيخ محمد الشناوي شفقة على الفقراء، والمساكين فكان يجمع تلامذته، وأصحابه، ويقعد يملخ في الشعير، ويقول اعتق الفقراء لئلا يموتوا، فتحمل منه ابن يوسف في الباطن، وظن أنه يبطل عادته من البلاد، فأتى إليه بطعام فيه سم فقدمه للشيخ، وجماعته فلما جلسوا يأكلون صار دوداً ببركة الشيخ، فتغيظ منه الشيخ، وقال: لا بد أن أبطل هذا الشعير ببركة الله تعالى لئلا تهلك الخلق، فكان محبو الشيخ يتفقدونه بالماء والطعام، وهو يقطع في الشعير فكان حمادة الذي بمحلة ديبة لم يقطع الطعام عن الشيخ، وهو ملازم للإرسال له في كل يوم فدعا له الشيخ بالبركة في المال، والولد فهو إلى الآن في بركة دعاء الشيخ هو وأولاده، وعزم الشيخ على السفر لبلد السلطان ابن عثمان بسبب ذلك، فرآه السلطان سليمان في داره ليلاً وهو راكب حمارته السوداء، وقال له أبطل الشعير الذي ببلاد مصر في درك ابن يوسف، فقال: للوزراء ذلك عند الصباح.

فكاتبوا نائب مصر قاسم كزك، فأرسل لهم إن الخبر صحيح والذي رآه السلطان هو الشيخ محمد الشناوي، فأرسل السلطان بإبطال الشعير، فهو إلى الآن بطال ببركة الشيخ رحمه الله، وكانت بهائمه، وحبوبه على اسم المحاويج لا يختص منها بشيء، وكان لا يقبل هدايا العمال ولا المباشرين، ولا أرباب الدولة، وأهدى له نائب مصر قاسم كزك أصوافاً، وشاشات، وبعض مال فرده عليه، وقال: للقاصد الفقراء غير محتاجين إلى هذا وعزة ربي عندي جلة البهائم خير من هديتك، وقال: للقاصد لا تعد تأتينا بشيء، وكان رضي الله عنه لم يزد في مقاعده جبائر القطن ملفوفة من كثرة الركوب في حوائج الناس، وما رأيت في الفقراء أوسع خلقاً منه، وكان يقول: الطريق كلها أخلاق، وكان إذا جلس إليه أبعد الناس عنه لا يقوم من مجلسه حتى يعتقد أنه أعز أصحابه أو أقاربه من حسن إقباله عليه، وطلع مرة لابنة الخليفة قصرها، فلقنها الذكر، ولقن جواربها ووقعت عصائبهن من كثرة الاضطراب في الذكر.

فلما نزل قال: الحمد لله الذي ما كان هناك أحد من المنكرين على هذه الطائفة، وكان كثر تربيته بالنظر ينظر إلى قاطع الطريق، وهو مار عليه فيتبعه في الحال لا يستطيع رد نفسه عن الشيخ، ورأيت منهم جماعة صاروا من أعيان جماعته، وكان رضي الله عنه إذا افتتح المجلس بعد العشاء لا يختمه في الغالب إلا الفجر، فإذا صلى الفجر افتتح إلى ضحوة النهار، وأخبرني الشيخ محمد السنجيدي قال: كنا إذا زرنا الشيخ محمداً في ابتداء أمره في ناحية الحصة لا نرجع إلا ضعافاً من كثرة السهر لأننا كنا نمكث عنده اليومين، والثلاثة، والأربعة لا يمكننا النوم بحضرته لا ليلاً، ولا نهاراً فإن قراءة القرآن عنده دائماً، فإذ فرغ من القرآن افتتح الذكر فإذا فرغ من الذكر افتتح القرآن، وهذا كان دأبه إلى أن مات رحمه الله.

وكان عنده جماعة سيدي أحمد البدوي رضي الله عنه بمكان، وسمعته مرة يحدثه إلى القبر، وسيدي أحمد يجيبه، وهو الذي أبطل البدع التي كانت الناس تطلع بها في مولد سيدي أحمد البدوي رضي الله عنه من يهب له أمتعة الناس، وكل أموالهم بغير طيبة نفس، وتعلموا أنه حرام، وكانوا قبله يرون أن جميع ما يأخذونه من بلاد الغربية حلال ويقولون هذه بلاد سيدي أحمد، ونحن من فقرائه، وكان يطلعون بالدف، والمزمار، فأبطل ذلك وجعل عوضه مجلس الذكر، فيفتح الذكر من نواحي قحافة، ويجمع معه خلائق كثيراً يذكرون إلى أن يدخلوا مقام سيدي أحمد، ويحصل للناس بسط عظيم برؤيته، وخشوع، وبكاء ورقة، ومناقبه كثيرة مشهورة بين الناس، وأذن بتلقين الذكر لجماعة قبل، وفاته رضي الله عنه، وأنشد:

أهيم بليلي ما حييت، وإن أمت ... أو كل بليلي من يهيم بها بعدي

فمن الجماعة الشيخ شهاب الدين السبكي رضي الله عنه، ومنهم الشيخ عبد الرحيم المناوي، ومنهم الشيخ أبو العباس الحريثي رضي الله عنه ثم الفقير رحمه الله، وقال: وقد صار معكم الإذن إذا فتح الله عليكم، وأما الآن فتلقوا كلمة لا إله إلا الله تشبيهاً وتبركاً بطريق القوم، وكان ذلك في ربيع الأول سنة اثنتين، وثلاثين وتسعمائة، ودفن بزاويته بمحلة روح، وقبره بها ظاهر يزار معمور بالفقراء، والمجاورين بواسطة ولده الشيخ عبد القدوس، فسح الله في مدته للمسلمين، ولما ودعته بزاوية سيدي محمد بن أبي الحمائل رضي الله عنه قال: ليس هذا آخر الاجتماع لا بد من اجتماعنا مرة أخرى، ولما حضرته الوفاة ما علمت بذلك إلا من وارد ورد علي قال: اذهب إلى محلة روح، فلم أستطع أرد نفسي عن ذلك الخاطر حتى سافرت إليه تصديقاً لقوله لا بد من الاجتماع مرة أخرى، فدخلت عليه فوجدته محتضراً ففتح عينيه، وقال: أسأل الله أن لا يخليك من نظره، ولا من رعايته طرفة عين، وأن يسترك بين يديه ثم توفي تلك الليلة، ودفن في غفلة من الناس، واقتتل الناس على النعش، وذهلت عقولهم من عظم المصيبة بهم فإنه كان معداً لتفريج كربهم ساعياً في إرشادهم لخير دنياهم، وخير أخراهم، رضي الله عنه ورحمه.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!