
لواقح الأنوار القدسية في مناقب الأخيار والصوفية
وهو كتاب الطبقات الكبرى
تأليف الشيخ عبد الوهاب الشعراني
![]() |
![]() |
ومنهم أخي وصاحبي سيدي الشيخ أبو الفضل الأحمدي رضي الله تعالى
صاحب الكشوفات الربانية، والاتفاقات السماوية، والمواهب اللدنية سمعت الهواتف تفول في الأسحار ما صحبت مثل الشيخ أبي الفضل، ولا تصحب مثله، كان رحمه الله تعالى أكابر أولياء الله، وما رأيت أعرف منه بطريق الله عز وجل، ولا بأحوال الدنيا، والآخر له نفوذ البصر في كل شيء لو أخذ يتكلم في أفراد الوجود لضاقت الدفاتر. صحبته رضي الله عنه نحو خمس عشرة سنة، ووقع بيني وبينه اتحاد لم يقع لي قط مع غيره، وهو أنه كان يرد على الكلام من الحكمة في الليل فأكتبه فإذا جاء عرضته عليه فيخرج لي ورقة من عمامته، ويقول وأنا الآخر، وقع لي ذلك فنف بل الكلام على الآخر فلا يزيد أحدهما على الآخر حرفاً، وربما يقول بعض الناس إن أحدنا كتب ذلك من الآخر، وكان رضي الله يحرك تطور الأعمال الليلية، والنهارية، ويرى معارجها، وهذا أمر ما رأيته لأحد قط الأشياخ الذين كتبت مناقبهم في هذه الطبقات، وقد سألني مرة الأمير محيي الدين بن أصبغ أسبغ الله عليه نعم الدارين أن أدعو له بالخلاص من سجن السلطان فسألتا لله تعالى في الأسحار فجاءني سيدي الشيخ أبو الفضل، وقال لي ضحكت الليلة عليك في دعائك لابن أبي أصبغ بالخلاص من السجن، وقد بقي له من المدة خمسة شهور، وسبعة أيام كنت شاطر مصر لم تقدر على إخراجه حتى تنقضي هذه المدة. قال ورأيت دعاءك، وهو يصعد إلى السماء نحو قامة، ويرجع إليك وربما كان يأتيني فيخبرني بجميع ما وقع لي في الليل، وكان من شأنه تحمل هموم الناس حتى صار ليس عليه أوقية لحم، وكان رضي الله عنه يقول لي منذ سنين، وأنا أحس بلحمي كأنه في صحن نحاس على النار يطشطش، وكان من شأنه التقشف في المكل، والملبس، وخدمته جميع إخوانه، وكنا إذا خرجنا لمثل أهرام الجيزة أو غيرها من التنزهات يحمل نعال الجماعة كلهم في خرج على عنقه، ومن أبي أقسم عليه بالله تعالى حتى يمكنه من حمل نعله، وشكوت له مرة مرضاً نزل بي فقال: والله العظيم لي منذ عشر سنين، وأنا أحس أنني في صحن نحاس على النار من غير ماء يطشطش فيه فحط مرضك بجنب هذا تجده، ولاش.
وكان رضي الله عنه لا ينام من الليل إلا نحو عشر درج صيفاً، وشتاء، وكان رضي الله عنه من أعظم الناس تعظيماً للمساجد لم يتجرأ قط أن يدخل مسجداً إلا تبعا لغيره فكان يمكث واقفاً على باب المسجد حتى إذا دخل أحد دخل في ذراه، ويقول: مثلنا لا ينبغي له أن يدخل المساجد إلا تبعاً لعامة المسلمين لعجزنا عن القيام بآدابها، ورأيت مرة في ثوبه أثراً فقلت له دعني أغسله لك فقال: أنت ما تعرف حالي، والله إني لأستحي من لبس الثوب النظيف على ذاتي هذه القذرة، وكان رضي الله عنه يقول أعطاني الله تعالى أن لا أنظر قط إلى شيء من الحبوب نظرة واحدة، ويسوس أو يتلف أبداً، وجربنا ذلك في مخزن القمح الذي كان يسوس عندنا.
وكان رضي الله عنه يعرف أصحاب النوبة في سائر أقطار الأرض، ويعرف من تولى ذلك اليوم منهم، ومن عزل، وكان لونه أصفر نحيفاً لا تكاد تجد عليه أوقية لحم. وحج رضي الله عنه مرات على التجريد فلما كان آخر حجة كان ضعيفاً فقلت له في هذه الحالة تسافر فقال لترابي فإن نطفتي مرغوها في تربة الشهداء ببدر فكان كما قال فمرض مرضاً شديداً قبل بدر بيومين ثم توفي، ودفن ببدر كما قال، وذلك في سنة اثنتين و أربعين وتسعمائة فلما حججت سنة سبع، وأربعين مضيت إلى قبره فقلت له أقسم عليك بالله إلا ما نطقت لي من القبر، وعرفتني بقبرك فناداني تعال فإني ها هنا فعرفت قبره بتعريفه لي رضي الله عنه، ومدحت له مرة بعض الفقراء فقال أجمعني عليه فدخلنا فوجدناه في الخلوة فقال له سيدي أفضل الدين رحمه الله تعالى يا هو بهمة فتخبط ذلك الفقير من صياحه عليه حتى كاد يذهل فقال سيدي أفضل الدين رضي الله عنه وعزة ربي لولا الشفقة عليه لشققت قلبه بالصوت ثم قال لي هذا يكل مهما وجد لا يتورع فهذا الذي تركه يتخبط كما قال الله تعالى: " الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس " " البقرة: 275 " ، فذاكره مذاكرة في حقائق اليقين ودقق عليه الكلام حتى قال له ذلك الفقير تنزل لنا في العبارة، والمقام ثم رأى عنده رجلاً مختلياً وصوته ضعيف في الذكر فقال له أخرج هذا الفقير، وأطعمه وإلا مات، ودخل النار فقال الفقير هذا من شرط الخلوة فقال له سيدي أفضل الدين رضي الله عنه: وماذا يطلب بالخلوة هذه فإن العبد إذا كان ولياً لله فلا يحتاج إلى هذا العلاج وإن كان غير ولي لله فلا يصير ولياً بالعلاج وشجرة السنط لا تكون تفاحاً بالعلاج فأخذ سيدي أبو الفضل رغيفاً. وقال اسمع مني واخرج، وما وعدك الله به يحصل إن شاء الله تعالى فلم يخرج فقال الله يبتليك بالموت فمات بعد يوم وليلة، وكان رضي الله عنه يقول بواطن هذه الخلائق كالبلور الصافي أرى ما في بواطنهم كما أرى ما ظواهرهم، وكان إذا انحرف من إنسان يذوب ذلك الإنسان، ولا يفلح في شيء من أمر الدنيا ولا من أمر الآخرة، وكان رضي الله عنه يعرف من أنف الإنسان جميع ما يفعله في داره ويقول هذا ما هو باختياري، وسألت الله تعالى الحجاب فلم يحجبني؛ والله تعالى في ذلك حكم، وأسرار وكان له كلام عال في الطريق، والمقامات، وأحوال الكمل، وكان يقول من وراثي إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام. ومن كلامه رضي الله عنه: اعلم يا أخي المراد من الإيجاد الإلهي الإنسان، والتكوين الطبيعي الناري ليس إلا معرفه الربوب وأوصافها، والعبودية، وأخلاقها فأما أوصاف الربوبية فكيفيك يا أخي منها ما وصل إليك علمه إلهاماً، وتقليداً بواسطة رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير تشبيه، ولا تعطيل، وأما أخلاق العبودبة فهي مقابلة الأوصاف الربوبية على السواء فكل صفة استحقتها الألوهية طلبت العبودية حقها من مقابلة ذلك الوصف، ومن هذا المقام كان استغفاره صلى الله عليه وسلم فكل عن مقامه يتكلم، وعما وصف به يترجم، وسمعته رضي الله عنه يقول من نظر إلى ثواب في أعماله عاجلاً أو آجلاً فقد خرج عن أوصاف العبودية التي لا ثواب لها إلا وجه الله تعالى.
وكان يقول عليك بحسن الظن في شأن ولاة أمور المسلمين، وإن جاروا فإن الله لا يسأل أحداً قط في الآخرة لم حسنت ظنك بالعباد، وكان يقول لا تسب أحداً من خلق تعالى على التعيين بسبب معصية، وإن عظمت فإنك لا تدري بم يختم لك، وله ولا تسبب من أحد إذا سببت إلا فعله لا عينه فإن عينك، وعينه واحد فلا تسب إلا الفعل الرديء المذموم لقوله صلى الله عليه وسلم في الثوم " إنها شجرة أكره ريحها " ، فلم، يقل أكرهها وإنما أكره ريحها الذي هو بعض صفاتها، وكان رضي الله عنه يقول لا يخلو المنقص لأعراض الناس عن ثلاثة أحوال إما أن يرى نفسه أفضل منهم فهو حينئذ أسوأ حالاً منهم كما وقع لإبليس مع آدم عليه السلام، وإما أن يرى نفسه مثلهم فما أنكر إلا على حال نفسه حقيقة، وإما أن يرى نفسه دونهم فلا يليق به تنقيص من هو خير منه. سمعته مرة يقول هؤلاء المنقصون لأعراضنا فلاحون لنا يزنون لنا الخراج فقلت له كيف؟ فقال لأنهم ينقلون في صحائفنا جميع أعمالهم الصالحة الخالصة، وثم ذنوب لا يكفرها إلا كلام الناس في عرض الإنسان، وكان رضي الله عنه يقول عليكم بحسن الاعتقاد فإنه ربط القلب مع الله تعالى بواسطة المعتقد فيه، ولو كان غير أهل لذلك فإنكم لم تربطوا قلبكم إلا مع الله تعالى لا مع الواسطة، والله يستحي من طلب عبده له أن يفقده عندما طلبه، وكان رضي الله عنه يقول كونوا عبيد الله لا عبيد أنفسكم، ولا عبيد ديناركم، ودرهمكم فإن كل ما تعلق به خاطركم من محمود أو مذمم أخذ من عبوديتكم بقدر حبكم له، وأنتم له تخلقوا للسكون، ولا لأنفسكم بل خلقكم له فلا تهربوا منه فإنكم حرام على أنفسكم فكيف لا تحرموا على غيركم، وكان رضي الله عنه يقول كفوا غضبكم عمن يسيء إليكم لأنه مسلط عليكم بإرادة ربكم، وكان يقول افعلوا كل ما أمركم به الشرع إن استطعتم، ولكن من حيث مشروعيته والأمر به لا من حيث علة أخرى، واتركوا العلل كلها في جميع أحوالكم، وأعمالكم، واقطعوا الكل بقوله: " يمحو الله ما يشاء ويثبت " ، " الرعد: 39، " وكان رضي الله عنه يقول لا تقطعوا بما علمتموه من الكتاب، والسنة ولو كان حقاً في نفسه، وكان يقول لا تركن إلى شيء، ولا تأمن نفسك في شيء، ولا تأمن مكر الله لشيء، ولا تختر لنفسك حالة تكون عليها فإنك لا تدري أتصل إلى ما اخترته أم لا ثم إن وصلت إليه فلا تعلم ألك فيه خير أم لا، وإن لم تصل إليه فاشكر الذي منعك فإنه لم يمنعك عن بخل، وكان رضي الله عنه يقول إذا خيرك الحق تعالى في شيء فاختر عدم الاختيار، ولا تقف مع شيء، ولا تر لنفسك شيئاً، ولا تحزن على شيء خرج عنك فإنه لو كان لك ما خرج عنك ولا تفرح قط بما حصل لك من أمور الدنيا، والآخرة دون الله تعالى فإن ما سوى الله عدم. وكان رضي الله عنه يقول إذا نقل إليكم أحد كلاماً في عرضكم من أحد فازجروه، ولو كان من أعز إخوانكم في العادة، وقولوا له إن كنت تعتقد هذا الأمر فينا فأنت، ومن نقلت عنه سواء بل أنت أسوأ حالاً لأنه لم يسمعنا ذلك، وأنت أسمعته لنا، وإن كنت تعتقد أن ذلك لأمر باطل في حقنا وبعيد منا أن نقع في مثله فما فائدة نقله لنا. وسمعته رضي الله عنه يقول لا تتكلموا قط مع من فتى في التوحيد فإنه مغلوب وكلوه لمشيئة الله تعالى، ولا تشتغلوا بإكثار من مطالعة كتب التوحيد فإنها توقفكم عما أنتم مخلوقون له فكل تكلم بحسب علمه، وذوقه، وكان رضي الله عنه يقول عليكم بحفظ لسانكم مع أهل الشرع فإنهم بوابون لحضرة الأسماء، والصفات، وعليكم بحفظ قلوبكم من الإنكار على أحد من الأولياء فإنهم بوابون لحضرة الذات، وإياكم، والانتقاد على عقائد الأولياء بما علمتموه من أقوال المتكلمين فإن عقائد الأولياء مطلقة متجردة في كل آن على حسب الشئون الإلهية، وكان رضي الله عنه يقول لا تقربوا من الأولياء إلا بالأدب، ولو باسطوكم فان قلوبهم مملوكة، ونفوسهم مفقودة، وعقولهم غير معقولة فيمقتون على أقل من القليل، وينفذ الله مرادهم فيكم، وكان رضي الله عنه يقول إذا صحبتم كاملاً فلا تؤولوا له كلاماً إلى غير مفهومه الظاهر فإن الكمل لا يسترون لهم كلاماً، ولا حالاً إذ التدبير من بقايا تدبير النفس، وحفظها، وكان رضي الله عنه يقول اسألوا الله العفو، والعافية وألحوا عليه، ولو كان أحدكم صبوراً، وكان رضي الله عنه يقول الحقيقة، والشريعة كفتا الميزان
وأنت قلبها فكل كفة حصل منك ميل إليها كنت لها.ت قلبها فكل كفة حصل منك ميل إليها كنت لها.
وكان رضي الله عنه يقول عليكم بتنظيف باطنكم من الحرص، والغل، والحقد ونحو ذلك فإن الملك لا يرضى أن يسكن بجواركم، وأنتم على هذا الحال فكيف يسكن الله تعالى قلوبكم يا داود طهر لي بيتاً أسكنه. وكان رضي الله عنه يقول عليكم بإخراج كل علقت به نفوسكم ولم تسمح بإظهاره من علم أو حال أو غيرهما، ولا تتركوا النصح لإخوانكم، ولو ذموكم لأجل ذلك، وكان رضي الله عنه يقول عليكم بإصلاح الطعمة استطعتم فإنها أساسكم الذي يتم لكم به بناء دينكم، وجميع أعمالكم الصالحة فإن كنتم متجردين عن الأسباب فاقبلوا كل ما أرسله الحق تعالى إليكم من غير سؤال ما عدا الذهب والفضة، والثياب الفاخرة فإذا بلغ أحدكم مبلغ الرجال عرف كل لقمة من أين جاءت وعرف من يستحق أكلها كالبناء يعرف مكان كل طوبة يضعها، وكان رضي الله عنه يقول إذا غضب شيخك على أحد فعليك أن تجتنبه فإن علمت أن غضب شيخك لغير الله فأمسك عن الاجتناب كأحوال المشايخ القاصرين الآن.
وكان رضي الله عنه يقول إذا فاجأك في حال الذكر شيء من حال أو غيره فلا تدفعه عن نفسك، ولا تستجلب ذلك بجميع باطنك، وتفعلك فإن ذلك سوء أدب، وكان رضي الله عنه يقول لا تأنفوا من التعلم ممن خصه الله تعالى من فضله كائناً من كان لا سيما أهل الحرف النافعة فإن عندهم من الأدب ما لا يوجد عند خصوص الناس، وكان يقول إياكم أن تظهر، والكم حالاً أو وصفاً دون أن يتولى الله ذلك من غير اختياركم، وكان رضي الله عنه يقول احذروا من قربه تعالى لكم أن يفتنكم بالقرب مع أنه لا خصوصية، لكم فيه، وإذا علم أحدكم ما هو عليه من القرب فهو بعيد من القرب فإن حقيقة القرب الغيبية بالقرب عن القرب حتى لا تشهد حالك في القرب إلا بعد، ولا في العلم إلا جهلاً ولا في التواضع إلا كبر فإن شهود القرب يمنع العلم بالقرب " ونحن أقرب إليه منكم، ولكم لا تبصرون " وكان رضي الله عنه يقول: احذروا من الاغترار بصحبته لكم أن يستدرجكم بحبكم له فيشغلكم بكم عنه وإذا كشف لكم عن حقائقكم حسبتم أنكم هو، ومن هنا يفع الاستدراج، ولا خلاص لكم إلا إن شهدتموه به تعالى لا بكم. وسئل رضي الله عنه مرة عن قوله تعالى: " ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار " " هود: 113 " الآية هل يدخل في ذلك الركون إلى النفس فقال رضي الله عنه نعم، ثم قال رضي الله عنه: وإيضاح ذلك أن هذه الآية أيضاً متضمنة لعدم اختيار العباد مع ربهم، ومتضمنة أيضاً لمعرفة أقرب الطرق إلى الحق وهو أصل جامع لجميع الطرق الظاهرة، والباطنة فإن في باطنها الحث على الآمر بالتخلق بالمقام الإبراهيمي الذي نحن مكلفون باتباعه، وذلك أن الأركان صفة من صفات النفس والظلم أيضاً من صفاتها، وهي موصوفة بالظلم والأركان في نفسها لاعتمادها على نفسها ودعواها بأنها أفضل وأعلم من غيرها، ولو لم تعلم هي ذلك من نفسها، ولولا أنها موصوفة بالظلم ما ظهر عنها قط فعل ولا أمر قبيح، وهذا أيضاً أقوى دليل على جهلها بمعرفة نفسها، وربما حيث لم تسند إلى ربها جميع أفعالها وأقوالها، وحركاتها، وسكناتها الظاهرة والباطنة، ومعلوم أن الظالم نفسه إنما هو معذب في هذه الدار بنار نفسه، وشهواته لا بالنار المحسوسة التي تقع له في الدار الآخرة. وانظر يا أخي إلى إبراهيم عليه السلام وعلى نبينا أفضل الصلاة، والسلام لما لم تؤثر فيه نار الشهوة لم تؤثر فيه نار الحس بل، وجدها برداً لأجل صفة البرد الذي في باطنه عليه الصلاة، والسلام من حر التدبير المفضي إلى الشرك الأكبر المشار إليه بقول لقمان لابنه " إن الشرك لظلم عظيم " فعلم أن الظالم لحق ربه معذب بنار البعد عنه، ومتقرب إلى هواه الذي جعله معبوده، ووجهته قال تعالى: " أفرءيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم " " الجاثية: 23 " وإنما وصفه هنا بالعلم لأنه لم يتخذ له إلهاً خارجاً عنه بعيداً منه، والإله من شأنه القرب، وما ثم أقرب إلى الإنسان من نفسه لنفسه لأن هواه المعبود عالم بما يظهر في سره، ونجراه بخلاف الإله المجعول في الظاهر فإنه غير عالم بمصالح تلك النفس، وأحوالها لبعده، وعدم علمه، ومن هنا قالوا ألطف الأوثان الهوى، وكثفها الحجارة، وأيضاً فإن النفس العابدة لهواها هي المعبودة لهذا فإن صفاتها عابدة لذاتها، ولذلك وقع علينا التوبيخ الإلهي في قوله تعالى: " وفى أنفسكم أفلا تبصرون " " الذاريات: 21 " ، وفي حديث من " عرف نفسه عرف ربه " فإن المعرفة هنا تكررت وهي لم تقبل تكراراً، والنفس، والرب قبلا التكرار فاعلم ما تحته تصب التحقيق إن شاء الله تعالى، وصلى الله وسلم على معلم الخير، ومظهر التوحيد. وكان رضي الله عنه يقول ثم ثلاث مرات لثلاث رجال زاحم عليها متصوفة زمامنا بغير حق وهي تلقين الذكر للمريدين، سهم وإلباسهم الخرقة وإخاؤهم لهم العذبة، فأما تلقين الذكر فشرطه عندي أن يعطيه الله تعالى من القوة، والتمكين وكمال الحال ما يمنح المريد عند قوله قال لا إله إلا الله جميع علوم الشرائع المنزلة إذ هي كلها أحكام لا إله إلا الله فلا يحتاج بعد ذلك المجلس إلى تعليم شيء من الشرائع كما وقع لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه حتى كان يقول عندي من العلم الذي أسره إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس عند جبريل ولا ميكائيل فيقول له ابن عباس كيف؟ فيقول إن جبريل عليه السلام تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة
الإسراء، وقال: " وما منا إلا له مقام معلوم " فلا يدري ما وقع لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك. هذا هو التلقين الحقيقي، ولا يكون إلا لمن اتحد بشيخه حتى صار كأنه هو.لإسراء، وقال: " وما منا إلا له مقام معلوم " فلا يدري ما وقع لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك. هذا هو التلقين الحقيقي، ولا يكون إلا لمن اتحد بشيخه حتى صار كأنه هو.
وأما إلباس الخرقة فشرطه عندي أيضاً أن يعطي الله ذلك الشيخ من القوة ما ينزع به عن المريد حال قوله له اخلع قميصك أو قلنسوتك مثلا جميع الأخلاق المذمومة فيتعطل عن استعمال شيء منها إلى أن يموت ذلك المريد ثم يخلع على المريد مع إلباسه تلك الخرقة جميع الأخلاق المحمودة التي هي غاية درجة المريد في علم الله عز وجل فلا يحتاج ذلك المريد بعد إلباس شيخه له الخرقة إلى علاج خلق من الأخلاق فمن لم يعطه الله تعالى ذلك ففعله كالاستهزاء بطريق العارفين، ولبسها على هذا الشرط سيدي الشيخ محيي الدين بن العربي رضي الله تعالى عنه من الخضر عليه السلام عند الحجر الأسود وأخذ عليه العهد بالتسليم لمقامات الشيوخ؛ وأما إرخاء العذبة فشرطه عندي أيضاً أن يقدر الله ذلك الشيخ على أن يخلع على المريد حال إرخائها له سر النمو، والزيادة لكل شيء مسه ذلك المريد أو نظر إليه لتكون تلك الزيادة المرخاة من العمامة علامة، وإشارة إلى التحقيق لتلك المرتبة من باب التحدث بالنعم. ولما أرخاها معروف الكرخي رضي الله عنه للسري السقطي رضي الله عنه سقف بيتاً له فقصر خشبة عن الوصول إلى الجدار الآخر فمطها فطالت، ومن قال من متصوفة هذا الزمان ليس ما قلته في هذه الثلاثة الأمور شرطاً لكونه هو عارياً عن تلك الشروط فقد أساء الظن، وكذب بكرامات السلف الصالح فلا حول، ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وكان رضي الله عنه يقول في قوله تعالى: " ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده " " الأنعام: 2 " الأجل الأول هو أجل الجسم بموته في الحياة الدنيا والأجل المسمى عنده هو أجل الروحانية التي خلقت قبل الأجسام بألفي عام فإنها مستمرة الحياة إلى الصعق الأخروي حين تصعق الأرواح فتخمد، وذلك أعني خمودها هو حظها من الموت، والفناء اللازم لصفة الحدث فلا تبقى روح على وجه الأرض، ولا في البرزخ إلا ماتت يعني خمدت فقل له فهل للطائفة الذين لا يصعقون عند النفخة أجل مسمي كذلك يخصهم؟ فقال ذهب قوم إلى أنهم لا يصعقون أبداً لأن الله تعالى أنشأهم على حقائق لا تقبل الموت. والذي تذهب إليه أنهم يموتون لكنهم اشتغلوا بحضرة الشهود عن سماع النفخة فلم يدركهم حس النفخة فلم يصعقوا إذ ذاك ثم إنهم يموتون بعد ذلك بأمر الله تحقيقاً لوعده وتمييزاً لصفة القدم عن الحدوث قال، وعليه يحمل قوله تعالى: " لمن الملك اليوم " " غافر: 16 " فلا يجيبه أحد وعلى ما ذهب إليه غيرنا يخصص عدم الإجابة بمن صعق يعني فلا يجيبه أحد ممن صعق ويكون الاستثناء منقطعاً، وما ذهبنا إليه أولي فقل له فما المراد بالصور الذي ينفخ فيه.
فقال المراد به الحضرة البرزخية التي ننقل إليها بعد الموت ونشهد نفوسنا فيها، وهو المسمى أيضاً بالناقور، وإنما اختلف عليه الأسماء لاختلاف الصفات فصارت أسماؤه كهو فجميع أرواح الأجسام الطبيعية، والعنصرية التي قبضها الله تعالى مودعة في صورة جسدية في مجموع الصور المكنى عنه بالقرن، وجميع ما يدركه الإنسان بعد الموت في البرزخ من الأمور إنما يدركه بعين الصورة التي هو فيها في القرن، وكان رضي الله عنه يقول: كل رؤيا فهي صادقة، وإذا أخطأت الرؤية فالمراد أن من عبرها هو المخطئ حيث لم يعرف ما المراد بتلك الصورة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم للرجل الذي رأى في منامه كأنه ضربت عنقه إن الشيطان لعب بك، وما قال له خيالك فاسد فالخيال كله صحيح عند المحقق والسلام، وكان رضي الله عنه يقول من صفي جوهرة نفسه علم أن الحياة إما هي لعين الجوهر وعلم أن الموت إنما هو لتبدل الصور، وحينئذ يشهد موته كلا موت. فالشهيد المقتول في سبيل الله ينقله الله تعالى إلى البرزخ لا عن موت فهو مقتول لا ميت.
ومن هنا قالوا العارفون لا يموتون وإنما ينقلون من دار إلى دار لأنهم أماتوا نفوسهم في دار الدنيا بالمجاهدة، وكان صلى الله عليه وسلم يقول: من " أراد أن ينظر إلى ميت يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه " وكان رضي الله عنه يقول: لا بد للموت من الموت لأنه مخلوق قال الله تعالى: " خلق الموت والحياة " " الملك: 2 " ولكن موته في الظاهر حياته في الباطن، والمتولي لقبض روحه الحياة الأبدية التي مظهرها يحيى عليه السلام كما ورد " إن الموت يمثل في صورة كبش، ويذبحه يحيى عليه السلام " بشارة لأهل الجنة بالحياة التي لا موت بعدها، وكان رضي الله عنه يقول: موازين الآخرة تدرك بحاسة البصر كموازين أهل الدنيا لكنها ممثلة غير محسوسة عكس الدنيا فهي كتمثل الأعمال سواء فإن الأعمال في الدنيا أعراض وفي الآخرة تكون أشخاصاً، وانظر إلى قوله صلى الله عليه وسلم: " يؤتى بالموت في صورة كبش " ولم يقل يؤتى به كبشاً لأن الحقائق لا تنقلب، فإذا وضعت الموازين لوزن الأعمال جعلت فيها كتب الخلائق الحاوية لجميع أعمالهم لكن أعمالهم الظاهرة دون الباطنة لأن الأعمال الباطنة لا تدخل الميزان المحسوس لكن يقام فيها العدل، وهو الميزان الحكمي المعنوي فمحسوس لمحسوس، ومعنى لمعنى يقابل كل بمثله، وآخر ما يوضع في الميزان في قول العبد الحمد لله، ولهذا ورد " والحمد لله تملأ الميزان " وإنما لم تكن لا إله إلا الله تملأ الميزان كالحمد لله لأن كل عمل خير له مقابل من ضمه هذا الخير في موازينه ولا يقابل لا إله إلا الله إلا الشرك، ولا يجتمع توحيد، وشرك في ميزان واحد بخلاف المعاصي غير الشرك إذ العاصي لم يخرج عن الإسلام بمعصيته. وإيضاح ما لناه أن الإنسان إن كان يقول لا إله إلا الله معتقداً لها فما أشرك، وإن أشرك فما اعتقد لا إله إلا الله فلما لم يصح الجمع بينهما لم تدخل لا إله إلا الله الميزان لعدم ما يعادلها في الكفة الأخرى، وإنما دخلت لا إله إلا الله ميزان صاحب السجلات التسعة والتسعين من السيئات لأن صاحب السجلات كان يقول: لا إله إلا الله معتقداً لها إلا أنه لم يعمل معها خيراً قط فكان وضع لا إله إلا الله في مقابلة التسعة والتسعين سجلا من السيئات فترجح كفة لا إله إلا الله بالجميع، وتطيش السجلات فلا يثقل مع اسم الله شيء. وكان رضي الله عنه يقول: لا نور للصراط في نفسه لأنه منصوب على ظهر جهنم وهي مظلمة، وإنما النور الذي يكون على الصراط من نور الماشين عليه قال تعالى: " يسعى نورهم بين أيديهم، وبأيمانهم " فقلت له: لم لم يقل تعالى، وبشمائلهم؟ فقال رضي الله عنه لأن المؤمن في الآخرة لا شمال له كما أن أهل النار لا يمين لهم.
وكان رضي الله عنه يقول: ثم من تشتاق إليه الجنة كما يشتاق إليها، وهم المطيعون، وثم من لا تشتاق إليه الجنة، وهم يشتاقون إليها، وهم عصاة المؤمنين، وثم من تشتاق إليه الجنة، وهو لا يشتاقها، وهم أرباب الأحوال، وثم من لا تشتاق إليه الجنة، ولا يشتاق هو إليها، وهم المكذبون بيوم الدين، والقائلون بنفي الجنة المحسوسة وكان رضي الله عنه يقول يقع التمني في الجنة لأهلها فيتنعمون بذلك أشد التنعم، وذلك لأنه تمن محقق لوجود ما يتمناه حال التمني فلا يتوهم أحد من أهل الجنة نعيماً فوق نعيمه أو يتمناه إلا حصل له بحسب ما توهمه إن توهمه معنى كان معنى، وإن توهمه حساً كان حساً.
وسئل رحمه الله تعالى عن المراد بقوله تعالى في فاكهة الجنة: " لا مقطوعة ولا ممنوعة "
" الواقعة: 33 " هل المراد لا مقطوعة صيفاً، ولا شتاء أو أنها لا تقطع حين تقطف؟ فقال رضي الله عنه جميع فاكهة الجنة تؤكل من غير قطع؟ فمعنى لا مقطوعة أنها لا تقطع حال القطع بل يقطف الإنسان، ويأكل من غير قطع، فالأكل موجود، والعين باقية في غصن الشجرة هذا أعطاه الكشف فعين ما يأكله هو عين ما يشهده في غصن الشجرة، والله أعلم. وكان رضي الله عنه يقول الذي عليه المحققون أن أجسام أهل الجنة تنطوي في أرواحهم فتكون الأرواح ظروفاً للأجسام بعكس ما كانت في الدنيا فيكون الظهور، والحكم في الدار الآخرة للروح لا للجسم، ولهذا يتحولون في أي صورة شاءوا كما هم اليوم عندنا الملائكة، وعالم الأرواح، وكان رضي الله عنه يقول: يتناسل أهل الجنة فيها إذا شاءوا فيجامع الرجل زوجته الآدمية أو الحوراء فيوجد الله تعالى عند كل دفعة ولذا وذلك لأن الله تعالى جعل النوع الإنساني غير متناهي الأشخاص دنيا، وأخرى لشرفه عنده، وكان رضي الله عنه يقول ليس لأهل الجنة دبر مطلقاً لا الرجل، ولا المرأة لأن الله تعالى إنما جعل الدبر في دار الدنيا مخرجاً للغائط، ولا غائط هناك، وإنما يخرج الأكل، والشرب رشحاً من أبدانهم، ولولا أن ذكر الرجل، وقبل المرأة محتاج إليهما في جماع أهل الجنة ما كان وجدا في الجنة لعدم البول هناك، وكان رضي الله عنه يقول لذة جماع أهل الجنة تكون من خروج الريح لا من خروج المني إذ لا مني هناك فيخرج من كل الزوجين ريح مثيرة كرائحة المسك فتلقى في الرحم فتتكون من حينه فيها ولداً وتكمل نشأته ما بين الدفعتين.
فيخرج ولد مصور مع النفس الخارج من المرأة، ويشاهد الأبوان كل من ولدا لهما من ذلك النكاح في كل دفعة ثم يذهب ذلك الولد فلا يعود إليهما أبداً كالملائكة المتطورين من أنفاس بني آدم في دار الدنيا، وكالملائكة الذين يدخلون البيت المعمور ثم إن هؤلاء الأولاد ليس لهم حفظ في النعيم المحسوس، ولا المعنوي إنما نعيمهم برزخي كنعيم صاحب الرؤيا، وكان رضي الله عنه يقول، تتوالد الأرواح مع الأرواح في الجنة فينكح الولي من حيث روحه زوجته من حيث روحها فيتولد بينهما أولاد روحانيون بأجسام، وصور محسوسات وكان يقول شجرة طوبي في منزل الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهي حجاب مظهر نور فاطمة الزهراء رضي الله عنها فما من جنة، ولا درجة، ولا بيت، ولا مكان إلا وفيه فرع من شجرة طوبي وذلك ليكون سر نعيم كل درجة ونصيب كل ولي فيها من نورانية فاطمة في حجاب ذلك الفرع وكان رضي الله عنه يقول في قوله تعالى: " أكلها دائم " " الرعد: 35 " معناه أن الأكل لا ينقطع عنهم متى طلبوه لا أنهم يأكلون دائماً فالدوام في الأكل هو عين التنعيم بما به يكون الغذاء للجسم فإذا أكل الإنسان حتى شبع فليس ذلك بغذاء، ولا يأكل على الحقيقة، وإنما هو كالجابي الجامع للمال في خزانته والمعدة جامعة لما جمعه هذا الآكل من الأطعمة، والأشربة فإذا اختزن ذلك في معدته، ورفع يده فحينئذ تتولاه الطبيعة بالتدبير، وينتقل ذلك الطعام من حال إلى حال، ويغذيه بها في كل نفس فهو لا يزال في غذاء دائم، ولولا ذلك لبطلت الحكمة في ترتيب نشأة كل متغذ ثم إذا خلت الخزانة من الأكل حرك الطبع الجابي إلى تحصيل ما يملؤها به وهكذا على الدوام هذا معنى أكلها دائم. وسمعته يقول: الناس في رؤية ربهم عز وجل على أقسام: منهم من يراه بباصر العين فقط، ومنهم من يراه بكلها، ومنهم من يراه بجميع، وجهه، ومنهم من يراه بجميع جسده، وهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ومن ورثهم جعلنا الله تعالى منهم بمنه، وكرمه آمين.
وفي هذا القدر كفاية من كلامه رضي الله عنه، والحمد لله رب العالمين.
![]() |
![]() |